الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه هي الأخبار الدالة على تأكد حق الوالدين وكيفية القيام بحقهما تعرف مما ذكرناه في حق الأخوة فإن هذه الرابطة آكد من الأخوة بل يزيد ههنا أمران :

أحدهما : أن أكثر العلماء على أن طاعة الأبوين واجبة في الشبهات وإن لم تجب في الحرام المحض حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما ؛ لأن ترك الشبهة ورع ورضا الوالدين حتم .

وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة إلا بإذنهما ، والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل لأنه على التأخير .

والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك وذلك كمن يسلم ابتداء في بلد ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين .

التالي السابق


(فهذه هي الأخبار الدالة على تأكد حق الوالدين وكيفية القيام بحقهما تعرف بما ذكرناه في حق الأخوة فإن هذه الرابطة آكد من) رابطة (الأخوة بل يزيد ههنا أمران: أحدهما: أن أكثر العلماء على أن طاعة الأبوين واجبة في الشبهات وإن لم تجب في الحرام المحض حتى إذا كانا لا ينعمان) وفي نسخة ينغصان (بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما؛ لأن ترك الشبهة ورع ورضا الوالدين حتم) واجب (وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة إلا بإذنهما، والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل لأنه) مأمور به (على التأخير) والتراخي لا على الفور وفيه خلاف نقل في كتاب الحج (والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك وذلك كمن يسلم ابتداء في بلدة ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين) ، ونقل بعض أصحابنا ممن تأخر عصره في كتاب مرشد المتأمل ما لفظه: " كل ما لا تأمن من الهلاك مع جهله فطلب علمه فرض عين لا يسوغ لك تركه وإن منعك أبواك عن طلبه" سواء كان من الأمور الاعتقادية كمعرفة الصانع وصفاته وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز وأن محمدا عبده ورسوله الصادق في أفعاله وأقواله، ومن الطاعات التي تتعلق بالظاهر كالطهارة والصلاة والصيام وغيرها وما يتعلق بالباطن كالنية والإخلاص والتوكل والصبر والشكر وغيرها، أو من المعاصي مما يتعلق باللسان كشرب الخمر وأكل الحرام والربا وغير ذلك، أو بالفرج كالزنا أو باليد كالسرقة، وما يتعلق منها بالباطن كالحسد والكبر والرياء وسوء الظن وغير ذلك؛ فإن معرفة هذه الأشياء فرض عين، ويجب عليه طلبها وإن لم يأذن له أبواه، وأما ما سوى ذلك من العلوم فقيل: لا يجوز له الخروج لطلبه إلا بإذنهما، وكذلك لا يجوز طلب قراءة القرآن إلا بإذنهما إلا مقدار ما لا تجوز الصلاة بدونه .

وقيل: لا بأس بالسفر على قصد التعلم إذا كان الطريق آمنا وإن كره الوالدان أو أحدهما؛ لأن الغالب فيه السلامة، والحزن على الغيبة ينقطع بالطمع على الرجوع وعلى هذا سفر الحج والتجارة بخلاف الجهاد فإنه تعريض النفس على الهلاك وفيه إلحاق المشقة بهما، فإذا خرج بغير إذنهما يكون عاقا، وبر الوالدين أحب من الجهاد وغيره. اهـ. ووجدت بخط قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي ما نصه: مسألة: الذي أراه في بر الوالدين وتحريم عقوقهما أنه تجب طاعتهما في كل ما ليس بمعصية ويشتركان في هذا هما والإمام، أعني الخليفة وولي الأمر، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: اسمع وأطع ما لم تؤمر بمعصية، ويزيد الوالدين على الإمام بشيء آخر وهو أنهما قد يتأذيان من فعل أو قول يصدر من الولد، وإن لم ينهياه عنه فيحرم عليه ذلك؛ لأنه يحرم عليه كل ما يؤذيهما بخلاف الإمام، وكذلك إذا تأذيا بترك قول أو ترك فعل منه وجب عليه فعل أرضاهما وإن لم يأمراه به وإذا أمراه بترك سنة أو مباح أو بفعل مكروه فالذي أراه تفصيل وهو أنه إن أمراه بترك سننه دائما فلا يسمع منهما؛ لأن في ذلك تغيير الشرع، وتغيير الشرع حرام وليس لهما فيه غرض صحيح؛ فهما المؤذيان لأنفسهما بأمرهما بذلك، وأما إن أمراه بترك سننه في بعض الأوقات فإن كانت غير راتبة وجبت طاعتهما وإن كانت راتبة فإن كان لمصلحة لهما وجبت طاعتهما وإن كانت شفقة عليه ولم يحصل لهما أذى بفعلها فالأمر منهما في ذلك محمول على الندب لا على الإيجاب فلا تجب طاعتهما، فإن علم من حالهما [ ص: 322 ] أنه أمر إيجاب وجبت طاعتهما، وما في البخاري من أن أمه إن نهته عن حضور العشاء في جماعة شفقة لم يطعها إما أن يحمل على عدم الإيجاب لقوله شفقة وإما أن يحمل على أن المراد على الدوام لما قلناه من تغيير الشرع، وتغيير الشرع حرام، وإن كان ماله أو مسكنه حلالا صافيا عن الشبهة، وأمراه أن يأكل أو يسكن معهما وفيما يأكلانه أو يسكنانه شبهة وجبت طاعتهما كما قاله الطرطوشي؛ لأن مخالفتهما حرام والورع ليس بواجب، وإن نهياه عن الصلاة في أول الوقت فإن كان على الدوام لم يسمع منهما؛ لأن فيه تغيير الشرع وإن كان في وقت وجبت طاعتهما كما قاله الطرطوشي وهو دون حضور الجماعة والسنن الراتبة؛ لأنه صفة لا مستقل .

وحاصله أنه يجب امتثال أمرهما والانتهاء عن نهيهما ما لم تكن معصية على الإطلاق، وإنما تكون معصية إذا كان فيه مخالفة لأمر الله الواجب أو لشرعه المقرر وفي هذا هما والإمام سواء، ويزيد فيهما تحريم ما يؤذيهما بأي شيء كان وإن كان مباحا بوجوب طاعتهما، وإن كان ما يأمران به لحظ أنفسهما بخلاف الإمام فإنه لا يأمر إلا بما فيه مصلحة المسلمين، ولا تجب طاعته في حق نفسه ولا يحرم أذاه بمباح، والوالدان يحرم أذاهما، هينا كان الأذى أو ليس بهين خلافا لمن شرط في تحريم الأذى أن يكون ليس بالهين، فأقول: يحرم إيذاهما مطلقا إلا أن يكون إيذاهما بما هو حق واجب لله، فحق الله أولى، فعلى ما قلته لو أمراه بطلاق امرأته ونحوه وجب عليه طاعتهما هذا الذي أعتقده وأرجو أنه حق إن شاء الله تعالى، والله أعلم .




الخدمات العلمية