الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان حجج القائلين بتحريم السماع والجواب عنها .

احتجوا بقوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال ابن مسعود والحسن البصري والنخعي رضي الله عنهم: إن لهو الحديث هو الغناء .

وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها .

فنقول أما القينة فالمراد : بها الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب .

وقد ذكرنا أن غناء الأجنبية للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة حرام ، وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محظور فأما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث ، بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة .

بدليل ما روي في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله عنها .

وأما شراء لهو الحديث بالدين استبدالا به ليضل به عن سبيل الله .

فهو حرام مذموم وليس النزاع فيه ، وليس كل غناء بدلا عن الدين مشترى به ومضلا عن سبيل الله تعالى ، وهو المراد في الآية .

ولو قرأ القرآن ليضل به عن سبيل الله لكان حراما .

حكى عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ، ولا يقرأ إلا سورة عبس لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمر بقتله ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال .

فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. .

واحتجوا بقوله تعالى : أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الغناء بلغة حمير يعني السمد فنقول ينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا لأن ; الآية تشتمل عليه .

فإن قيل : إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم ، فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون وأراد به شعراء الكفار .

ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه .

واحتجوا بما روي جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى .

فقد جمع بين النياحة والغناء قلنا لا جرم كما استثني منه نياحة داود عليه السلام ونياحة المذنبين على خطاياهم ، فكذلك يستثنى الغناء الذي يراد به تحريك السرور والحزن والشوق حيث يباح تحريكه بل ، كما استثني غناء الجاريتين يوم العيد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغناؤهن عند قدومه صلى الله عليه وسلم بقولهن .


طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

واحتجوا بما روى أبو أمامة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله له شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك .

قلنا هو منزل على بعض أنواع الغناء الذي قدمناه وهو الذي يحرك من القلب ما هو مراد الشيطان من الشهوة وعشق المخلوقين ، فأما ما يحرك الشوق إلى الله أو السرور بالعيد أو حدوث الولد أو قدوم الغائب فهذا كله يضاد مراد الشيطان .

بدليل قصة الجاريتين والحبشة والأخبار التي نقلناها من الصحاح فالتجويز في موضع واحد نص في الإباحة ، والمنع في ألف موضع محتمل للتأويل ومحتمل للتنزيل .

أما الفعل فلا تأويل له إذ ما حرم فعله إنما يحل بعارض الإكراه فقط ، وما أبيح فعله يحرم بعوارض كثيرة حتى النيات والقصود .

واحتجوا بما روي عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل شيء يلهو به الرجل فهو باطل إلا تأديبه فرسه ورميه بقوسه وملاعبته لامرأته .

قلنا : فقوله : باطل لا يدل على التحريم بل يدل على عدم الفائدة وقد يسلم ذلك .

على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة خارج عن هذه الثلاثة وليس بحرام بل يلحق بالمحصور غير المحصور قياسا كقوله صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث .

فإنه يلحق به رابع وخامس .

التالي السابق


(بيان حجج القائلين بتحريم السماع والجواب عنها)

(احتجوا) على ذلك بالكتاب والسنة أما من الكتاب فاحتجوا بقوله تعالى: ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ) قال ابن مسعود -رضي الله عنه- وكذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- والحسن البصري وإبراهيم بن يزيد النخعي وغيرهم: إن لهو الحديث هنا هو الغناء، وردت عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها) .

قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف قال البيهقي: ليس بمحفوظ . اهـ. فنقول في الجواب [ ص: 516 ] (أما) أولا فإن الحديث ليس بمحفوظ كما قاله البيهقي فسقط الاحتجاج به، وعلى التسليم (القينة: المراد بها الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب) هكذا قيده بعض أئمة اللغة وقال ابن السكيت هي الأمة البيضاء سواء كانت مغنية أو غير مغنية .

