الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
العقد الثالث :

السلم .

وليراع التاجر فيه عشرة شروط .

الأول : أن يكون رأس المال معلوما على مثله حتى لو تعذر تسليم المسلم فيه أمكن الرجوع إلى قيمة رأس المال فإن أسلم كفا من الدراهم جزافا في كر حنطة ، لم يصح في أحد القولين .

التالي السابق


(العقد الثالث: السلم) *

وهو في البيع مثل السلف، وزنا، ومعنى، وهو مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه الآية. وعن ابن عباس، قال: أشهد أن الله قال أجل السلم المؤجل، وأنزل فيه أطول آية، وتلا قوله تعالى، السابق ذكره، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين، وربما قال: الثلاثة، فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم، إلى أجل معلوم. رواه الشافعي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس. ويروى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع ما ليس عنده، ورخص في السلم.

قال الرافعي: وذكروا في تفسير السلم عبارات متقاربة، منها: أنه عقد على موصوف في الذمة، ببذل يعطى عاجلا. ومنها: أنه استلاف عوض حاضر، في عوض موصوف في الذمة. ومنها: أنه تسليم عاجل في عوض لا يجب تعجيله. وقال الزيلعي، من أصحابنا: هو أخذ عاجل بآجل .

وسمي هذا العقد به; لكونه معجلا على وقته، فإن أوان البيع بعد وجود المعقود عليه في ملك العاقد، والسلم يكون عادة بما ليس بموجود في ملكه، فيكون العقد معجلا .

وينعقد بلفظ السلم، ولا ينعقد بلفظ البيع المجرد; لأنه ورد بلفظ السلم على خلاف القياس، فلا يجوز بغيره، وفي رواية الحسن: ينعقد، وهو الأصح; لأنه بيع، ثم قال: والقياس يأبى جوازه; لأن المسلم فيه مبيع، وهو معدوم، وبيع موجود غير مملوك، أو مملوك غير مقدور على التسليم، لا يجوز، فبيع المعدوم أولى أن لا يجوز، ولكن تركناه بما ذكرناه .

قال المصنف: (وليراع التاجر فيه عشرة شروط) وعبارة الوجيز: والمتفق عليه من شرائطه خمسة، قال الرافعي: إنما قال كذلك; لأن معظم الأئمة جعلوا شرائط السلم سبعا، وضموا إلى الخمس: العلم بقدر رأس المال، وبيان موضع التسليم، وفيهما اختلاف سيأتي، وقد تعد أكثر من السبع، وحقيقة الأمر في مثل ذلك لا تختلف .

(الأول: أن يكون رأس المال معلوما علم مثله) ; وذلك لأن الجهالة في رأس المال تفضي إلى المنازعة، فلا بد من أن يكون معلوما، وهذا الشرط هو الرابع في الوجيز، ولفظه: أن يكون معلوم القدر بالوزن، أو الكيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم.

قال الرافعي: والإعلام تارة يكون بالكيل، والأخرى يكون بالوزن، أو العدد، أو الذرع. اهـ .

وقال أصحابنا: ما أمكن ضبط صفته، ومعرفة قدره، صح السلم فيه; لأنه يفضي إلى المنازعة، وما لا فلا (حتى لو تعذر تسليم المسلم فيه) بسبب من الأسباب (أمكن الرجوع إلى قيمة رأس المال) عند اختلاف .

(فإن أسلم كفا من الدراهم جزافا) من غير عدد (في كر حنطة، لم يصح في أحد القولين) قال الأصبهاني في تعليل المحرر: يجوز أن يكون رأس المال جزافا، غير مقدر، كالثمن، في أصح القولين، وحينئذ معاينته تغني عن العلم بقدره، ولا يشترط تقديره بشيء من الكيل، والوزن، والذرع، كما في البيع، واحتمال الفسخ موجود في البابين، والقول الثاني: أنه لا بد من بيان صفاته، ومعرفة قدره، بإحدى المقدرات; لأنه أحد العوضين في السلم، فلا يجوز أن يكون جزافا، كالمسلم فيه; ولأن السلم عقد منتظر تمامه بتسليم المسلم فيه، وربما ينقطع المسلم فيه في المحل، ورأس المال تالفا، فيدري المسلم إلى ماذا يرجع، وكلامه في المحرر مطلق في جريان القولين من غير فرق بين كون رأس المال مثليا، أو متقوما، وقال في الكبير: هذا في المثليات، وأما في المتقوم، فإن ضبط صفاته في المعاينة ففي معرفة قيمته طريقان، منهم من طرد القولين، والأكثرون قطعوا بصحة السلم، ولا فرق على القولين بين سلم الحال والمؤجل، ومنهم من خصص القولين بالمؤجل، وفي الحال قطع بأن المعاينة كافية كما في البيع .

ثم اعلم أن موضع القولين ما إذا تفرقا قبل العلم بالقدر في الأول، والقيمة في الثاني، وأما إذا علما وتفرقا فلا خلاف في الصحة، اهـ .

قلت: وقوله: فلا يجوز أن يكون جزافا، إلى قوله: إلى ماذا [ ص: 452 ] يرجع، به قال مالك، وأحمد، واختاره أبو إسحاق، وعزاه صاحب التجريد إلى أبي حنيفة، والقول الأول اختاره المزني وهو أصحهما .




الخدمات العلمية