الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع إلى تفاوت العقل ، وإن كان من جهة العلم فقد سمينا هذا الضرب من العلم عقلا أيضا فإنه يقوي غريزة العقل فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه ، وقد يكون بمجرد التفاوت في غريزة العقل ، فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشد .

وأما القسم الثالث وهو علوم التجارب فتفاوت الناس فيها لا ينكر فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وسرعة الإدراك ويكون سببه إما تفاوتا في الغريزة وإما تفاوتا في الممارسة فأما الأول وهو الأصل أعني الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده فإنه مثل نور يشرق على النفس ويطلع صبحه ومبادئ إشراقه عند سن التمييز ثم لا يزال ينمو ويزداد نموا خفي التدريج ، إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة ومثاله نور الصبح فإن أوائله تخفى خفاء يشق إدراكه ثم يتدرج إلى الزيادة إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس .

وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور البصر والفرق مدرك بين الأعمش وبين حاد البصر بل سنة الله عز وجل جارية في جميع خلقه بالتدريج في الإيجاد حتى إن غريزة الشهوة لا تظهر في الصبي عند البلوغ دفعة وبغتة بل تظهر شيئا فشيئا على التدريج وكذلك جميع القوى والصفات ومن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه منخلع عن ربقة العقل ومن ظن أن عقل النبي صلى الله عليه وسلم مثل عقل آحاد السوادية وأجلاف البوادي فهو أخس في نفسه من آحاد السوادية وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفهيم إلا بعد تعب طويل من المعلم وإلى ذكي يفهم بأدنى رمز وإشارة وإلى كامل تنبعث من نفسه حقائق الأمور بدون التعليم كما قال تعالى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور ، وذلك مثل الأنبياء عليهم السلام إذ يتضح لهم في بواطنهم أمور غامضة من غير تعلم وسماع ويعبر عن ذلك بالإلهام وعن مثله عبر النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به وهذا النمط من تعريف الملائكة للأنبياء يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع الصوت بحاسة الأذن ومشاهدة الملك بحاسة البصر ، ولذلك أخبر عن هذا بالنفث في الروع

التالي السابق


(فإن كان التفاوت من جهة الشهوة) وهو القسم الأول (لم يرجع إلى تفاوت العقل، وإن كان) سبب التفاوت (من جهة العلم) المعرف بغائلة المضرة، وهو القسم الثاني، (فقد سمينا هذا الضرب من العلم عقلا فإنه يقوي غريزة العقل) ويشدها (فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه، وقد يكون بمجرد التفاوت في غريزة العقل، فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشد) وأكثر (وأما القسم الثالث وهو علوم التجارب فتفاوت الناس فيها لا ينكر فإنهم) أي أهل هذه العلوم المستفادة (يتفاوتون) تارة (بكثرة الإصابة و) تارة (بسرعة الإدراك ويكون سببه إما تفاوتا) في (أصل الغريزة وإما تفاوتا في) نفس (الممارسة) والتجربة (وأما الأول وهو الأصل) أي: أصل هذه الأقسام (أعني الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده) وإنكاره (فإنه نور يشرق على النفس ويطلع صبحه ومبادي إشراقه عند بدو سن التمييز) أي البلوغ، (ثم لا يزال ينمو ويزداد نموا خفي التدريج، إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة) هذا هو المشهور، وقد ذكر صاحب القاموس تبعا لبعض الحكماء أن ابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو ويزيد إلى أن يكمل عند البلوغ فظاهره أن إكماله يكون عند سن البلوغ وهو محل تأمل، وقد ورد في الحديث: "ما من نبي إلا نبئ بعد الأربعين"، وقول ابن الجوزي: إنه موضوع; لأن عيسى عليه السلام رفع، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، كما في حديث آخر، فاشتراط الأربعين ليس بشرط مردود لكونه مستندا إلى زعم النصارى، والصحيح أنه رفع، وهو ابن مائة وعشرين، وما ورد فيه غير ذلك، فلا يصح كذا في تذكرة المجدولي، (ومثاله نور الصبح فإن أوائله يخفى) عن الأعين (خفاء يشق إدراكه ثم يندرج إلى الزيادة) تدريجا (إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس، وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور البصر) في القلة والكثرة والزيادة والنقص، (والفرق مدرك بين الأعمش) الذي بعينه عمش، وهو سيلان الدمع في أكثر الأوقات مع ضعف البصر، (وبين الحاد البصر) السائم من العلل .

