الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قلوب المتقين الخالية من الهوى والصفات المذمومة فإنه يطرقها الشيطان لا للشهوات ، بل لخلوهابالغفلة عن الذكر ، فإذا عاد إلى الذكر خنس الشيطان، ودليل ذلك قوله تعالى : فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وسائر الأخبار والآيات الواردة في الذكر .

قال ، أبو هريرة التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر ، فإذا شيطان الكافر دهين سمين كلس وشيطان المؤمن مهزول أشعث أغبر عار فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن ما لك : مهزول ؟ : ؟ قال : أنا مع رجل إذا أكل سمى الله فأظل جائعا ، وإذا شرب سمى الله فأظل عطشانا ، وإذا لبس سمى الله فأظل عريانا ، وإذا ادهن سمى الله فأظل شعثا فقال لكني مع رجل لا يفعل شيئا من ذلك ، فأنا أشاركه في طعامه وشرابه ولباسه وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح اللهم إنك سلطت علينا عدوا بصيرا بعيوبنا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم اللهم فآيسه منا كما آيسته من رحمتك ، وقنطه منا كما قنطته من عفوك ، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبين رحمتك ، إنك على كل شيء قدير . قال فتمثل له إبليس يوما في طريق المسجد فقال له : يا ابن واسع هل تعرفني قال ؟ : ومن أنت ? قال : أنا إبليس فقال : وما تريد ? قال : أريد أن لا تعلم أحدا هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك ، قال : والله لا أمنعها ممن أراد ، فاصنع ما شئت وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كان شيطان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بيده شعلة من نار فيقوم بين يديه وهو يصلي فيقرأ ويتعوذ فلا يذهب ، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له : قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ، فقال ذلك فطفئت شعلته وخر على وجهه .

وقال الحسن نبئت أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عفريتا من الجن يكيدك ، فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي .

وقال صلى الله عليه وسلم - : أتاني الشيطان فنازعني ثم نازعني فأخذت بحلقه ، فوالذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد ماء لسانه على يدي ، ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح طريحا في المسجد وقال صلى الله عليه وسلم - : ما سلك عمر فجا إلا سلك الشيطان فجا غير الذي سلكه عمر وهذا لأن القلوب كانت مطهرة عن مرعى الشيطان وقوته وهي الشهوات ، فمهما طمعت في أن يندفع الشيطان عنك بمجرد الذكر كما اندفع عن عمر رضي الله عنه ، كان محالا وكنت كمن يطمع أن يشرب دواء قبل الاحتماء والمعدة مشغولة بغليظ الأطعمة ويطمع أن ينفعه كما نفع الذي شربه بعد الاحتماء وتخلية المعدة والذكر الدواء ، والتقوى احتماء ، وهي تخلي القلب عن الشهوات فإذا ، نزل الذكر قلبا فارغا عن غير الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزول الدواء في المعدة الخالية عن الأطعمة ، قال الله تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وقال تعالى كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ومن ساعد الشيطان بعمله فهو مواليه وإن ذكر الله بلسانه وإن كنت تقول : الحديث قد ورد مطلقا بأن الذكر يطرد الشيطان ولم تفهم أن أكثر عمومات الشرع مخصوصة بشروط نقلها علماء الدين ، فانظر إلى نفسك فليس الخبر كالعيان وتأمل أن منتهى ذكرك وعبادتك الصلاة فراقب قلبك إذا كنت في صلاتك كيف يجاذبه الشيطان إلى الأسواق ، وحساب العالمين وجواب المعاندين ، وكيف يمر بك في أودية الدنيا ومهالكها حتى إنك لا تذكر ما قد نسيته من فضول الدنيا إلا في صلاتك ، ولا يزدحم الشيطان على قلبك إلا إذا صليت فالصلاة محك القلوب فبها يظهر ، محاسنها ومساويها فالصلاة لا تقبل من القلوب المشحونة بشهوات الدنيا ، فلا جرم لا ينطرد عنك الشيطان بل ربما يزيد عليك الوسواس كما أن الدواء قبل الاحتماء ربما يزيد عليك الضرر ، فإن أردت الخلاص من الشيطان فقدم الاحتماء بالتقوى ثم أردفه بدواء الذكر يفر ، الشيطان منك كما فر من عمر رضي الله عنه ولذلك قال وهب بن منبه اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر أي أنت مطيع له ، وقال بعضهم يا عجبا : لمن يعصى المحسن بعد معرفته بإحسانه ويطيع اللعين بعد معرفته بطغيانه وكما إن الله تعالى قال ادعوني أستجب لكم وأنت تدعوه ولا يستجيب لك ، فكذلك تذكر الله ولا يهرب الشيطان منك لفقد شروط الذكر والدعاء .

