الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويجب الاحتراز منه على الصيارفة المتعاملين على النقدين وعلى المتعاملين على الأطعمة إذ لا ربا إلا في نقد ، أو في طعام .

وعلى الصيرفي أن يحترز من النسيئة ، والفضل .

أما النسيئة ، فأن لا يبيع شيئا من جواهر النقدين بشيء من جواهر النقدين إلا يدا بيد ، وهو : أن يجري التقابض في المجلس ، وهذا احتراز من النسيئة وتسليم الصيارفة الذهب إلى دار الضرب ، وشراء الدنانير المضروبة ، حرام ، من حيث النساء ، ومن حيث إن الغالب أن يجري فيه تفاضل ; إذ لا يرد المضروب بمثل وزنه .

وأما الفضل فيحترز منه في ثلاثة أمور في بيع المكسر بالصحيح ، فلا تجوز المعاملة فيهما إلا مع المماثلة .

وفي بيع الجيد بالرديء ، فلا ينبغي أن يشتري رديئا بجيد دونه في الوزن ، أو يبيع رديئا بجيد فوقه في الوزن ، أعني : إذا باع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة فإن اختلف الجنسان فلا حرج في الفضل .

والثالث : في المركبات ، من الذهب والفضة ، كالدنانير المخلوطة من الذهب والفضة إن كان مقدرا الذهب ، مجهولا ، لم تصح المعاملة عليها أصلا إلا إذا كان ذلك نقدا جاريا في البلد فإنا نرخص في ، المعاملة عليه ، إذا لم يقابل بالنقد وكذا الدراهم المغشوشة بالنحاس ، إن لم تكن رائجة في البلد ، لم تصح المعاملة عليها ; لأن المقصود منها النقرة وهي مجهولة ، وإن كان نقدا رائجا في البلد رخصنا في المعاملة ; لأجل الحاجة ، وخروج النقرة عن أن يقصد استخراجها ، ولكن لا يقابل بالنقرة أصلا وكذلك كل حلي مركب من ذهب وفضة ، فلا يجوز شراؤه لا بالذهب ، ولا بالفضة ، بل ينبغي أن يشتري بمتاع آخر ، إن كان قدر الذهب منه معلوما إلا إذا كان مموها بالذهب ، تمويها لا يحصل منه ذهب مقصود عند العرض على النار فيجوز بيعها بمثلها من النقرة بما أريد من غير النقرة وكذلك لا يجوز للصيرفي أن يشتري قلادة فيها خرز ، وذهب ، بذهب ، ولا أن يبيعه بل بالفضة ، يدا بيد ، إن لم يكن فيها فضة ولا يجوز شراء ثوب منسوج بذهب يحصل منه ذهب مقصود عند العرض على النار ، بذهب ويجوز بالفضة غيرها وأما ، المتعاملون على الأطعمة ، فعليهم التقابض في المجلس ، اختلف جنس الطعام المبيع والمشترى ، أو لم يختلف ، فإن اتحد الجنس فعليهم التقابض ، ومراعاة المماثلة

التالي السابق


*ثم اعلم أن الربا ثلاثة أنواع: ربا الفضل، وهو: زيادة أحد العوضين على الآخر في القدر، وربا النساء، وهو: أن يبيع بالأثمان نسيئة، سمي به; لاختصاص أحد العوضين بزيادة الحلول، وربا اليد، وهو: أن يقبض أحد العوضين دون الآخر، وفي الخبر، ذكر ستة أشياء، وهي: النقدان، والمطعومات الأربعة، والحكم غير مقصور عليها، باتفاق جمهور العلماء، لكن الربا يثبت فيها المعنى، يلحق فيها ما يشاركها فيه، كما يأتي بيانه .

وقد أشار المصنف إلى ما ذكرنا، فقال: (ويجب الاحتراز منه على الصيارفة المتعاملين على النقدين) الذهب والفضة (وعلى المتعاملين على الأطعمة) جمع طعام، وهو في العرف: اسم لما يؤكل، كالشراب: اسم لما يشرب; (إذ لا ربا إلا فى نقد، أو طعام) كما يشعر بذلك الخبر المتقدم (وعلى الصيرفي أن يحترز) في معاملته (من النسيئة، والفضل، أما النسيئة، فأن لا يبيع شيئا من جواهر النقدين بشيء من جواهر النقدين إلا يدا بيد، وهو: أن يجري التقابض في المجلس، وهذا احتراز من النسيئة) .

