الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والسابع : الرخصة في الغناء والضرب بالدف من الجاريتين مع أنه شبه ذلك بمزمار الشيطان وفيه بيان أن المزمار المحرم غير ذلك .

والثامن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرع سمعه صوت الجاريتين وهو مضطجع ولو كان يضرب بالأوتار في موضع لما جوز الجلوس ثم لقرع صوت الأوتار سمعه .

فيدل هذا على أن صوت النساء غير محرم تحريم صوت المزامير بل إنما يحرم عند خوف الفتنة .

فهذه المقاييس والنصوص تدل على إباحة الغناء والرقص والضرب بالدف واللعب بالدرق والحراب والنظر إلى رقص الحبشة والزنوج في أوقات السرور كلها قياسا على يوم العيد فإنه وقت سرور وفي معناه يوم العرس والوليمة والعقيقة والختان ويوم القدوم من السفر وسائر أسباب الفرح ، وهو كل ما يجوز به الفرح شرعا ، ويجوز الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام فهو أيضا مظنة السماع .

السادس : سماع العشاق تحريكا للشوق وتهييجا للعشق وتسلية للنفس .

فإن كان في مشاهدة المعشوق فالغرض تأكيد اللذة وإن كان مع المفارقة فالغرض تهييج الشوق .

والشوق وإن كان ألما ففيه نوع لذة إذا انضاف إليه رجاء الوصال فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم وقوة لذة الرجاء بحسب قوة الشوق والحب للشيء المرجو .

ففي هذا السماع تهييج العشق وتحريك الشوق وتحصيل لذة الرجاء المقدر في الوصال مع الإطناب في وصف حسن المحبوب .

وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله ، كمن يعشق زوجته أو سريته فيصغي إلى غنائها لتضاعف لذته في لقائها .

فيحظى بالمشاهدة البصر ، وبالسماع الأذن ، ويفهم لطائف معاني الوصال والفراق القلب فتترادف أسباب اللذة فهذه أنواع تمتع من جملة مباحات الدنيا ومتاعها وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وهذا منه .

وكذلك إن غضبت منه جارية أو حيل بينه وبينها بسبب من الأسباب فله أن يحرك بالسماع شوقه وأن يستثير به لذة رجاء الوصال فإن باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعده .

إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصال واللقاء .

، وأما من يتمثل في نفسه صورة صبي أو امرأة لا يحل له النظر إليها ، وكان ينزل ما يسمع على ما تمثل في نفسه فهذا حرام لأنه محرك للفكر في الأفعال المحظورة ومهيج للداعية إلى ما لا يباح الوصول إليه .

وأكثر العشاق والسفهاء من الشباب في وقت هيجان الشهوة لا ينفكون عن إضمار شيء من ذلك وذلك ، ممنوع في حقهم لما فيه من الداء الدفين لا لأمر يرجع إلى نفس السماع .

ولذلك سئل حكيم عن العشق فقال .

دخان يصعد إلى دماغ الإنسان يزيله الجماع ويهيجه السماع .

السابع : سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه سبحانه ولا يقرع سمعه قارع إلا سمعه منه أو فيه فالسماع في حقه مهيج لشوقه ومؤكد لعشقه وحبه ومور زناد قلبه ومستخرج منه أحوالا من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كل حسه عن ذوقها .

وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية وجدا مأخوذ من الوجود والمصادفة أي صادف : من نفسه أحوالا لم يكن يصادفها قبل السماع .

ثم تكون تلك الأحوال أسبابا لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها وتنقيه من الكدورات كما تنقى النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهدات ومكاشفات وهي غاية مطالب المحبين لله تعالى ونهاية ثمرة القربات كلها فالمفضي إليها من جملة القربات لا من جملة المعاصي والمباحات .

وحصول هذه الأحوال للقلب بالسماع سببه سر الله تعالى في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح وتسخير الأرواح لها وتأثرها بها شوقا وفرحا وحزنا وانبساطا وانقباضا .

ومعرفة السبب في تأثر الأرواح بالأصوات من دقائق علوم المكاشفات .

والبليد الجامد القاسي القلب المحروم عن لذة السماع يتعجب من التذاذ المستمع ووجده واضطراب حاله وتغير لونه تعجب البهيمة من لذة اللوزينج وتعجب العنين من لذة المباشرة وتعجب الصبي من لذة الرياسة واتساع أسباب الجاه وتعجب الجاهل من لذة معرفة الله تعالى ومعرفة جلاله وعظمته وعجائب صنعه .

ولكل ذلك سبب واحد ، وهو أن اللذة نوع إدراك ، والإدراك يستدعي مدركا ويستدعي قوة مدركة .

فمن لم تكمل قوة إدراكه لم يتصور منه التلذذ فكيف يدرك لذة الطعوم من فقد الذوق ، وكيف يدرك لذة الألحان من فقد السمع ولذة المعقولات من فقد العقل وكذلك ، ذوق السماع بالقلب بعد وصول الصوت إلى السمع يدرك بحاسة باطنة في القلب فمن فقدها عدم لا محالة لذته .

ولعلك تقول : كيف يتصور العشق في حق الله تعالى حتى يكون السماع محركا له .