قيل لإبراهيم بن أدهم ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ، وقد قال تعالى : ادعوني أستجب لكم قال : لأن قلوبكم ميتة ، قيل : وما الذي أماتها ? قال : ثمان خصال : عرفتم حق الله ولم تقوموا بحقه ، وقرأتم القرآن ولم تعملوا بحدوده ، وقلتم نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعملوا بسنته ، وقلتم نخشى الموت ولم تستعدوا له ، وقال تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فواطأتموه على المعاصي ، وقلتم نخاف النار وأرهقتم أبدانكم فيها ، وقلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها ، وإذا قمتم من فرشكم رميتم عيوبكم وراء ظهوركم ، وافترشتم عيوب الناس أمامكم فأسخطتم ربكم ، فكيف يستجيب لكم .

؟ فإن قلت : فالداعي إلى المعاصي المختلفة شيطان واحد أو شياطين مختلفون ? فاعلم أنه لا حاجة لك إلى معرفة ذلك في المعاملة ، فاشتغل بدفع العدو ولا تسأل عن صفته كل البقل من حيث يؤتى ، ولا تسأل عن المبقلة ولكن الذي يتضح بنور الاستبصار في شواهد الأخبار أنهم جنود مجندة وأن لكل نوع من المعاصي شيطانا يخصه ويدعو إليه فأما ، طريق الاستبصار فذكره يطول ، ويكفيك القدر الذي ذكرناه وهو أن اختلاف المسببات يدل على اختلاف الأسباب ، كما ذكرناه في نور النار وسواد الدخان .

وأما الأخبار فقد قال مجاهد لإبليس خمسة من الأولاد قد جعل كل واحد منهم على شيء من أمره ثبر والأعور ومسوط وداسم وزلنبور فأما ثبر فهو صاحب المصائب الذي يأمر بالثبور وشق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية ، وأما الأعور فإنه صاحب الزنا يأمر به ويزينه وأما مسوط فهو صاحب الكذب ، وأما داسم فإنه يدخل مع الرجل إلى أهله يرميهم بالعيب عنده ويغضبه عليهم ، وأما زلنبور فهو صاحب السوق فبسببه لا يزالون متظلمين وشيطان الصلاة يسمى خنزب وشيطان الوضوء يسمى الولهان .

وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة .

التالي السابق


(وأما قلوب المتقين الخالية عن الهوى والصفات المذمومة فإنه يطرقها الشيطان لا للشهوات، بل لخلوهابالغفلة عن الذكر ، فإذا عاد إلى الذكر خنس

[ ص: 285 ] الشيطان) أي: تأخر وانقبض (ودليل قوله تعالى: فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) أي: اطلب اللجأ من الله تعالى من شره (وسائر الأخبار والآيات الواردة في الذكر ، وقال أبو هريرة) رضي الله عنه (التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر ، فإذا شيطان الكافر دهين سمين) أي: مدهون مسرح الشعر وافر اللحم (وشيطان المؤمن مهزول) أي: نحيف البدن (أشعث أغبر عار) الجسد (فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: ما لك مهزول؟) أي: نحيف البدن (أشعث أغبر عار) الجسد ( فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: ما لك مهزول؟ قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى) الله تعالى على أكله (فأظل جائعا ، وإذا شرب سمى) الله تعالى على شربه (فأظل عطشانا ، وإذا لبس سمى) الله تعالى عند لبسه، (فأظل عريانا ، وإذا ادهن سمى) الله تعالى عند ادهانه (فأظل شعثا) مثفلا (فقال) شيطان الكافر (لكني مع رجل لا يفعل شيئا من ذلك ، فأنا أشاركه في طعامه وشرابه ولباسه) وادهانه ، فقد روى مسلم من حديث جابر: " إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه ، حتى يحضره عند طعامه ، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان " الحديث ، وروى الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة : إن الشيطان حساس لحاس من الطعام ، فاحذروه على أنفسكم. الحديث ، ودل أثر أبي هريرة السابق أن الشيطان يأكل ويشرب ويلبس ويشم حقيقة ، وقد شنع ابن العربي في شرح الترمذي على من قال: إن أكله إنما هو الشم فقط ، بل الصحيح أنه يشم ويأكل وله لذة في الشم كلذته في اللقمة كلذتنا في كل طعمة .

