الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وإن غلب الحل جاز له الإمساك ، والورع إخراجه ، وإن شك فيه جاز الإمساك والورع إخراجه ، وهذا الورع آكد لأنه صار مشكوكا فيه وجاز ، إمساكه اعتمادا على أنه في يده فيكون الحل أغلب عليه ، وقد صار ضعيفا بعد يقين اختلاط الحرام ، ويحتمل أن يقال الأصل التحريم ولا ، يأخذ إلا ما يغلب على ظنه أنه حلال ، وليس أحد الجانبين بأولى من الآخر ، وليس يتبين لي في الحال ترجيح وهو من المشكلات .

فإن قيل هب أنه أخذ باليقين لكن الذي يخرجه ليس يدري أنه عين الحرام ، فلعل الحرام ما بقي في يده ، فكيف يقدم عليه ، ولو جاز هذا لجاز أن يقال إذا اختلطت ميتة بتسع مذكاة ، فهي العشر فله أن يطرح واحدة ، أي واحدة كانت ، ويأخذ الباقي ويستحله ، ولكن يقال : لعل الميتة فيما استبقاه بل لو طرح التسع واستبقى واحدة لم تحل لاحتمال أنها الحرام ، فنقول : هذه الموازنة كانت تصح لولا أن المال يحل بإخراج البدل لتطرق المعاوضة إليه ، وأما الميتة فلا تتطرق المعاوضة إليها فليكشف الغطاء عن هذا الأشكال بالفرض في درهم معين اشتبه بدرهم آخر فيمن له درهمان ، أحدهما حرام قد ، اشتبه عينه ، وقد سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن مثل هذا ، فقال : يدع الكل حتى يتبين وكان قد رهن آنية فلما قضى الدين حمل إليه المرتهن آنيتين ، وقال : لا أدري أيتهما آنيتك فتركهما فقال المرتهن هذا الذي هو : لك وإنما كنت أختبرك فقضى دينه ، ولم يأخذ الرهن ، وهذا ورع ولكنا نقول : إنه غير واجب فلنفرض المسألة في درهم له مالك معين حاضر فنقول : إذا رد أحد الدرهمين عليه ورضي به مع العلم بحقيقة الحال حل له الدرهم الآخر ; لأنه لا يخلو إما أن يكون المردود في علم الله هو المأخوذ ، فقد حصل المقصود وإن ، كان غير ذلك فقد حصل لكل واحد درهم في يد صاحبه فالاحتياط أن يتبايعا باللفظ فإن لم يفعلا وقع التقاص والتبادل بمجرد المعاطاة ، وإن كان المغصوب منه قد فات له درهم في يد الغاصب وعسر الوصول إلى عينه ، واستحق ضمانه فلما أخذه وقع عن الضمان بمجرد القبض ، وهذا في جانبه واضح ، فإن المضمون له يملك الضمان بمجرد القبض من غير لفظ والإشكال في الجانب الآخر أنه لم يدخل في ملكه فنقول : لأنه أيضا إن كان قد تسلم درهم نفسه ، فقد فات له أيضا درهم في يد الآخر فليس يمكن الوصول إليه ، فهو كالغائب فيقع هذا بدلا عنه في علم الله إن كان الأمر كذلك ويقع هذا التبادل في علم الله كما يقع التقاص لو أتلف رجلان كل واحد منهما درهما على صاحبه ، بل في عين مسألتنا لو ألقى كل واحد ما في يده في البحر أو أحرقه كأن قد أتلفه ولم يكن عليه عهدة للآخر بطريق التقاص فكذا إذا لم يتلف فإن القول بهذا أولى من المصير إلى أن من يأخذ درهما حراما ويطرحه في ألف ألف درهم لرجل آخر يصير كل المال محجورا عليه لا يجوز التصرف فيه ، وهذا المذهب يؤدي إليه فانظر ما في هذا من البعد وليس فيما ذكرناه إلا ترك اللفظ .

