الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه علما يقينيا بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس وإنما ينفتح ذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم : سبق المفردون قيل : ومن هم المفردون يا رسول الله ? قال المتنزهون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافا ثم قال في وصفهم إخبارا عن الله تعالى فقال ثم : أقبل بوجهي عليهم أترى من واجهته بوجهي يعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه ، ثم قال تعالى : أول ما أعطيهم أن أقذف النور في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم .

التالي السابق


(فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك) فإن غالب العلوم كذلك، (وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعته اللوح المحفوظ فتعلمه علما يقينا بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في غير الماضي من غير اقتباس) في ذلك (من جهة الحواس) الظاهرة (وإنما ينفتح ذلك الباب لمن أفرد ذكر الله تعالى ، قال النبي: صلى الله عليه وسلم: سبق المفردون) روي بتشديد الراء وتخفيفها ، والتخفيف هو الذي جنح إليه الحكيم الترمذي كما سيأتي كلامه وإياه تبع المصنف ، وقال النووي في الأذكار: والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد اهـ .

وقال الحافظ: والراء مفتوحة وقيل: مكسورة ، يقال: فرد الرجل مشددا ومخففا، وتفرد وأفرد، الكل بمعنى اهـ .

وقال غيره: فرد بالشديد: إذا اعتزل وتخلى للعبادة ، فكأنه أفرد نفسه بالتبتل إلى الله تعالى ، والمعنى : سبقوا بنيل الزلفى والعروج إلى الدرجات العلى (قيل: ومن هم؟ قال) : هم (المستهترون بذكر الله) وفي رواية: المستهرون في ذكر الله ، وعلى الأول فالمراد الذين أولعوا به، يقال: اهتر بفلان واستهتر فهو مستهتر أي: مولع به ، ولا يتحدث بغيره ولا يفعل سواه ، وقال الحكيم الترمذي : المستهر: هو الذي نطق من ربه يشبه كلامه كلام من لم يستعمله عقله؛ لأن العقل يخرج الكلام على اللسان بتدبر وتؤدة ، وهذا المهتر إنما نطقه كأنما يجري على لسانه حتى يشبه الهذيان في بعض الأحيان عند العامة ، وهو في الباطن مع الله من الأصفياء الناطقين اهـ .

(وضع الذكر) عنهم (أوزارهم) أي: أثقالهم من ذنوبهم التي أثقلتهم (فوردوا القيامة خفافا) فيسبقون؛ لأنهم جعلوا أنفسهم أفرادا ممتازة بذكر الله عمن لم يذكر الله أو جعلوا ربهم فردا بالذكر وتركوا ذكر ما سواه وهو حقيقة التفريد ههنا0 ، وقال الحكيم الترمذي : المفرد هنا من أفرد قلبه للواحد في وحدانيته ولازم الباب حتى رفع له الحجاب وأوصله إلى قربه ، فكان بين يدي ربه، وعبارة القوت: فأما العارفون المواجهون بعين اليقين المكاشفون بعلم الصديقين فإنهم مسيرون محمولون سابقون مستهرون ، وقد وضعت الأذكار عنهم الأوزار كما جاء في الخبر: سيروا سبق المفردون أيضا بالفتح، فهم مفردون لله تعالى بما أفردهم الله عز وجل ، قيل: من المفردون؟ قال: المستهترون بذكر الله وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافا ، فلما أفردهم ممن سواهم له أفردوه عما سواه به تعالى بذكرهم ، فاستولى عليهم ذكره فاصطلم قلوبهم نوره تعالى ، فاندرج ذكرهم في ذكره ، وكان هو الذاكر بهم وكانوا هم المكان لمجاري قدرته فلا يوزن مقدار هذا الذكر، ولا تكتب كيفية هذا البر ، فلو وضعت السماوات والأرض في كفة لرجح ذكره تعالى بهما، (ثم قال) -صلى الله عليه وسلم- (في وصفهم: أقبل عليهم بوجهي أترى من واجهته بوجهي يعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه، ثم قال: أول ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم) ولفظ القوت: : وهم الذين قال لهم: فترى من واجهته بوجهي يعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه لو كانت السماوات والأرضون في موازينهم لاستقللتها بهم، أول ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عني كما أخبر عنهم ، قال: هذا هو ظاهر أوصافهم وأول عطائهم اهـ .

قال العراقي : رواه مسلم من حديث أبي هريرة مقتصرا على أول الحديث ، وقال فيه: وما المفردون؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. ورواه الحاكم قال: الذين يستهترون في ذكر الله. وقال: صحيح على شرط الشيخين ، وزاد فيه الترمذي : يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة

[ ص: 254 ] خفافا
، وقال: حديث حسن غريب . ورواه هكذا الطبراني في المعجم الكبير من حديث أبي الدرداء دون الزيادة التي ذكرها المصنف في آخره وكلاهما ضعيف اهـ .

قلت: رواه مسلم عن أمية بن بسطام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا روح بن القاسم ، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسير في طريق مكة ، فمر على جبل يقال له: جمدان فقال: هذا جمدان ، سيروا ، سبق المفردون. قالوا : يا رسول الله، وما المفردون؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات" . وأخرجه ابن حبان في مسنده ، والفريابي في كتاب الذكر والتسبيح، كلاهما عن الحسن بن سفيان عن أمية بن بسطام ، وأخرجه كذلك أحمد في مسنده ، ولفظ حديث أبي الدرداء عند الطبراني : " سبق المفردون ، وقالوا: وما المفردون؟ قال: هم المستهترون في ذكر الله ، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا." وسنده ضعيف لضعف شيخه عبد الله بن سعيد ابن أبي مريم قال الهيثمي: وقال إسحاق بن راهويه في مسنده: حدثنا إسحاق بن سليمان ، سمعت موسى بن عبيدة يحدث عن أبي عبد الله القراظ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنا نسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرق من جمدان، فقال: يا معاذ ، أين السابقون؟ فقلت: مضوا وتخلف أناس ، فقال: إن السابقين الذين يهترون بذكر الله عز وجل ، من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله. وموسى ضعيف، لكن يقوى بحديث أبي هريرة السابق ذكره .



(تنبيه)

قال البيضاوي: وإنما قالوا: وما المفردون؟ ولم يقولوا: من هم؛ لأنهم أرادوا تفسير اللفظ وبيان ما هو المراد منه لا تعيين المتصفين به ، وتعريف أشخاصهم، فسأل في الجواب عن بيان اللفظ إلى حقيقة ما يقتضيه توفيقا للسائل بالبيان المعنوي على المعنى اللغوي إيجازا فاكتفي فيه بالإشارة المعنوية إلى ما استبهم عليه من الكناية اللفظية اهـ .




الخدمات العلمية