الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام ، ولا يطيل معه الكلام ، ولا يكثر عن حاله السؤال ، ويعوده في المرض ، ويعزيه في المصيبة ، ويقوم معه في العزاء ، ويهنئه في الفرح ، ويظهر الشركة في السرور معه ، ويصفح عن زلاته ولا يتطلع من السطح إلى عوراته ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره ولا في مصب الماء في ميزابه ، ولا في مطرح التراب في فنائه ولا يضيق طرقه إلى الدار ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره ، ويستر ما ينكشف له من عوراته وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته ولا يسمع عليه كلاما ويغض بصره عن حرمته ولا يديم النظر إلى خادمته ويتلطف بولده في كلمته ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه .

هذا إلى جملة الحقوق التي ذكرناها لعامة المسلمين وقد قال صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما حق الجار إن استعان بك أعنته وإن استنصرك نصرته وإن استقرضك أقرضته وإن افتقر عدت عليه وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير هنأته وإن أصابته مصيبة عزيته ولا تستعل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه وإذا اشتريت فاكهة فأهد له ، فإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ثم قال أتدرون ما حق الجار ؟ والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحمه الله .

. هكذا رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مجاهد كنت عند عبد الله بن عمر وغلام له يسلخ شاة ، فقال : يا غلام ، إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي ، حتى قال ذلك مرارا ، فقال له كم : تقول هذا ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه .

وقال هشام كان الحسن لا يرى بأسا أن تطعم الجار اليهودي والنصراني من أضحيتك وقال أبو ذر رضي الله عنه .

أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم وقال : إذا طبخت قدرا فأكثر ماءها ثم انظر بعض أهل بيت في جيرانك فاغرف لهم منها .

وقالت عائشة رضي الله عنها : قلت يا رسول الله : إن لي جارين أحدهما مقبل على بابه والآخر ناء ببابه عني وربما كان الذي عندي لا يسعهما فأيهما أعظم حقا ؟ فقال : المقبل عليك ببابه .

ورأى الصديق ولده عبد الرحمن وهو يناصي جارا له ، فقال : لا تناص جارك فإن هذا يبقى والناس يذهبون .

وقال الحسن بن عيسى النيسابوري سألت عبد الله بن المبارك فقلت : الرجل المجاور يأتيني فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمرا والغلام ينكره فأكره أن أضربه ولعله بريء وأكره أن أدعه فيجد علي جاري فكيف أصنع قال ؟ : إن غلامك لعله أن يحدث حدثا يستوجب فيه الأدب فاحفظه عليه فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث فتكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث ، وهذا تلطف في الجمع بين الحقين .

التالي السابق


(وجملة حق الجار أن يبتدئه بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عن حاله السؤال، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته ولا يطلع) وفي نسخة: ولا يتطلع (من السطح إلى عوراته ولا يضايقه في وضع الجذوع) أي: الخشبة (على جداره ولا في مصب الماء من ميزابه، ولا في مطرح التراب من فنائه) أي: حوالي داره؛ فإن كل ذلك من جملة المرافق (ولا يضيق طريقه إلى الدار ولا يتبعه بالنظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف له من عوراته وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة) أي: حدث به حادثة (ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته) بل يحوطها (ولا يسمع عليه كلاما) [ ص: 308 ] وفي نسخة: ولا يستمع عليه كلامه (ويغض بصره عن حرمه ولا يديم النظر إلى خادمه) خصوصا إذا كان مقبول الذات (ويتلطف لولده في كلمته) وفي نسخة: لولده (ويرشده إلى ما جهله من أمور دينه ودنياه) مما تناط به المصالح (هذا إلى جملة الحقوق التي ذكرناها للمسلمين عامة) قال ابن أبي جمرة: والذي يشمل الجميع إرادته الخير له وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الأذى والإضرار مع اختلاف أنواعه حسيا كان أو معنويا إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار بالقول أو الفعل، فإن كان كافرا يعظه بغرض الإسلام عليه وإظهار محاسنه برفق والترغيب فيه، فيعظ الفاسق بما يناسبه أيضا ويستر عليه زلله عن غيره وينهاه برفق، فإن أفاد وإلا هجره قاصدا تأديبه مع إعلامه بالسبب ليكف .

(وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: أتدرون ما حق الجار) على الجار (إن استعان بك أعنته وإن استقرضك) أي: طلب منك أن تقرضه شيئا (أقرضته) إن تيسر معك (وإن افتقر عدت عليه) وفي نسخة: جدت (وإن مرض عدته وإن مات اتبعت جنازته) إلى المصلى ثم إلى القبر (وإن أصابه خير هنأته) به (وإن أصابه مصيبة) في نفس أو مال أو أهل (عزيته) بما ورد في السنة من المأثور (ولا تستطيل عليه بالبناء) رفعا يضره أشار به لقوله (فتحجب عنه) ونسخة: فتحجز أي: تمنع عنه (الريح) أو الضوء، فإن خلا عن الضرر جاز إلا لذمي على مسلم (إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقتار) بالضم أي: ريح (قدرك) أي: طعامك الذي تطبخه في القدر؛ فأطلق الظرف وأراد المظروف (إلا أن تغرف له منها) شيئا يهدى مثله عرفا، فلا تجعل سنة القيام بحقه بقليل محتقر لا يقع موقعا عن كفايته، كما يدل له قوله في رواية أخرى: "فأصبهم منها بمعروف" إذ هو ظاهر في أن المراد شيء يهدى مثله عادة، ذكره العلائي .

(أتدرون ما حق الجار؟ والذي نفس محمد بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحمه الله. هكذا رواه عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي المدني يكنى أبا إبراهيم، وقيل: أبا عبد الله، نزل الطائف ومكة، روى (عن أبيه) شعيب (عن جده) عبد الله بن عمرو بن العاص، أما عمرو فأكثر رواياته عن أبيه .

وروى أيضا عن الربيع بنت معوذ وزينب بنت أبي سلمة وطاوس وابن المسيب في آخرين، وعنه عمرو بن دينار وعطاء وداود وابن أبي هند وابن جريح والأوزاعي وخلق كثير، ووثقه يحيى بن معين والنسائي، واختلف فيه قول يحيى بن سعيد وأحمد، وقال أبو داود: ليس بحجة، وقال ابن عدي: رواه عنه أئمة الناس إلا أن أحاديثه عن أبيه عن جده مع احتمالهم إياه لم يدخلوها في صحاح ما خرجوا، وقالوا: هي صحيفة مات بالطائف سنة ثماني عشرة ومائة. وأما والده شعيب فقد روى عن جده عبد الله وابن عمر

وابن عباس وغيرهم، روى عنه ابناه عمرو وعمر وثابت البناني وعطاء الخراساني وغيرهم .

ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وقال: لا يصح له سماع من عبد الله بن عمرو، وقال البخاري وأبو داود والدارقطني والبيهقي وغيرهم أنه سمع منه وهو الصواب، وأما أبوه محمد بن عبد الله؛ فإنه روى عن أبيه وعنه ابنه شعيب وحكيم بن الحارث معا، وليس مرادا هنا، فإن ضمير "عن جده" راجع إلى شعيب وهو أقرب مذكور، ومن هنا سبب الاختلاف ودخول الشبه في روايات عمرو، وأما جده عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم القرشي؛ فإنه صحابي مشهور وابن صحابي يكنى أبا محمد، أسلم قبل أبيه وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتا عشرة سنة .

(عن النبي -صلى الله عليه وسلم-) وعن أبيه وعن أبي بكر وعمر وغيرهم وعنه ابنه محمد وحفيده شعيب وأبو أمامة بن سهل وابن المسيب وأبو سلمة وآخرون توفي ليالي الحرة، وكانت سنة ثلاث وستين، مات بمصر، وقيل: بفلسطين، وقيل: بمكة، وقيل: بالمدينة، وقيل: بالطائف.

وقال العراقي: رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق وابن عدي في الكامل وهو ضعيف اهـ .