[ ص: 447 ] وحيث اعتبر التقابض، فلو تفرقا قبل التقابض بطل العقد، ولو تقابضا بعض كل واحد من العوضين، ثم تفرقا، بطل في غير المقبوض، وفي المقبوض قولا تفريق الصفقة، والتخاير في المجلس قبل التقابض بمثابة التفرق، يبطل العقد، خلافا لابن سريج .

ولو وكل أحدهما وكيلا بالقبض، وقبض قبل مفارقة الموكل مجلس العقد، جاز، وإن قبض بعده فلا .

*ثم اعلم أن النقدين، هل الربا فيهما لعينهما، لا لعلة، أو لعلة؟ وقد ذهب بعض الأصحاب إلى الأول، والمشهور في المذهب: أن العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة، وإن شئت قلت: جوهرية الأثمان غالبا، والعبارتان تشملان التمر، والمضروب، والحلي، والأواني المتخذة منها .

وفي تعدي الحكم إلى الفلوس إذا راجت حكاية وجه; لحصول معنى الثمنية، والأصح: خلافه; لانتفاء الثمنية الغالبة، وقال أبو حنيفة، وأحمد: العلة فيهما: الوزن، فيتعدى الحكم إلى كل موزون، كالحديد، والرصاص، والقطن، قال أصحاب الشافعي: لنا: لو كانت العلة الوزن لتعدى الحكم إلى المعمول من الحديد، والنحاس، كما يتعدى إلى المعمول من الذهب، والفضة، وقد سلموا أنه لا يتعدى .

(وتسليم الصيارفة الذهب إلى دار الضرب، وشراء الدنانير المضروبة به، حرام، من حيث النساء، ومن حيث أنه يجري فيه تفاضل; إذ لا يرد المضروب بمثل وزنه ألبتة) بل لا بد فيه من التخالف، واعلم أن تحريم النساء وجوب التقابض يتلازمان، وينحو كل واحد منهما نحو الآخر، وقد ترى الأئمة لما بينهما من التقارب يستغنون بذكر أحدهما عن الآخر .

(وأما الفضل فيحترز منه في ثلاثة) مواضع: (في بيع المكسر بالصحيح، فلا تجوز المعاملة فيهما إلا مع المماثلة) ; لأن بيع مال الربا بجنسه مع زيادة لا يجوز، إلا بتوسط عقد آخر .

(وفي بيع الجيد بالرديء، فلا ينبغي أن يشتري رديئا بجيد دونه في الوزن، أو يبيع رديئا بجيد فوقه في الوزن، أعني: إذا باع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة) أعني: لا يجوز بيعهما متفاضلا; لما روي النهي عنه في حديث أبي سعيد، وأبي هريرة; لأن تفاوت الوصف لا يعد تفاوتا عادة، ولو اعتبر لانسد باب البياعات، فلو باع التبر، أو المضروب، بالحلي من جنسه، وجب رعاية المماثلة، وعن مالك: أنه يجوز أن يزيد ما يقابل الحلي، بقدر قيمة الصنعة .

(فإن اختلف الجنسان فلا حرج في الفضل) فلو باع ذهبا بفضة، أو بالعكس، لم يجب رعاية المماثلة، ولكن يجب رعاية الحلول، والتقابض .

(والثالث: في) بيع (المركبات، من الذهب والفضة، كالدنانير المخلوطة من الذهب والفضة، إن كان مقدار الذهب مجهولا، لم يصح المعاملة عليه أصلا) ; لأن ذلك يوجب التفاضل، والجهل بالمماثلة (إلا إذا كان ذلك نقدا جاريا في البلد، فإنه يرخص في المعاملة عليه، إذا لم يقابل بالنقد) بل بعوض (وكذا الدراهم المغشوشة بالنحاس، إن لم يكن رائجا في) معاملة (البلد، لم يصح المعاملة عليه; لأن المقصود منه النقرة) بالضم، القطعة المذابة من الفضة (وهي مجهولة، وإن كان نقدا رائجا في البلد رخصنا في المعاملة; لأجل) مسيس (الحاجة، وخروج النقرة عن أن يقصد استخراجها، ولكن لا يتقابل بالنقرة أصلا) ; للجهل بها .

