الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر ، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك ، ومحتملين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله .

وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ما نقل علماء السلف ، وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين في كتاب الحلال والحرام ونقتصر الآن على حكايات تعرف وجه الوعظ وكيفية الإنكار عليهم .

فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أكابر قريش حين قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء .

وذلك ما روي عن عروة رضي الله عنه قال : قلت لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما رأيت قريشا نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما كانت تظهر من عدواته ، فقال : حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، ولقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه عليه السلام، ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف ، ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده فقد جئتكم بالذبح قال فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف .

يا أبا القاسم راشدا ، فوالله ما كنت جهولا قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر ، وأنا معهم فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه ، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا أنت الذي تقول كذا لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم ، قال : فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم أنا الذي أقول ذلك قال فلقد رأيت منهم رجلا أخذ بمجامع ردائه قال : وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عنه وإن ، ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه .

وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال بينا : رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم .

وروي أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له : يا معاوية إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك .

قال فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال لهم مكانكم وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال : إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم ، فليغتسل وإني دخلت فاغتسلت ، وصدق أبو مسلم إنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم .

وروي عن ضبة بن محصن العنزي قال : كان علينا أبو موسى الأشعري أميرا بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله ، وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قال : فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له : أين أنت من صاحبه تفضله عليه فصنع ذلك جمعا ، ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول : إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي في خطبتي .

فكتب إليه عمر أن أشخصه إلي ، قال فأشخصني إليه فقدمت فضربت عليه الباب فخرج إلي ، فقال : من أنت ، فقلت : أنا ضبة فقال لي لا : مرحبا ولا أهلا ، قلت : أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال، فبماذا استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته ، ولا شيء أتيته فقال ما الذي شجر بينك وبين عاملي ، قال قلت : الآن أخبرك به إنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أنشأ يدعو لك ، فغاظني ذلك منه ، فقمت إليه فقلت له : أين أنت من صاحبه تفضله عليه ، فصنع ذلك جمعا ، ثم كتب إليك يشكوني .

قال : فاندفع عمر رضي الله عنه باكيا ، وهو يقول : أنت والله أوفق منه وأرشد ، فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك ، قال قلت : غفر الله لك يا أمير المؤمنين .

قال : ثم اندفع باكيا وهو يقول : والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر ، فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه ، قلت : نعم قال: أما الليلة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج من مكة هاربا من المشركين خرج ليلا ، فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من أفعالك ، فقال : يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون خلفك ، ومرة عن يمينك ، ومرة عن يسارك لا آمن عليك .

قال فمشى : رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت ، فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال : والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله ، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك ، قال : فدخل فلم ير فيه شيئا فحمله فأدخله ، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع ، فألقمه أبو بكر قدمه مخافة أن يخرج منه شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه وجعلن يضربن أبا بكر في قدمه ، وجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألم ما يجد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه والطمأنينة لأبي بكر ، فهذه ليلته .

وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال بعضهم نصلي ولا نزكي فأتيته لا آلوه نصحا فقلت يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس وارفق بهم .

فقال لي : أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام فبماذا أتألفهم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي فوالله لو منعوني عقالا كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه قال : فقاتلنا عليه ، فكان والله رشيد الأمر .

فهذا يومه .

ثم كتب إلى أبي موسى يلومه .

التالي السابق


(ولما علم المتصلبون في الدين) أي الأشداء فيه (أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك) الكلام (إذا قتل) لأجل كلامه، (فهو شهيد) ويبعث في زمرة الشهداء عند الله يوم القيامة (كما وردت به الأخبار) التي تقدم ذكر بعضها (قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين على أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى محتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله تعالى) لا يبالون في الله لومة لائم، ولا يلتفتون إلى كثرتهم وتواطئهم، ولا يكترثون لممانعتهم ولمقاطعتهم، متكلين على من هو منشئهم وكافيهم مستنصرين بمن هو قاصمهم وشانئهم، (وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر ما نقل عن علماء السلف، وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين في كتاب الحلال والحرام) فأغنانا عن الإعادة، (ونقتصر الآن على حكايات تعرف وجه الوعظ وكيفية الإنكار عليهم، فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - على أكابر قريش) صناديدهم (حين قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء) والمكر (وذلك ما روي عن عروة) بن الزبير (قال: قلت لعبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما (ما أكثر ما رأيت قريشا نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما كانت تظهر من عداوته، فقال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر) أي في حجر الكعبة (فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا) أي عقولنا أي نسبها إلى السفه (وشتم آباءنا وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، ولقد صبرنا منه على عظيم أو كما قالوا) خوفا من زيادة في الكلام أو نقص، (فبينما هم في ذلك) الكلام (إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال) الراوي (فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي تغير وجهه الشريف بما غمزوه [ ص: 66 ] (ثم مضى) طائفا، (فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها حتى وقف، ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح) أي بالقتل (قال) الراوي (فأطرق القوم) أي طأطؤوا رؤوسهم إلى الأرض حتى (ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع) ، وهو مثل لشدة الإطراق (حتى إن أشدهم فيه وقيعة ليرفؤه) أي يسكنه (بأحسن ما يجد من القول) ، وألينه (حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم راشدا، فوالله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم) أي فاتحكم وواجهكم (بما كنتم تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا لما بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك قال) الراوي: (فلقد رأيت منهم رجلا أخذ بمجامع ردائه) أي: ولببه (قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكى: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه قط) .

قال العراقي: رواه البخاري مختصرا، وأورده ابن حبان بتمامه اهـ .

(وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط) أحد أشراف قريش (فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر) رضي الله عنه، (فأخذ بمنكبه) أي عقبة، (ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) .