التالي السابق


(وإن غلب عليه الحل جاز له الإمساك، والورع إخراجه، وإن شك فيه جاز) له (الإمساك) أيضا، (والورع إخراجه، وهذا الورع أوكد) مما قبله; (لأنه صار مشكوكا فيه، وكان إمساكه اعتمادا على أنه في يده ليكون الحل الأغلب عليه، وقد صار) هذا الاعتماد (ضعيفا بعد يقين اختلاط الحرام، ويحتمل أن يكون الأصل التحريم، فلا يأخذ إلا ما يغلب على ظنه أنه حلال، وليس أحد الجانبين بأولى من الآخر، وليس يتبين في الحال ترجيح) لأحدهما على الآخر، (وهو من المشكلات) المشتبهات، (فإن قيل هب أنه أخذ باليقين لكن الذي يخرجه) من المال (ليس يدري أنه من الحرام، فلعل الحرام) هو (ما بقي في يده، فكيف يقدم عليه، ولو جاز هذا لجاز أن يقال) إذا (اختلطت) شاة (ميتة بتسع) شياه (مذكيات، فهي العشر) أي: الميتة، (فله أن يطرح واحدة، أي واحدة كانت، ويأخذ الباقي ويستحله، ولكن يقال: لعل الميتة فيما استبقاه) أي في جملة ما تركه، (بل لو طرح التسعة واستبقى واحدة لم يحل) له; (لاحتمال أنها الحرام، فنقول: هذه الموازنة كانت تصح لولا أن المال يحل بإخراج البدل لتطرق المعاوضة إليه، وأما الميتة فلا تتطرق المعاوضة إليها) ، فافترقتا، (فلنكشف الغطاء عن هذا الإشكال بالفرض في درهم معين اشتبه بدرهم آخر ممن له درهمان، أحدهما حرام، وقد اشتبه عينه ، وقد سئل) الإمام ( أحمد بن حنبل ) رحمه الله تعالى، (عن مثل هذا، فقال: يدع الكل حتى يتبين) ويظهر له أمره، وهو من جملة مسائل أبي بكر المروزي ، (وكان) رحمه الله تعالى (قدرهن آنية) جمع إناء بكسر، وليس بمفرد، (فلما قضى الدين حمل إليه المرتهن آنيتين، وقال: لا أدري أيهما آنيتك) فخذ أيتهما شئت، (فترك كلتيهما) وفي نسخة: فتركهما كلتيهما، (فقال المرتهن: فهذه هي التي لك) أعرفها، (وإنما كنت أجربك فقضى دينه، ولم يأخذ الرهن، وهذا ورع) في الدين، (ولكنا نقول: إنه غير واجب) ، بل من المندوبات، (فلنفرض المسألة في درهم له مالك معين حاضر) وفي نسخة: خاص، (فنقول: إذا رد أحد الدرهمين عليه ورضي به مع العلم بحقيقة الحال حل له الدرهم الآخر; لأنه لا يخلو إما أن يكون المردود في علم الله تعالى هو المأخوذ، فقد حصل المقصود، فإن كان غير ذلك فقد حصل لكل واحد درهم في يد صاحبه والاحتياط) في ذلك (أن يتبايعا باللفظ) ، أي: بإجراء الصيغة، (فإن لم يفعلا ذلك وقع القصاص والتبادل بمجرد المعاطاة، وإن كان المغصوب منه قد فات له درهم في يد الغاصب وعسر عليه الوصول إلى عينه، واستحق ضمانه فما أخذه) منه (وقع عن الضمان بمجرد القبض، وهذا في جانبه واضح، فإن المضمون له يملك الضمان بمجرد القبض من غير لفظ) صرح به السبكي في عقد الجمان في مسائل الضمان، (والإشكال في الجانب الآخر) هو (أنه لم يدخل في ملكه فنقول: لأنه أيضا وإن كان قد سلم درهم نفسه، فقد فات له أيضا درهم) هو (في يد الآخر وليس يمكن الوصول إليه، فهو كالفائت فيقع هذا بدلا منه في علم الله تعالى إن كان الأمر كذلك أو يقع هذا التبادل في علم الله تعالى كما يقع التقاص لو أتلف رجلان كل واحد منهما درهما على صاحبه، بل في عين [ ص: 97 ] مسألتنا) هذه، (لو أوقع كل واحد منهما ما في يد صاحبه في البحر أو أحرقه) بالنار (كان قد أتلفه ولم يكن عليه عهدة) أي: تجديد العهد به (للآخر بطريق التقاص) ، أصله التقاصص فأدغم، وأصله جعل الدين في مقابلة الدين، (فهكذا إذا لم يتلف فإن القول بهذا أولى من المصير إلى أن يأخذ درهما حراما ويطرحه في ألف ألف درهم لرجل آخر يصير كل المال محجورا عليه) أي: ممنوعا (لا يجوز التصرف فيه، وهذا المذهب يؤدي إليه فانظر ما في هذا من البعد) عن الاستقامة، (وليس فيما ذكرناه إلا ترك اللفظ) أي: إجراء الصيغة .




الخدمات العلمية