(وقد ذكرنا) آنفا (أن غناء الأجنبية للفساق ومن يخاف منه الفتنة حرام، وهم لا يقصدون بالقينة إلا ما هو محظور) شرعا، (فأما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث، بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة بدليل ما روي في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة -رضي الله عنها-) وسماع النبي -صلى الله عليه وسلم- لهما كما تقدم، ولنذكر حكم بيع الجارية المغنية إذا كانت تساوي ألفا بغير غناء وألفين بالغناء، فإن باعها بألف صح وإن باعها بألفين فقد اختلف فيه، فذهبت طائفة إلى بطلانه، ونقل عن مالك وأحمد واختاره من الشافعية المحمودي، وذهبت طائفة إلى الصحة، وهو مذهب الظاهرية، وإيراد صاحب الهداية يقتضي أنه مذهب أبي حنيفة، فإنه قاس آلات الملاهي عليه، واختاره من الشافعية أبو بكر الأدوني وجزم به الحليمي وقال: الثمن يكون حراما .

وقال إمام الحرمين: إنه القياس السديد، وصححه النووي واختاره أبو بكر بن العربي من المالكية، وبناه على إباحة الغناء وتحريمه، قال في العارضة: وأما بيع المغنية فيبنى على أن الغناء حرام أو ليس بحرام، وحكاه ابن حمدان قولا في مذهب أحمد، وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالت: إن قصد الغناء بطل وإلا فلا، وهو الموجود في كتب الحنابلة، وكذلك قال كثير من المالكية، فلا يجوز بزيادة ثمن لأجل الغناء، وقال ابن رشد في المقدمات: إن باع بزيادة ثمن لأجل الغناء حرم على المبتاع، وإن زاد المشتري لذلك حرم على المشتري خاصة، وذكر تقاسيم وحكى خلافا في أنه يحرم جميع الثمن أو ما يقابل الغناء، وقال في التهذيب، وكره مالك بيع المغنية، قال ابن القاسم فإن وقع فسخ، وقال الشوشاوي المالكي: إن شرط أنها مغنية فسد وإلا فلا، قال أشهب: لا تباع ممن يعلم أنها مغنية، وإن تبرأ من ذلك. وإلى التفصيل في الصحة وعدمها عند قصد الغناء وغيره ذهب من الشافعية أبو زيد المروزي، والله أعلم .

احتج من قال بالبطلان بحديث عائشة المتقدم، وبعضهم علله بأنها صنعة محرمة فلا يصح العقد عليها كسائر المحرمات، واحتج المجوزون بالنص والقياس، أما النص فقوله تعالى: وأحل الله البيع فعم كل بيع ولم يأت هنا ما يخصه فبقي على عمومه فيما لم يثبت فيه نص وأجابوا عن الحديث أنه ضعيف، وبعض الشافعية حمله على المغنية بالآلات المحرمة، وادعى أنه الغالب على المغنيات، فخرج الحديث مخرج الغالب، وألجأه إلى هذا أمران: الأول: أن بيع المغنيات كان مشهورا في الصدر الأول يتنافس فيهن بسببه، فقد ذكر صاحب الأغاني أن عبد الله بن جعفر اشترى جارية مغنية بأربعين ألفا، الثاني: أن المغنية عين طاهرة مستكملة لجميع شرائط البيع فصح بيعها قياسا على غيرها .

وأما الجواب عن الآية فقد رويت أقوال في معنى لهو الحديث فقيل: هو الطبل، نقله الطبري، وقيل: هو اللهو واللعب روي ذلك عن عطاء، وقيل: الجدال في الدين، وقيل: كل ما شغل عن ذكر الله، وقال ابن العربي: أصح ما قيل فيه أنه الباطل، وقال ابن إسحاق وغيره: إنها نزلت في النضر بن الحارث كان يشتري أخبار الأكاسرة فيحدث بها، وقال ابن قتيبة: إنها نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يشترون كتب الفرس والروم ويقرءونها للمسلمين ليصدوهم عن ذكر الله، وأخطأ من فسرها بالغناء، وقال ما معناه: إن الشراء لا يقع على عرض والغناء عرض، وعلى التسليم فإن (شراء لهو الحديث بالدين استبدالا به ليضل به عن سبيل الله فهو حرام مذموم وليس النزاع فيه، وليس كل غناء بدلا عن الدين ومشترى به ومضلا عن سبيل الله تعالى، وهو المراد في الآية) أي: لا يتم الاحتجاج بالآية إلا إن كان لهو الحديث موضوعا للغناء .