قلت: رواه الطبراني في الكبير من حديث بهز بن حكيم بن معاوية ابن صيدة عن أبيه عن جده قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، ما حق جاري علي؟ قال: حق الجار إن مرض عدته، وإن مات شيعته وإن استقرضك أقرضته، وإن اعور سترته وإن أصابه خير هنأته [ ص: 309 ] وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها.

قال الهيثمي: فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف، وقال العلائي: فيه إسماعيل بن عياش ضعيف، لكن ليس العهدة فيه عليه بل على شيخه أبي بكر الهذلي فإنه أحد المتروكين، وقال الحافظ: هذا الحديث روي بأسانيد واهية لكن اختلاف مخرجيها يشعر بأن للحديث أصلا .

(قال مجاهد) التابعي -رحمه الله- (وكنت عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وغلام له يسلخ شاة، فقال: يا غلام، إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرارا، فقال له: لم تقول هذا؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يزل يوصينا بالجار حتى حسبنا أنه سيورثه) .

قال العراقي: رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب اهـ .

قلت: ولفظ أبي داود والترمذي عن مجاهد قال: كنا عند ابن عمر عند القسمة وغلامه يسلخ شاة فقال: ابدأ بجارنا اليهودي، ثم قالها مرة فمرة، فقيل له: لم تذكر اليهودي؟ فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فذكره .

(وقال هشام) بن حسان الأزدي القروسي أبو عبد الله البصري: ثقة ثبت، روى عن الحسن وابن سيرين، مات سنة سبع وأربعين (كان الحسن) يعني البصري (لا يرى بأسا أن يطعم الجار اليهودي والنصراني من أضحيته) وفي نسخة: "أن تطعم من أضحيتك" وقال مالك: يكره أن يطعم منها يهوديا أو نصرانيا (وقال أبو ذر) الغفاري -رضي الله عنه-: (أوصاني خليلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: إذا طبخت قدرا فأكثر ماءها ثم انظر بعض أهل البيت من جيرانك فاغرف لهم منها) .

قال العراقي: رواه مسلم، قلت: وروى ابن أبي شيبة في المصنف من حديث جابر: "إذا طبختم اللحم فأكثروا المرق؛ فإنه أوسع وأبلغ للجيران".

(وقالت عائشة -رضي الله عنها-: قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن لي جارين أحدهما مقبل ببابه والآخر ناء) أي: بعيد (ببابه عني وربما كان الذي عندي لا يسعهما) أي: لا يكفيهما (فأيهما أعظم حقا؟ فقال: المقبل عليك ببابه) .

قال العراقي: رواه البخاري .

(ورأى) أبو بكر (الصديق -رضي الله عنه- ولده عبد الرحمن) شقيق عائشة، تأخر إسلامه إلى قبيل الفتح، وشهد اليمامة والفتوح، ومات سنة ثلاث وخمسين في طريق مكة فجأة، وقيل: بعد ذلك (وهو يناصي) أي: يخاصم (جاره، فقال: لا تناص جارك) أي: لا تخاصمه (فإن هذا يبقى والناس يذهبون، وقال الحسن بن عيسى) بن ماسرجس الماسرجسي أبو علي (النيسابوري) مولى عبد الله بن المبارك، ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، ولم يزل من عقبه بنيسابور فقهاء ومحدثون، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين، روى له مسلم وأبو داود (سألت عبد الله بن المبارك، قلت: الرجل المجاور) لي (يأتيني فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمرا والغلام ينكرها فأكره أن أضربه) أي: لإنكاره (ولعله بريء) مما ينسبه إليه (وأكره أن أدعه) أي: أتركه (فيجده علي جاري) أي: يأخذ في نفسه حيث إني لم أضربه (فكيف أصنع؟ فقال: إن غلامك لعله أن يحدث حدثا فيستوجب به الأدب فاحفظ عليه) ذلك، وفي نسخة فاحفظه عليه (فإذا اشتكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث فيكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث، وهذا تلطف في الجمع بين الحقين) حق الجار وحق الملك .




الخدمات العلمية