الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فاعلم أن من عرف الله أحبه لا محالة ، ومن تأكدت معرفته تأكدت محبته بقدر تأكد معرفته .

والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا فلا معنى للعشق إلا محبة مؤكدة مفرطة .

ولذلك قالت العرب : إن محمدا قد عشق ربه .

لما رأوه يتخلى للعبادة في جبل حراء .

واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال والله تعالى ، جميل يحب الجمال .

ولكن الجمال إن كان بتناسب الخلقة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر .

وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة أدرك بحاسة القلب .

ولفظ الجمال قد يستعار أيضا لها فيقال : إن فلانا حسن وجميل ولا تراد صورته .

وإنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة حتى قد يحب الرجل بهذه الصفات الباطنة استحسانا لها كما تحب الصورة الظاهرة .

وقد تتأكد هذه المحبة فتسمى عشقا .

وكم من الغلاة في حب أرباب المذاهب كالشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم حتى يبذلوا أموالهم وأرواحهم في نصرتهم وموالاتهم ويزيدوا على كل عاشق في الغلو والمبالغة .

ومن العجب أن يعقل عشق شخص لم تشاهد قط صورته أجميل هو أم قبيح وهو الآن ميت ولكن لجمال صورته الباطنة وسيرته المرضية والخيرات الحاصلة من عمله لأهل الدين وغير ذلك من الخصال .

ثم لا يعقل عشق من ترى الخيرات منه .

بل على التحقيق من لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسناته وأثر من آثار كرمه وغرفة من بحر جوده ، بل كل حسن وجمال في العالم أدرك بالعقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس من مبتدإ العالم إلى منقرضه ومن ذروة الثريا إلى منتهى الثرى فهو ذرة من خزائن قدرته ولمعة من أنوار حضرته فليت شعري كيف لا يعقل حب من هذا وصفه وكيف لا يتأكد عند العارفين بأوصافه حبه حتى يجاوز حدا يكون إطلاق اسم العشق عليه ظلما في حقه لقصوره عن الإنباء عن فرط محبته فسبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره واستتر عن الأبصار بإشراق نوره ولولا احتجابه بسبعين حجابا من نوره لأحرقت سبحات وجهه أبصار الملاحظين لجمال حضرته ولولا أن ظهوره سبب خفائه لبهتت العقول ودهشت القلوب وتخاذلت القوى وتنافرت الأعضاء ولو ركبت القلوب من الحجارة والحديد لأصبحت تحت مبادي أنوار تجليله دكا دكا فأنى تطيق كنه نور الشمس أبصار الخفافيش .

وسيأتي تحقيق هذه الإشارة في كتاب المحبة ويتضح أن محبة غير الله تعالى قصور وجهل بل المتحقق .

بالمعرفة لا يعرف غير الله تعالى إذ ليس في الوجود تحقيقا إلا الله وأفعاله .

ومن عرف الأفعال من حيث إنها أفعال لم يجاوز معرفة الفاعل إلى غيره .

فمن عرف الشافعي مثلا رحمه الله وعلمه وتصنيفه من حيث إنه تصنيفه لا من حيث إنه بياض وجلد وحبر وورق وكلام منظوم ولغة عربية فلقد عرفه ولم يجاوز معرفة الشافعي إلى غيره ولا جاوزت محبته إلى غيره فكل ، موجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وفعله وبديع أفعاله فمن عرفها من حيث هي صنع الله تعالى فرأى من الصنع صفات الصانع كما يرى من حسن التصنيف فضل المصنف وجلالة قدره كانت ، معرفته ومحبته مقصورة على الله تعالى غير مجاوزة إلى سواه .