(وكان) أبو عبد الله (محمد بن واسع) البصري العابد (يقول كل يوم بعد صلاة الصبح) هذه الاستعاذة: (اللهم إنك سلطت علينا عدوا بصيرا بعيوبنا) يعني به الشيطان (يرانا هو وقبيله) أي: جماعته (من حيث لا نراهم) لكونهم يجرون مجرى الدم (اللهم فآيسه منا) أي اجعله مأيوسا منا (كما آيسته من رحمتك ، وقنطه منا كما قنطته من عفوك ، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبين رحمتك ، إنك على كل شيء قدير. قال) الراوي: (فتمثل له إبليس يوما في طريق المسجد فقال: يا ابن واسع هل تعرفني؟ فقال: ومن أنت؟ قال: أنا إبليس ، قال: وما تريد؟ قال: أريد أن لا تعلم أحدا هذه الاستعاذة، قال: والله ما أمنعها ممن أرادها ، فاصنع ما شئت) .

وأخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمته من طريق سلام بن أبي مطيع قال: كان محمد بن واسع إذا صلى المغرب يلتزق بالقبلة يصلي فقال: حدثني خياط كان يقرب منه قال: كان يقول في دعائه: أستغفرك من كل مقام سوء ومخرج سوء وعمل سوء ونية سوء ، أستغفرك منه فاغفر لي ، وأتوب إليك منه فتب علي ، وألقي إليك بالسلام قبل أن يكون لزاما، (وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاري تابعي ، وهو والد محمد ، وأبوه أبو ليلي له صحبة ، واختلف في اسمه على أقوال ، شهد أحدا وما بعدها ، وعاش إلى خلافة علي (قال: كان الشيطان يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده شعلة من نار فيقوم بين يديه وهو يصلي فيقرأ أو يتعوذ فلا يذهب ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ومن فتن الليل وطوارق النهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ، فقال ذلك فطفئت شعلته وخر على وجهه) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان هكذا مرسلا ، ولمالك في الموطأ نحوه ، عن يحيى بن سعيد مرسلا ، ووصله ابن عبد البر في التمهيد من رواية يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن عياش الشامي ، عن ابن مسعود ، ورواه أحمد والبزار من حديث عبد الرحمن بن خنيس ، وقيل: كيف صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة كادته الشياطين؟ فذكر نحوه ، سئل أبو زرعة عن عبد الرحمن: هل له صحبة؟ قال: لا أعرف. (وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (نبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن عفريتا من الجن يكيدك ، فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ

[ ص: 286 ] آية الكرسي) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان هكذا مرسلا ، (وقال -صلى الله عليه وسلم- : لقد أتاني الشيطان فنازعني) أي: في الصلاة (ثم نازعني فأخذت بحلقه ، فوالذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد ماء لسانه على يدي ، ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح طريحا) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا من رواية الشعبي مرسلا هكذا ، وللبخاري من حديث أبي هريرة أن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة أو كلمة نحوها ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه. الحديث. وللنسائي في الكبير من حديث عائشة كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه قال: وجدت برد لسانه على يدي. وإسناده جيد . ا هـ .

قلت: وللبخاري أيضا: إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي ، فأمكنني الله منه فذعته ، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه ، فذكرت قول سليمان: وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرده الله خاسئا. ورواه مسلم أيضا نحوه ، وفي لفظ له: فشد علي بشهاب من نار ليجعله في وجهي ، وفي لفظ آخر: عرض لي في صورة هر . (وقال -صلى الله عليه وسلم- : ما سلك الشيطان فجا) أي: طريقا (سلكه عمر) كذا في النسخ وفي بعض النسخ: ما سلك عمر فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجه. قال العراقي : متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ "ابن الخطاب" : ما لقيك الشيطان سالكا فجا. . الحديث. ا هـ .