(وكذلك كل حلي مركب من ذهب وفضة، فلا يجوز شراؤه لا بالذهب، ولا بالفضة، بل ينبغي أن يشترى بمتاع آخر، إن كان قدر الذهب منه معلوما) إما بالوزن، أو بالتخمين من أهل الخبرة; وإنما قلنا ذلك لأنه إذا كان القدر مجهولا إما يوجب التفاضل، أو الجهل بالمماثلة (إلا إذا كان مموها) أي: مطليا (بالذهب، تمويها لا يحصل منه ذهب مقصود عند العرض على النار) فهو مستهلك (فيجوز بيعها بمثلها من النقرة) وكأن ذلك التمويه لم يكن; لعدم الاستفادة منه (و) يجوز بيعها أيضا (بما أريد من غير النقرة) من أي متاع كان .

(وكذلك لا يجوز للصيرفي أن يشتري قلادة فيها خرز، وذهب، بذهب، ولا أن يبيعه) كذلك (بل بالفضة، يدا بيد، إن لم يكن فيها فضة) والأصل في ذلك: ما روي عن فضالة بن عبيد، رضي الله عنه، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بخيبر، بقلادة فيها خرز وذهب تباع، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب وزنا بوزن. ويروى أنه قال: لا يباع هذا حتى يفصل، ويميز.

(ولا يجوز شراء ثوب منسوج بذهب يحصل منه ذهب مقصود عند العرض على النار، بذهب) ; لما فيه من التفاضل، والجهل [ ص: 448 ] بالمماثلة (ويجوز بالفضة، وغيرها، يدا بيد) ; لاختلاف الجنسين (وأما المتعاملون على الأطعمة، فعليهم التقابض في المجلس، اختلف جنس الطعام المبيع والمشترى، أو لم يختلف، فإن اتحد الجنس فعليهم التقابض، ومراعاة المماثلة) .

اعلم أنه إذا بيع مال بمال لم يخل إما أن لا يكونا ربويين، أو يكونا ربويين، والحالة الأولى تتضمن ما إذا لم يكن واحد منهما ربويا، وأما إذا كان أحدهما ربويا، فلا تجب رعاية التماثل، ولا الحلول، ولا والتقابض، ولا فرق في ذلك بين أن يتفق الجنس، أو يختلف، حتى لو سلم ثوبا في ثوب، أو ثوبين، أو باع حيوانا بحيوانين من جنسه، جاز; لما روي عن ابن عمر أنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أشتري بعيرا ببعيرين إلى أجل. وعند أبي حنيفة: لا يجوز إسلام الشيء في جنسه، وعن مالك: يجوز عند التفاضل، وأما الحاله الثانية: فينظر أهذا ربوي بعلة، وهذا ربوي بعلة، أو هما ربويان بعلة واحدة، فإن اختلفت العلة فكذلك لا تجب رعاية التماثل، ولا الحلول، ولا التقابض .

ومن صور هذا القسم: أن يسلم أحد النقدين في البر، أو يبيع الشعير بالذهب نقدا، أو نسيئة، وإن اتفقت العلة، فينظر، إن اتحد الجنس، كما لو باع الذهب بالذهب، والبر بالبر، فثبت فيها أنواع الربا الثلاثة، فيجب رعاية التماثل، والحلول، والتقابض في المجلس، وإن اختلف الجنس لم يثبت النوع الأول، ويثبت النوعان الباقيان، مثاله: إذا باع ذهبا بفضة، وبرا بشعير، لم يجب رعاية المماثلة، ولكن تجب رعاية الحلول، والتقابض، وإذا كان التقابض معتبرا كان الحلول معتبرا، فإنه لو جاز التأجيل لجاز تأخير التسليم إلى مضي المدة، وعند أبي حنيفة: لا يشترط التقابض إلا في الصرف، وهو بيع النقد، وبه قال أحمد في رواية، وللشافعي: قوله صلى الله عليه وسلم: إلا يدا بيد، في آخر حديث عبادة المتقدم ذكره، فسوى في اعتبار التقابض بين الذهب والذهب، والبر بالبر; ولأن قوله: إلا يدا بيد، لفظ واحد، لا يجوز أن يراد به القبض في حق النقدين، والتعيين في حق غيرهما; لأنه إما حقيقة فيهما، أو حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر، وأيهما كان فلا يجوز الجمع بينهما; لما عرف أن المشترك لا عموم له، وأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز، ولأبي حنيفة، وأحمد: أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض، كالثوب، ونحوه، إذا بيع بجنسه، أو بخلاف جنسه; لحصول مقصوده، وهو التمكن من التصرف، بخلاف الصرف، فإنه لا يتعين إلا بالقبض، فيشترط فيه; ليتعين، والمراد بما روي: التعيين، غير أن ما يتعين به مختلف، فالنقدان يتعينان بالقبض، وغيرهما بالتعيين، فلا يلزم الجمع بين معنى المشترك، ولا بين الحقيقة والمجاز، والله أعلم .