رواه البخاري في الصحيح، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر: أتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وإن له غدائر فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، قال: فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول تباركت ذا الجلال والإكرام .

(وروي أن معاوية) بن أبي سفيان (رضي الله عنه حبس العطاء) عن أهله مرة، وكان على المنبر (فقام إليه أبو مسلم الخولاني) عبد الله بن ثوب بن خيار تابعي من أهل الشام نزلها في أيام معاوية وكان صاحب كرامات، (فقال له: يا معاوية إنه) أي المال (ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك قال) الراوي، (فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال لهم مكانكم) أي لا تفارقوا (ثم) غاب عنهم ثم (خرج عليهم) ، وصعد المنبر (فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الغضب من الشيطان) لأنه ناشئ عن وسوسته وإغوائه، فأسند إليه ذلك، (والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء) ، وفي رواية: وإنما يطفئ النار (فإذا غضب أحدكم، فليغتسل وإني دخلت) المنزل، (فاغتسلت، وصدق أبو مسلم إنه ليس من كدي ولا كد أبي فهلموا إلى عطائكم غدا إن شاء الله تعالى) قال العراقي: هذا الحديث بقصته، رواه أبو نعيم في الحلية، وفيه من لا أعرفه اهـ .

قلت: وكذلك رواه ابن عساكر في التاريخ (وروي عن ضبة بن محصن العنزي) [ ص: 67 ] بسكون النون البصري ذكره ابن حبان في كتاب الثقات روى له مسلم وأبو داود والترمذي حديثا واحدا .

(قال: كان علينا أبو موسى) عبد الله بن قيس (الأشعري) رضي الله عنه (أميرا بالبصرة) ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (وكان إذا خطبنا حمد الله، وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشأ) بعد ذلك (يدعو لعمر) بن الخطاب رضي الله عنه (قال: فغاظني) وأغضبني (ذلك فقمت فقلت له: أين أنت عن صاحبه) يعني أبا بكر -رضي الله عنه- (تفضله عليه فصنع ذلك جمعا، ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول:) في شكواه (إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي في خطبتي، فكتب إليه عمر) رضي الله عنه (أن اشخص به إلي) أي وجهه إلي (فأشخصني إليه فقدمت فدققت عليه الباب فخرج إلي، فقال: من أنت، فقلت: أنا ضبة بن محصن العنزي قال فقال: فلا مرحبا ولا أهلا، قلت: أما الرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل ولا مال، فبماذا استحللت إشخاصي من بصرتي) ، وفي نسخة من البصرة (بلا ذنب أذنبته، ولا شيء أتيته، قال: فما الذي شجر بينك وبين عاملي، قال قلت: الآن أخبرك به إنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أنشأ يدعو لك، فغاظني ذلك منه، فقمت إليه فقلت له: أين أنت عن صاحبه تفضله عليه، فصنع ذلك جمعا، ثم كتب إليك يشكوني قال: فاندفع عمر رضي الله عنه باكيا، وهو يقول: أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر لي ذنبي غفر الله لك، قال قلت: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، قال: ثم اندفع باكيا وهو يقول: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر، فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه، قلت: نعم قال: أما الليلة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج من مكة هاربا من المشركين خرج ليلا، فتبعه أبو بكر وجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من أفعالك، فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك لا آمن عليك، قال: فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت، فلما رأى أبو بكر) رضي الله عنه (أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار) الذي في جبل ثور، (فأنزله فقال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، قال: فدخل فلم يجد به شيئا فحمله وأدخله في الغار، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فألقمه أبو بكر) رضي الله عنه (قدمه مخافة أن يخرج منهن شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه وجعلن) أي الحيات والأفاعي (يضربن أبا بكر في قدمه، وجعلت دموعه تنحدر) أي تسيل (على خديه من ألم ما يجده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله عليه سكينته أي الطمأنينة لأبي بكر، فهذه ليلته، وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب) وهم ثمانية قبائل منهم، (فقال بعضهم نصلي ولا نزكي فأتيته لا آلوه نصحا) أي أقصر في نصيحته، (فقلت يا خليفة رسول الله [ ص: 68 ] تألف الناس) أي خذهم بالألفة، (وارفق بهم فقال: أجبار في الجاهلية) أي شديد الأسر (خوار في الإسلام) أي ضعيف فارغ، (فبماذا أتألفهم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي) أي انقطع نزوله، (فوالله لو منعوني عقالا كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه) ، والعقال بالكسر قيل المراد به الحبل الذي تعقل به الناقة، وإنما ضرب مثلا لتقليل ما عساهم أن يمنعوه لأنهم كانوا يخرجون الإبل إلى الساعي ويعقلونها بالعقل حتى يأخذها كذلك، وقيل: المراد به نفس الصدقة، فكأنما قال: لو منعوني شيئا من الصدقة، ومنه يقال: دفعت عقال عام، (قال: فقاتلنا عليه، فكان والله رشيد الأمر فهذا يومه ثم كتب إلى أبي موسى) الأشعري (يلومه) فيما فعله .

قال العراقي: رواه البيهقي هكذا بطوله في دلائل النبوة بإسناد ضعيف، وقصة الهجرة رواها البخاري من حديث عائشة بغير هذا السياق، واتفق عليها الشيخان من حديث أبي بكر بلفظ آخر ولهما من حديثه قال: قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما .

وأما قتاله لأهل الردة ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، الحديث اهـ .

قلت: وأما حديث سد الخرق بقدمه فأخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أنس قال: لما كان ليلة الغار، قال أبو بكر: يا رسول الله دعني لأدخل قبلك فإن كان وجيئة أو شيء كانت بي قبلك، قال: ادخل، فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه، فكلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقي جحر فوضع عقبه عليه، ثم أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ثوبك يا أبا بكر، فأخبره بالذي صنع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة، فأوحى الله إليه أن الله تعالى قد استجاب لك.




الخدمات العلمية