(بل سنة الله جارية في جميع خلقه بالتدريج في الإيجاد) فمن ذلك إيجاد الإنسان في المراتب السبعة المشارة إليها بقوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ، (حتى إن غريزة الشهوة لا تركب في الصبي عند البلوغ دفعة) واحدة، (وبغتة بل تظهر شيئا فشيئا على التدريج وكذا جميع القوى والصفات) ، منها قوة الغذاء وقوة الحس وقوة التخيل، وقوة النزوع، وقوة التفكر، فهذه خمس قوى ركبها الله تعالى في الإنسان وجعل المدركة خمسا الحواس والخيال والتفكر، والعقل والحفظ، وجعل الحواس خمسا ظاهرية وخمسا باطنية وجعل للبدن خمس قوى، وهي الجاذبة، والممسكة، والهاضمة، والدافعة، وباعتدالها لها تكمل الصحة، وأما الصفات فمحمودة ومذمومة، ولكل منهما أقسام، (ومن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه منخلع [ ص: 467 ] عن ربقة العقل) لم يتحل بها، (ومن ظن أن عقل النبي صلى الله عليه وسلم مثل) عقل (آحاد السوادية) وهم أهل الأرياف (أو أجلاف البوادي) الذين يلازمون البادية (فهو أخس في نفسه من آحاد السوادية) ، وأخرج أبو نعيم في الحلية من رواية الحارث بن أبي أسامة عن داود بن المحبر، حدثنا عباد بن كثير عن أبي إدريس عن وهب بن منبه، قال: قرأت أحدا وسبعين كتابا فوجدت في جميعها أن الله لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من جميع رمال الدنيا، إن محمدا صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا، (وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم) الخفية المدرك، (ولما انقسموا إلى) ثلاثة أقسام (بليد) جامد الطبع، غير فطن، (لا يفهم) ما يلقى إليه (بالتفهيم إلا بعد تعب طويل من التعليم وإلى ذكي) يتوقد ذهنه ذكاء (يفهم بأدنى رمز و) أقرب (إشارة) من غير تعب في مراجعته (وإلى كامل) مهذب (تنبعث من نفسه حقائق الأمور) وتتفجر دقائقها (دون التعليم) وفي مثله قال الله تعالى: ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، وذلك مثل الأنبياء عليهم السلام إذ تتضح لهم في باطنهم) المقدس (أمور غامضة من غير تعلم وسماع) من ملك وغيره .

وقال ابن عرفة، هذا مثل ضربه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: يكاد منظره وإن لم يتل قرآنا، وأنشد في المعنى لعبد الله بن رواحة:


لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تغنيك بالخير

(ويعبر عن ذلك بالإلهام) وهو إلقاء الشيء في الروع بطريق الفيض، ويختص بما كان من جهة الله تعالى، أو من جهة الملأ الأعلى، وقيل: هو إيقاع شيء في القلب يطمئن له الصدر يخص الله به بعض أصفيائه، (وعن مثله عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: إن روح القدس) المراد به جبريل عليه السلام، وقيل: هو الله تعالى (نفث) أي ألقى وهو مجاز من النفخ، وقيل: معناه أوحى إلى ذلك (في روعي) أي نفسي، ويعبر عن ذلك بلمة الملك أيضا، وبقية هذا الحديث أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها فأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته، هكذا أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن أبي أمامة الباهلي، ورواه ابن أبي الدنيا، والحاكم عن ابن مسعود، وقال البيهقي في المدخل إنه منقطع وسيأتي بيان الحديث حيث ذكره المصنف في الباب الأول من آداب الكسب والمعاش .

وأخرج الطبراني في الصغير والأوسط من طريق أهل البيت من رواية حسن بن الحسين بن زيد العلوي عن أبيه، عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن علي بن الحسين، عن الحسين بن علي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل عليه السلام: "يا محمد (أحبب من أحببت فإنك مفارقه) ورواية الطبراني: من شئت، بدل: من أحببت، (وعش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به) " وعند الطبراني: فإنك ملاقيه، وفيه تقديم هذه الجملة على الثانية، وفي آخره، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجز لي جبريل في الخطبة قال: ولا يروى عن علي إلا بهذا الإسناد، وقد روي هذا الحديث عن سهل بن سعد، وسياق المصنف أشبه به، إلا أن فيه تقديما وتأخيرا، وزيادة في الآخر، أخرجه الطبراني أيضا في الأوسط من رواية زافر بن سليمان، عن محمد بن عيينة، عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد، وعش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس" وراويه عن زافر تابعه محمد بن حميد الرازي وتابعه عليه إسماعيل بن توبة فيما رواه الشيرازي في الألقاب، إلا أنه قال: واجمع ما شئت فإنك تاركه، بدل: واعمل ما شئت (وهذا النمط من تعريف الملائكة للأنبياء) عليهم السلام (يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع الصوت بحاسة الأذن ومشاهدة الملك بحاسة البصر، ولذلك أخبر عن هذا بالنفث في [ ص: 468 ] الروع) وظاهره يؤذن باختصاصه بالأنبياء؛ إذ جعله من أقسام الوحي، ولكن صرح الشيخ الأكبر قدس سره بأنه يقع للأولياء أيضا وعبارته: العلوم ثلاث مراتب: علم العقل، وهو كل علم يحصل ضرورة، أو عقب نظر في دليل بشرط العثور على وجه ذلك الدليل، الثاني علم الأحوال ولا سبيل له إلا بالذوق فلا يمكن العاقل وجدانه ولا إقامة دليل على معرفته كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والوجد، والشوق فهذه علوم لا يعلمها إلا من يتصف بها ويذوقها، الثالث علم الأسرار وهو فوق طور العقل، وهو علم نفث روح القدس في الروع، ويختص به النبي والولي وهو نوعان، والعالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها، وليس أصحاب تلك العلوم كذلك اهـ .




الخدمات العلمية