الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت فمن : أمن الآفات فما الأفضل له التخلي لعبادة الله أو النكاح؟ فأقول يجمع بينهما لأن النكاح ليس مانعا من التخلي لعبادة الله من حيث إنه عقد ، ولكن من حيث الحاجة إلى الكسب فإن قدر على الكسب الحلال فالنكاح أيضا أفضل ؛ لأن الليل وسائر أوقات النهار يمكن التخلي فيه للعبادة والمواظبة على العبادة من غير استراحة غير ممكن فإن فرض كونه مستغرقا بالكسب حتى لا يبقى له وقت سوى أوقات المكتوبة والنوم والأكل وقضاء الحاجة فإن كان الرجل ممن لا يسلك سبيل الآخرة إلا بالصلاة النافلة أو الحج وما يجري مجراه من الأعمال البدنية ، فالنكاح له أفضل لأن في كسب الحلال والقيام بالأهل والسعي في تحصيل الولد والصبر على أخلاق النساء أنواعا من العبادات لا يقصر فضلها عن نوافل العبادات وإن كان عبادته بالعلم والفكر وسير الباطن والكسب يشوش عليه ذلك فترك النكاح أفضل .

التالي السابق


(فإن قلت: فإن أمن الآفات) المذكورة وكان قادرا على المؤن، (فالأفضل له التخلي لعبادة الله أو النكاح فأقول) في الجواب (يجمع بينهما) أي: بين التخلي والنكاح وهذا خلاف ما تقدم في أول هذا الكتاب عن النووي أن القادر غير التائق إن تخلى للعبادة فهو أفضل، وإلا فالنكاح أفضل له من تركه . اهـ .

وقد علل المصنف للجميع فقال: (لأن النكاح ليس مانعا من التخلي لعبادة الله من حيث إنه عقد، ولكن من حيث الحاجة إلى الكسب) ، فإن المشغول بالكسب ربما تستغرق أوقاته في تحصيل ما يؤمله فيمنعه من التخلي لا محالة، (فإن قدر على الكسب الحلال فالنكاح أيضا أفضل له؛ لأن الليل) بتمامه (وسائر أوقات النهار) أي: باقيها مما سلمت له من الأشغال (يبقى التخلي فيه للعبادة) بأنواعها من صلاة وقراءة وذكر وتفكر ومراقبة، (والمواظبة على العبادة من غير استراحة) النفس (غير ممكن) لما جبلت النفوس على الملل، (فإن فرض كونه مستغرق الأوقات بالكسب) تمام النهار والليل (حتى لا يبقى له وقت سوى أوقات المكتوبة) أي: الصلوات الخمس (و) سوى وقت (النوم) المعتاد (و) سوى وقت (الأكل و) سوى وقت (قضاء الحاجة) من الذهاب إلى الخلاء فلينتظر فيه، (فإن كان الرجل ممن لا يسلك سبيل الآخرة إلا بالصلاة) المفروضة (والنافلة بالحج أو ما يجري مجراه من الأعمال البدنية، فالنكاح له أفضل لأن كسب الحلال والقيام بالأهل) أي: بمؤنهن (والسعي في تحصيل الولد) لأجل بقاء النسل (والصبر على أخلاق النساء) وجفوتهن وتحصين فرجه وفرجها وتربية الأولاد وغير ذلك (أنواع من العبادات لا يقصر فضلها) من حيث الأفراد والجمع (على نوافل العبادات) مع أن في غالب الأوصاف المذكورة تعدي نفع بخلاف نوافل العبادات، (وإن كان عبادته بالعلم) أي: الاشتغال به حضورا وإلقاء وتصنيفا (والفكر) أي: المراقبة في ذكر الله تعالى (وسير الباطن) بقطع المنازل ومنازلة الأسرار (و) كان (الكسب) مما ( يشوش عليه ذلك) ويمنعه ( فترك النكاح أفضل) ؛ لأن المقصود بالذات هو عدم الاشتغال عن الله، وهذا قد يسر له سير الباطن ولم يتيسر له السلوك في العبادات البدنية ، فالأفضل في حقه ترك ما يشوش عليه، وقد تقدم كلام ابن الهمام في قولهم الأفضل كذا فراجعه، والله أعلم .



الخدمات العلمية