فإن الذم وقع على من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، ولا شك أنه (لو قرأ القرآن) أو فعل غيره من الطاعات (ليضل به عن سبيل الله كان ذلك حراما، فالتحريم والحالة هذه لعارض من جملة العوارض المحرمة فلا دلالة على الغناء المطلق، ومتى كان في محل الحكم وصف يمكن اعتباره وجب اعتباره، ولا يلغى (وحكي عن واحد من [ ص: 517 ] المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ في صلاته الجهرية إلا سورة عبس لما فيها من العتاب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهم عمر -رضي الله عنه- أي: قصد بقتله ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال، (فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم .

واحتجوا أيضا بقوله تعالى: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون ) قال ابن عباس -رضي الله عنه-: سامدون من السمد وهو (الغناء) باليمانية، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا. أخرجه هكذا عبد الرزاق في المصنف والفريابي وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن، وقال عكرمة: هو الغناء (بلغة حمير يعني السامد) أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جزء عنه: سمد لنا أي: غنى لنا، ووجه الاستدلال به أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم، والوصف المذموم شرعا محرم فعله .

فنقول في الجواب: إن الآية محتملة لمعان، وقد فسرت بغير ما ذكر، فقد نقل عن ابن عباس أيضا تفسيرها: بمعرضين عنه لاهين، أخرجه عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله تعالى: سامدون قال: لاهون معرضون عنه، وقال قتادة أي: غافلون .

أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأخرج الفريابي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانوا يمرون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي شامخين ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخا، وقيل: معناه مستكبرون، ونقل ذلك عن الضحاك، وقيل: غضاب مبرطمون، ونقل ذلك عن مجاهد أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، وقال المهدوي: المعروف في اللغة أن السمود اللهو والإعراض، وقال المبرد: سمد معناه صمد، وقال الجوهري: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا، وكل رافع رأسه فهو سامد، وقال الأعرابي: سمدت سمودا عاودت، وسمدت الإبل في سيرها جدت والسمود اللهو والسامد اللاهي .

وأخرج الطيبي في فوائد الطبراني عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: "سامدون"، قال: السمود اللهو والباطل، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد:


ليت عادا قبلوا الحـ ـق ولم يبدوا جحودا قيل قم فانظر إليهم
ثم دع عنك السمودا



وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال: خرج علي بن أبي طالب علينا وقد أقيمت الصلاة ونحن قيام ننتظره ليتقدم، فقال: ما لكم سامدون؟ لا أنتم في صلاة ولا أنتم جلوس تنتظرون.

وأخرج ابن جرير من طريق منصور بن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن القوم ينتظرون الإمام، وكان يقال: ذلك من السمود أو هو السمود، وقال منصور: حين يقوم المؤذن فيقومون ينتظرون، وقيل في معناه: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام، وهذا روي عن الحسن.

فإذا كان السمود موضوعا لما ذكرناه فاستعماله في الغناء يحتاج إلى دليل ولا دليل فانتفى ما قالوه على أنه لو كان موضوعا للغناء أو استعمل فيه لم تكن في الآية حجة، فإن الذم إنما ورد بقوم موصوفين بفعل أشياء من كونهم يضحكون من الحديث إذا سمعوه ويعجبون منه ولا يبكون ويسمدون .

(فينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا; لأن الآية تشتمل عليه) فإن المرتب على مجموع أشياء ينتفي بانتفاء بعضها بالضرورة، ولو سمعوا القرآن فاشتغلوا عن سماعه بالغناء كان حراما لما عرض لهم، وهو من مادة قوله: يشتري لهو الحديث، وقد ذكر القرطبي في كشف القناع عند الكلام على هذه الآية أشياء ضعيفة لا تستحق أن توضع بطون الأوراق، فمن ذلك قوله في تفسير ابن عباس: السمود يعني الغناء، أن تفسيرنا أولى فإنه عن ابن عباس وهو ترجمان القرآن فانظر هل يقول أحد: إن تأويل ابن عباس وتفسيره أرجح من تفسير علي وتأويله، وهذه أمور اجتهادية، فلا يزن الحق فيها بالرجال وإنما يرجح بالاستدلال، ثم إن ابن عباس كان يستفيد من علي وقال عنه: إنه أعطي تسعة أعشار العلم، ولقد شاركهم في العشر الآخر، وكونه ترجمان القرآن ليس فيه نفي الحكم عن غيره، وإلا لكان الصحابة ما يخالفونه بعد [ ص: 518 ] سماع ذلك (فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم، فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون ) أي: المضلون، (وأراد به شعراء الكفار ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه) كما هو ظاهر، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال مجاهد: إنه الغناء، وأتوا فيه (بما روي عن جابر) بن عبد الله -رضي الله عنه- (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال :كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى، فقد جمع بين النياحة والغناء) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا من حديث جابر وذكره صاحب الفردوس من حديث علي بن أبي طالب، ولم يخرجه ولده في مسنده . اهـ .

قلت: وكذا ذكر تلميذه الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار عند قوله، وذكر أبو شجاع الديلمي في كتاب الفردوس عن علي رفعه: إن أول من تغنى وزمر وحدا إبليس، ما لفظه ولم أقف له على أصل، ولا ذكر له ولده أبو منصور في مسنده سندا. اهـ. وفي لفظ: إن إبليس أول من تغنى وزمر ثم حدا، ثم ناح، ذكره صاحب الإمتاع وذكر القرطبي مثل ذلك في كشف القناع وقال: فإن صح الحديث وإلا فالمعنى غير بعيد، إذ لا يناسب أن يظهر هذا الفعل الخسيس إلا من إبليس . اهـ .

قلنا في الجواب عن الآية: لا نسلم أن صوته الغناء فإنه ليس موضوعا له فينصرف إليه، ولا دل عليه دليل في كتاب ولا سنة، وما قاله مجاهد معارض بمثله، فالمنقول عن ابن عباس أن معنى قوله: بصوتك، بدعائك إلى معصية الله تعالى، ونقل ذلك عن قتادة أيضا، وما رشحوه به من أن إبليس أول من تغنى لو صح لم تكن فيه حجة، فما كل ما فعله إبليس يكون حراما، على أن في بعض ألفاظه كما تقدم أنه أول من حدا وليس الحداء حراما بالاتفاق، فإن ادعوا أن الدليل دل على إباحة الحداء فخرج بدليل، قلنا: وقد دل الدليل على إباحة الغناء، ولم يثبت عن طريق صحيح المنع عنه، وسلك المصنف في الجواب مسلكا آخر فقال:

(لا جرم كما استثني منه نياحة داود -عليه السلام- ونياحة المذنبين على خطاياهم، فكذلك يستثنى) منه (الغناء الذي يراد به تحريك السرور والحزن والشوق حيث يباح تحريكه، كما استثني غناء الجاريتين في يوم العيد في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- و) كما استثني (غناؤهم) الأولى غناؤهن أي: جويريات الأنصار (عند قدومه) -صلى الله عليه وسلم- من بعض أسفاره (بقولهم) الأولى بقولهن:


(طلع البدر علينا من ثنيات الوداع)

إلى آخره كما تقدم ذلك، واحتجوا أيضا بآية أخرى ولم يذكرها المصنف، وهي قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما ، قال مجاهد ومحمد بن الحنفية: الزور الغناء، قالوا: واللغو كل سقط من قول وفعل فيدخل الغناء فيه، ورووا في ذلك أن ابن عمر سمع غناء فأسرع فبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لقد أصبح ابن عمر عبدا كريما، ذكره القرطبي في تفسيره عن ابن عمر، وذكره ابن عطية عن ابن مسعود، والجواب عن ذلك أنا لا نسلم أن الزور الغناء، فليس لفظ الزور موضوعا له ولا دليل نحمله عليه .