(تنبيه)

قال الرافعي: وأما المطعومات الأربعة المذكورة في الحديث، فللشافعي قولان في علة الربا فيها، الجديد: أن العلة هو الطعم، لما روى معمر بن عبد الله، قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل. علق الحكم باسم الطعام، والحكم المتعلق بالاسم المشتق معلل بما فيه الاشتقاق، كالقطع المعلق باسم السارق، والجلد المعلق باسم الزاني. والقديم: أن العلة فيها: الطعم مع الكيل أو الوزن، واحتجوا: بما روي أنه صلى الله عليه وسلم، قال: الذهب بالذهب وزنا بوزن، والبر بالبر كيلا بكيل، فعلى هذا يثبت الربا في كل مطعوم، مكيل، أو موزون، دون ما ليس بمكيل، ولا موزون، كالسفرجل، والرمان، والبيض، والجوز، والأترج، والنارنج .

وعن الأودني من أصحابنا أنه تابع ابن سيرين، في أن العلة: الجنسية، حتى لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلا، وقال مالك: العلة: الاقتيات، وكل ما هو قوت، أو يستصلح بالقوت، يجري فيه الربا، وقصد بالقيد الثاني: إدراج الملح، وقال أبو حنيفة: العلة: الكيل، حتى يثبت الربا في الجص، والنورة، وسائر المكيلات، وعن أحمد روايتان: أحدهما: كقول أبي حنيفة، والأخرى كقول الشافعي الجديد .

ثم قال: واختلفوا في: أن الجنسية هل هي وصف من العلة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو حامد، وطبقته إلى أنها وصف من العلة، وقالوا: العلة على القديم مركبة من ثلاثة أوصاف، وعلى الجديد من وصفين، واحترز المراوزة من هذا الإطلاق، وقالوا: الجنسية شرط، ومنهم من قال: هي في محل عمل العلة، كالإحصان بالإضافة إلى الزنا، وقال هؤلاء: لو كانت وضعا لأفادت تحريم النساء بمجردها، كما أفاد الوصف الآخر، وهو الطعم، تحريم النساء بمجرده، وليس كذلك، فإن الجنس بانفراده يحرم النساء، وللأولين أن يمنعوا مطلق ما هو وصف لعلة ربا الفضل تحريم النساء .

[ ص: 449 ] قال: وليس تحت هذا الاختلاف كثير طائل، قلت: والفرق بين الشرط والعلة: أن العلة مؤثرة في الحكم دون الشرط، فإنه يضاف وجوده إلى العلة عند وجود الشرط لا إلى الشرط .



(فصل)

وإذا عللنا بالطعم إما مع انضمام التقدير إليه، أو دونه، تعدى الحكم إلى كل ما يقصد ويعد للطعم غالبا، إما تقوتا، أو تأدما، أو تفكها، فيدخل فيها الحبوب، والفواكه، والبقول، والتوابل، وغيرها، ولا فرق بين ما يؤكل نادرا، أو غالبا، ولا بين أن يؤكل أو مع غيره .

وفي الزعفران وجهان: أصحهما: أنه يجري فيه الربا .

ولا فرق بين ما يؤكل للتداوي، وغيره، على المذهب .

والطين بأنواعه ليس بربوي .

وفي الأدهان المطيبة، وجهان: أصحهما: نعم. وفي دهن الكتان، والسمك، لا على الأصح، وما سوى عود البخور ربوي .

ولا ربا في الحيوان; لأنه لا يؤكل على هيئته، نعم، ما يباح أكله على هيئته، كالسمك الصغير، على وجه يجري فيه الربا. وحكى الإمام عن شيخه: ترددا فيه، وقطع بالمنع .




الخدمات العلمية