التالي السابق


(فاعلم أن من عرف الله -عز وجل- أحبه لا محالة، ومن تأكدت معرفته تأكدت محبته [ ص: 498 ] بقدر تأكد معرفته، والمحبة إذا تأكدت) وقويت (سميت عشقا) وبه عبر بعض أهل اللغة أنه إفراط الحب، فالحب أخص من العشق من حيث إنه في عفاف، والعشق يعم في عفاف الحب وذعارة كما تقدم، وبهذا المعنى لا يظهر المنع من الإطلاق، (فلا معنى للعشق إلا محبة مفرطة ولذلك قالت العرب: إن محمدا) -صلى الله عليه وسلم- (عشق ربه لما رأوه يتخلى للعبادة) وهي التفكير (في جبل حراء) تقدم الكلام عليه .

(واعلم أن كل جمال فمحبوب عند مدرك ذلك الجمال، فالله جميل) له الجمال المطلق في الذات والصفات والأفعال، (يحب الجمال) منكم في قلة إظهار الحاجة لغيره وسر ذلك أنه كامل في أسمائه وصفاته، فله الكمال المطلق من كل وجه ويحب أسماءه وصفاته، ويحب ظهور آثارها في خلقه، فإنه من لوازم كماله. وهذا قد روي مرفوعا من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، فقال: إن الله جميل يحب الجمال.

أخرجه مسلم في الإيمان والترمذي في البر، وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة الباهلي، والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، وابن عساكر من حديث جابر وابن عمر، وفي بعض طرق حديث ابن مسعود قلت: يا رسول الله أمن الكبر أن ألبس الحلة الحسنة فذكره، قال الحاكم: احتجا برواته وأقره الذهبي، وقد وهم الحاكم في استدراكه فإنه أخرجه مسلم وأخرج أبو يعلى والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري بزيادة: ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس. وعند عدي من حديث ابن عمر بزيادة: سخي يحب السخاء نظيف يحب النظافة.

(ولكن الجمال إن كان بتناسب الخلقة) واعتدالها (وصفاء اللون) ونقائه (أدرك بحاسة البصر، وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة أدرك بحاسة القلب، ولفظ الجمال قد يستعار أيضا لها فيقال: إن فلانا جميل وحسن ولا يراد صورته وإنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة) ، وفي الروض للسهلي: إن الحسن يتعلق بالمفردات والجمال بالمركبات الجمليات أي: إن الحسن إنما يوصف به ما كان مفردا نحو خاتم حسن، فإذا اجتمع من ذلك جمل وصف صاحبها بالجمال (حتى قد يحب الرجل لهذه الصفات الباطنة استحسانا لها كما يحب الصورة الظاهرة، وقد تتأكد هذه المحبة فتسمى عشقا) ، وهذا معنى قول بعض أئمة اللغة في حد العشق أنه إفراط الحب .

(وكم من الغلاة) جمع غال وهو المتجاوز عن الحد (في حب أرباب المذاهب) المتبوعة (كالشافعي ومالك وأبي حنيفة) -رحمه الله تعالى- (حتى أنهم ليبذلون أموالهم وأرواحهم في نصرتهم وموالاتهم) وحسن القيام بتقليدهم (ويزيدون على كل عاشق في الغلو والمبالغة) والتهالك (ومن العجب أن يعقل عشق شخص لم يشاهد قط صورته أجميل هو أم قبيح وهو الآن ميت) تحت أطباق الثرى، (ولكن لجمال صورته الباطنة وسيرته المرضية والخيرات الحاصلة من عمله) أي: بواسطة عمله (لأهل الدين وغير ذلك من الخصال) الحميدة، (ثم لا يعقل عشق من لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسناته وأثر من آثار كرمه وغرفة من بحر جوده، بل كل حسن وجمال) أفرادا ومجموعا (في العالم) سواء (أدرك بالعقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس من مبتدأ العالم إلى منقرضه) أي: تمامه (ومن ذروة السماء إلى منتهى الثرى) ، وفي نسخة: ومن دون الثريا إلى منتهى الثرى، (فهو ذرة من خزائن قدرته) الباهرة (ولمعة من أنوار حضرته) الساطعة (فليت شعري كيف لا يعقل حب من هذا وصفه وكيف لا يتأكد عند العارفين بأوصافه حبه) ويقوى [ ص: 499 ] (حتى يتجاوز حدا يكون إطلاق اسم العشق عليه ظلما) وتعديا (في حقه لقصوره عن الإنباء) أي: الإخبار (عن فرط محبته فسبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره واستتر عن الأبصار) أي: استترت عنه الأبصار (بإشراقه ونوره) فكان لشدة ظهوره خفاؤه عن مرامي الأبصار والأفكار، (ولولا احتجابه بسبعين حجابا من نوره لأحرقت سبحات وجهه) ما انتهى إليه من (أبصار الملاحظين لجمال حضرته) والمراد بالسبحات هنا جلال الله وعظمته ونوره وبهاؤه، وهو حديث مرفوع قد تقدم الكلام عليه مرارا .