وما نقلوه من تفسير مجاهد وابن الحنفية فمعارض بمثله أيضا، فقد نقل جماعة من المفسرين عن علي وابنه محمد أنه من الشهادة، وتقديره: والذين لا يشهدون الزور، ونقل عن ابن جريج قال: الزور الكذب، وقيل: إنه الشرك وقيل: أعياد كانت لأهل الذمة، وقيل: لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور، وقيل: المجلس الذي كان يشتم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، نقل ذلك أبو بكر بن العربي في الأحكام، وضعف قول من فسره بالغناء، وكذا أيضا ما احتجوا به من قوله تعالى: وإذا مروا باللغو وإن المراد باللغو الغناء، ورشحوا ذلك بما رووه عن ابن عمر أنه مر بقوم وهم يغنون فأسرع، فليس اللغو الغناء، فإنما فسر في هذه الآية بكل سقط من قول وفعل لا نسلم اندراج الغناء فيه، وحديث ابن عمر لو صح لم تكن فيه حجة، فإن الإنسان إذا زهد في بعض المباحات، واشتغل بما هو أهم مدح ويثني عليه لاسيما إذا كان من قبيل اللهو واللعب .

وقد سمع ابن عمر الغناء بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- مرارا فيبعد صحة ما ذكروه، فهذا الجواب عن الآيات، وأما السنة فإنهم (احتجوا بما روى أبو أمامة) صدي بن عجلان الباهلي -رضي الله عنه- (عنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 519 ] أنه قال: ما رفع رجل صوته بغناء إلا بعث الله له شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، والطبراني في الكبير وهو ضعيف . اهـ .

قلت: رواه الطبراني من طريق مسلمة بن علي الدمشقي عن يحيى بن الحارث الذماري عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة رفعه بلفظ: لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، ولا الجلوس إليهن، ثم قال: والذي نفسي بيده ما رفع أحد عقيرته بغناء إلا ارتدف على ذلك شيطان على عاتقه هذا وشيطان على عاتقه هذا حتى يسكت. وقد رواه أيضا ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن مردويه ولفظهم: لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا تجارة فيهن وثمنهن حرام، إنما أنزلت هذه الآية في ذلك: ومن الناس من يشتري لهو الحديث والذي بعثني بالحق ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا بعث الله تعالى عند ذلك شيطانين يرتدفان على عاتقيه، ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت. واقتصر أحمد والبيهقي على صدر هذا الحديث إلى قوله: حرام .

وقال الترمذي في السنن: حدثنا قتيبة، حدثنا بكر بن مضر عن عبيد الله بن زحر عن علي بن أبي يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قال الترمذي: وفي الباب عن عمر بن الخطاب، وأخرجه الطبراني في الكبير من عدة طرق، كلها عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم، فأما مسلم بن علي فقال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، وكذا قال أبو القاسم بن عبد الرحمن قال فيه يحيى بن معين: لا يساوي شيئا، وقال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروي عن الصحابة المعضلات ويأتي عن الثقات بالأسانيد المقلوبات .

وأما عبيد الله بن زحر في رواية الترمذي، فقال الترمذي نفسه: تكلم فيه بعض أهل العلم وضعفه، وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد قيل: إن أضعف الأسانيد هذا الإسناد، وقال ابن طاهر وغيره عن أبي مسهر الغساني أنه قال: عبيد الله بن زحر صاحب كل معضلة، وليس على حديثه اعتماد، وقال يحيى بن معين: كل حديثه ضعيف، وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدا يروي الموضوعات عن الثقات، وإذا روى عن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد هو ويزيد والقاسم فلا يكون ذلك الحديث إلا مما عملته أيديهم لا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، وعلي بن يزيد قال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدا، والقاسم قال يحيى: لا يساوي شيئا، وقال أحمد: منكر الحديث .