التالي السابق


(السابع: سماع من أحب الله -عز وجل- وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر لشيء إلا رآه فيه) رؤية تليق بحبه (ولا يقرع سمعه قارع إلا سمعه منه أو فيه) باعتبار قوة محبته وضعفها ( فالسماع في حقه مهيج لشوقه) المستكن في ضميره (مؤكد لعشقه وحبه ومور زناد قلبه) بقداح شوقه (ومستخرج منه أحوالا من المكاشفات) الصريحة (والملاطفات) المقربة (لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كل حسه عن ذوقها) وفيه يقول القائل:


ولو يذوق عاذلي صبابتي صبا معي لكنه ما ذاقها

[ ص: 497 ] (وتسمى تلك الأحوال) الشريفة (بلسان الصوفية وجدا) بفتح فسكون (مأخوذ من) معنى (الوجود والمصادفة أي: يصادف من نفسه أحوالا لم يكن يصادفها قبل السماع) ، والوجود عندهم فقدان العبد بمحق أوصافه البشرية ووجود الحق; لأنه للبشرية عند سلطان الحقيقة، وقال القشيري في الرسالة: الوجود ما يصادف قلبك ويرد عليك بلا تعمل ولا تكلف، ولهم في الوجد والوجود والتواجد فروق سيأتي ذكرها .

(ثم تكون تلك الأحوال أسبابا) محصلة (لروادف وتوابع لها تحرق القلب نيرانها وتنقيه) أي: تصفيه (من الكدورات) العارضة عليه (كما تنقي النار) أي: تخلص (الجواهر المعروضة عليها من الخبث) الكامن بها (ثم تتبع الصفاء الحاصل به مشاهدات) أنوار (ومكاشفات) أسرار (وهي غاية مطالب المحبين لله -عز وجل-) وقصوى أمانيهم (ونهاية ثمرات القربات كلها والمفضي إليها) كالسماع ونحوه (من جملة القربات) المطلوبة (لا من جملة المعاصي) على قول الأكثر (والمباحات) على قول ابن جريج .

(وحصول هذه الأحوال للقلب بالسماع سببه سر لله -عز وجل-) خفي (في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح) كما سبق قريبا، (وتسخير الأرواح لها وتأثيرها بها شوقا) (وفرحا وحزنا تارة وانبساطا وانقباضا ومعرفة السبب في تأثير الأرواح بالصوت) والنغمات (من دقائق علوم المكاشفات) وخفاياها ليس لأهل الرسوم إلى معرفته من سبيل (والبليد الجامد القاسي القلب) بما زرع فيه من ظلمات الشكوك والأوهام (المحروم من لذة السماع يتعجب من التذاذ المستمع) به (ووجده) منه (واضطراب حاله وتغيير لونه تعجب البهيمة) الحيوانية (من لذة اللوزينج) وهو حلواء معروف تقدم ذكره في آخر كتاب آداب الأكل (وتعجب العنين الذي لا شهوة له في النساء من لذة المباشرة) أي: الجماع ومقدماته (وتعجب الصبي) وهو الصغير دون البلوغ (من لذة الرياسة و) لذة (اتساع أسباب الجاه وتعجب الجاهل) الذي لا يدرك حقائق الأشياء كما هي (من لذة معرفة الله -عز وجل- ومعرفة جلاله وعظمته) وكبريائه (وعجائب صنعته) في مخلوقاته .

(ولكل ذلك سبب واحد، وهو أن اللذة نوع إدراك، والإدراك يستدعي مدركا ويستدعي قوة مدركة) بسببها يحصل له الإدراك، (فمن لم تكمل له قوى إدراكه لم يتصور منه التلذذ) أصلا (فكيف يدرك لذة المطعوم من فقد الذوق، وكيف يدرك لذة الألحان) والنغمات الموزونة (من فقد السمع ولذة المعقولات) المعنوية (من فقد العقل، فكذلك ذوق السماع) يكون (بالقلب) أي: بواسطته (بعد وصول الصوت إلى) حاسة (السمع يدرك) ذلك (بحاسة باطنة في القلب ومن فقدها عدم لا محالة لذته ولعلك تقول: كيف يتصور العشق في حق الله -عز وجل- حتى يكون السماع محركا له) هذا شروع في بيان إطلاق العشق على الله تعالى فقد أنكره ابن تيمية وغيره من العلماء، وتلاه تلميذه ابن القيم، فأورد في كتاب الداء والدواء فصلا منع فيه إطلاقه، وكأنه نظر إلى قول أهل اللغة فإنهم قالوا: إن العشق يكون في عفاف وفي ذعارة، ومنهم من قال: هو عمى الحس عن إدراك عيوبه، أو هو مرض وسواس يجلبه إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور، وقد ألف الرئيس أبو علي بن سينا فيه رسالة وبسط فيها معناه، وأنه لا يدرك معناه والتعبير عنه يزيده خفاء وهو كالحسن لا يدرك ولا يمكن التعبير عنه، وكالوزن في الشعر وغير ذلك مما يحال فيه على الأذواق السليمة والطباع المستقيمة .اهـ. واشتقاقه من العشقة محركة وهي اللبلابة وتخضر ثم تصفر وتدق، قاله الزجاج وابن دريد سمي العاشق لذبوله وفي الأساس سمي به لالتوائه ولزومه هواه كاللبلابة تتلوى على الشجر وتلزمه .




الخدمات العلمية