(ولولا أن ظهوره سبب خفائه لبهتت العقول) وطاحت الأفكار (وذهبت القلوب وتخاذلت القوى) البشرية وتناثرت الأعضاء لشدة ذلك المقام، (ولو ركبت القلوب من الحجارة والحديد) وهما من أصلب الأجرام (لأصبحت تحت مبادي أنوار تجليه) القهري (دكا دكا وأنى تطيق كنه نور الشمس أبصار الخفافيش) جمع خفاش حيوان معروف لا يبصر بالنهار، (وسيأتي تحقيق هذه الإشارة في كتاب المحبة) إن شاء الله تعالى ويتضح به (أن محبة غير الله -عز وجل- قصور وجهل في الحقيقة بل المتحقق بالمعرفة لا يعرف غير الله -عز وجل- إذ ليس في الوجود تحقيقا إلا الله تعالى وأفعاله) ، وهذا من المعبر عنه عندهم بوحدة الوجود (ومن عرف الأفعال من حيث إنها أفعال فلم تجاوز معرفة الفاعل إلى غيره) بل لم يخطر بوجوده خيال غيره (فمن عرف الشافعي) -رحمه الله تعالى- (وعلمه وتصنيفه) أي: جمعه وتركيبه (من حيث إنه تصنيفه) وصنعته (لا من حيث إنه بياض وجلد وحبر وورق وكلام منظوم ولغة عربية فلقد عرفه ولم يجاوز معرفة الشافعي إلى غيره ولا جاوزت محبته إلى غيره، وكل موجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى) في نسخة: صنع الله (وفعله وبديع أفعاله) وحسن تركيبه (فمن عرفها من حيث هي صنع الله تعالى رأى من الصنع صفات الصانع كما يرى من حسن التصنيف فضل المصنف وجلالة قدره، وكانت معرفته ومحبته مقصورة على الله -عز وجل- غير مجاوزة إلى ما سواه) ، وقد ألم بهذا البحث الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات عند ذكره قوله -صلى الله عليه وسلم- إن الله جميل يحب الجمال، فقال: الجمال نعت إلهي، ونبه بقوله: جميل على أنا نحبه فانقسمنا فمنا من نظر إلى جمال الكمال وهو جمال الحكمة فأحبه في كل شيء; لأن كل شيء محكم وهو صنعة حكيم، ومنا من لم يبلغ هذه الرتبة وما له علم بالجمال إلا هذا الجمال المقيد الموقوف على الغرض، وهو في الشرع موضع قوله: اعبد الله كأنك تراه، فجاء بكاف التشبيه، فمن لم يصل فهمه إلى أكثر من الجمال المقيد قيده فأحبه لكماله ولا حرج عليه لإتيانه بالمشروع، وعلى قدر وسعه، فبقي حبه تعالى للجمال وهي رتبة أهل الكمال فأحبه في كل شيء فإن العالم خلقه الله تعالى في غاية الإحكام والإتقان، فالعالم جمال الله وهو الجميل المحب للجمال فمن أحب العالم بهذا النظر فما أحب إلا جمال الله إذ جمال الصنعة لا يضاف إليها بل إلى صانعها والله أعلم .




الخدمات العلمية