وقال ابن حبان: يروي عن الصحابة المعضلات ويروي عن الثقات بالأسانيد المقلوبات، وهذا الحديث لو صح لم يدل على تحريم الغناء، وإنما قد يحتج به على تحريم غناء المغنيات ولا يصح قياس غيرهن عليهن، ويمنع أيضا دلالاته على تحريم غنائهن فإنه ليس فيه إلا النهي عن بيعهن وشرائهن، ولا يلزم من منع البيع تحريم الغناء .

ولئن سلمنا (قلنا هو منزل على بعض أنواع الغناء الذي قدمنا وهو الذي يحرك من القلب ما هو مراد الشيطان من الشهوة وعشق المخلوقين، فأما ما يحرك الشوق إلى الله تعالى أو السرور بالعبد أو حدوث الولد أو قدوم الغائب فهذا كله يضاد مراد الشيطان بدليل قصة الجاريتين و) قصة لعب (الحبشة) وغنائهم، (والأخبار التي نقلناها عن الصحاح) والحسان قبل ذلك (فالتجويز في موضوع واحد نص في الإباحة، والمنع في ألف موضع محتمل للتأويل ومحتمل للتنزيه) جمعا بين الأقوال المتضادة (أما الفعل فلا تأويل له إذ ما حرم فعله إنما يحل بعارض الإكراه فقط، وما أبيح فعله بعوارض كثيرة حتى النيات والقصود واحتجوا) أيضا (بما روي عن عقبة بن عامر) الجهني -رضي الله عنه- (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كل شيء يلهو به الرجل فهو باطل إلا تأديبه فرسه ورميه بالقوس وملاعبته امرأته) وفي نسخة: زوجته، وفي أخرى: أهله، قال العراقي: رواه أصحاب السنن الأربعة، وفيه اضطراب . اهـ .

قلت: هذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن حزم بعد أن خرجه من طرق وضعفها، فيه مجهولون ولفظ النسائي: كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو الحديث [ ص: 520 ] ورواه النسائي أيضا والباوردي والطبراني في الكبير والبيهقي والضياء من حديث جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاري بلفظ: كل شيء ليس من ذكر الله لهو ولعب، إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الفرضين، وتعليم الرجل السباحة.

قال البغوي: ولا أعلم لجابر بن عمير غير هذا الحديث، ورواه النسائي أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ: كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة: انتضالك بقوسك، وتأديبك فرسك، وملاعبتك أهلك، فإنها من الحق. الحديث، ووجه الاستدلال منه أن الغناء ليس من الثلاثة ولا من الأربعة، فيكون لعبا وباطلا، وذلك حرام إلا ما خرج بدليل .

(قلنا: فقوله: باطل) ، وفي نسخة: قوله فهو باطل (لا يدل على التحريم بل يدل على عدم الفائدة) ، فإن الباطل ما لا فائدة فيه، وأكثر المباحات لا فائدة فيه، (وقد يسلم ذلك على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة خارج عن هذه الثلاثة وليس بحرام بل) على عدم الفائدة و (يلحق بالمحصور وغير المحصور قياسا) ، وهذا تقرير جواب ثان وحاصله أن هذا العام خرجت منه مفردات كثيرة جدا، وإذا كثرت مخصصات العام لم تبق فيه حجة عند قوم، وعند من يتمسك بالعموم فنقول: هذا العام خرج منه الغناء بالأدلة التي ذكرت، (كقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يحل دم امرئ مسلم) يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله (إلا بإحدى ثلاث) الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه والمفارق للجماعة. رواه عبد الرزاق في المصنف، وأحمد وابن أبي شيبة والشيخان والأربعة من حديث ابن مسعود ، وفي لفظ: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فيرجم، أو ارتد بعد إسلام فيقتل، أو قتل نفسا بغير حق فقتل به. رواه كذلك عبد الرزاق والطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه والحاكم من حديث عثمان بن عفان، ورواه البيهقي والضياء من حديث عائشة، ورواه أحمد من حديث طلحة، (فإنه يلحق به رابع وخامس) إلحاقا لغير المحصور بالمحصور .




الخدمات العلمية