قلت: وروى الدارقطني في الأفراد ، وابن منده وابن عساكر من حديث حفصة: ما لقي الشيطان عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه. ورواه الحكيم والطبراني وأبو نعيم من طريق الأوزاعي عن سديسة مولاة حفصة ، ولا يعلم للأوزاعي سماع من أحد الصحابة ، ورواه الطبراني في الأوسط ، فقال: الأوزاعي عن سالم عن سديسة وهو الصواب ، وروى الحكيم في النوادر عن عمر: ما لقي الشيطان قط عمر في فج فسمع صوته إلا أخذ في غيره. وروى أحمد والترمذي وأحمد وابن حبان من حديث بريدة: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر، (وهذا لأن القلوب كانت مطهرة من مرعى الشيطان وقوته وهي الشهوات ، فمهما طمعت في أن يندفع الشيطان عنك بمجرد الذكر كما اندفع عن عمر رضي الله عنه ، كان محالا وكنت كمن يطمع أن يشرب دواء قبل الاحتماء) من المغلظات (والمعدة مشغولة بغليظ الأطعمة) ورديئها (ويطمع أن ينفعه كما نفع الذي شربه بعد الاحتماء وتخلية المعدة) لا يستويان (فالذكر بمنزلة الدواء، والتقوى) بمنزلة (الاحتماء ، وهي تخلي القلب عن الشهوات ، فإنه إذا نزل الذكر قلبا فارغا عن غير الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزول الدواء في المعدة الخالية من الأطعمة ، قال الله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وقال) الله تعالى: ( كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ومن ساعد الشيطان بعمله فهو مواليه) ومصادقه (وإن ذكر الله بلسانه) فإنه لا يمنع موالاته (وإن كنت تقول: الحديث قد ورد مطلقا أن الذكر يطرد الشيطان) يشير إلى ما تقدم ، فإن ذكر الله خنس (ولم تفهم أن أكثر عمومات الشرع مخصوصة بشروط) معروفة (نقلها علماء الدين ، فانظر إلى نفسك فليس الخبر كالعيان) بالكسر أي كالمعاينة. فهو حديث، وقد تقدم الكلام فيه (وتأمل أن منتهى ذكرك وعبادتك الصلاة) إذ هي أعظم القربات إلى الله تعالى (فراقب قلبك) وتأمل (إذا كنت في صلاتك كيف يجاذبه الشيطان إلى الأسواق، وحساب المعاملين وجواب المعاندين ، وكيف يمر بك في أودية الدنيا ومهالكها حتى أنك لا تذكر ما نسيت من فضول الدنيا إلا في صلاتك ، ولا يزدحم الشيطان على قلبك إلا إذا صليت) فليسوله بأنواع التسويلات ويشتته في أودية لا آخر لها ، حتى لا يدري تارة كم صلى (فالصلاة محك القلوب، فيها تظهر محاسنها ومساويها) فإن كانت مطهرة عن الشهوات ظهرت محاسنها في الصلاة بالإقبال على الله بكنه الهمة وإلقاء الوسواس وراء ظهره، وإلا فبعكس ذلك، (فالصلاة لا تقبل من

[ ص: 287 ] القلوب المشحونة بشهوات الدنيا ، فلا جرم أن ينطرد عنك الشيطان) ولا ينزجر بالذكر (بل ربما يزيد عليك الضرر ، فإن أردت الخلاص من الشيطان فقدم الاحتماء بالتقوى) أولا (ثم أردفه بدواء الذكر ، وقد فر الشيطان منك كما فر من ظل عمر رضي الله عنه) وهذا حال من انتهى به سلوكه وأشرقت عليه أنوار التوفيق ، فلبس لأمة الصدق وتحلى بأسلحة العزل ، ودخل في حومة الحرب بين باعث الدين وداعي الهوى ، فكانت الغلبة لداعي الدين ، وفرت جيوش الشياطين ، ولذا قال أبو حازم: ما الشيطان حتى يهاب، فوالله لقد أطيع فما نفع، وعصي فما ضر ، وقال بعضهم: لولا أن الحق سبحانه وتعالى أمرنا بالاستعاذة منه ما استعذت منه لحقارته ، وهذا شأن المتقين؛ (ولذلك قال وهب بن منبه) رحمه الله تعالى (اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر أي مطيع له، وقال بعضهم: وأعجب لمن يعصي المحسن) المطلق (بعد معرفته بإحسانه) وإصابته منه، (ويطيع اللعين) المسيء (بعد معرفته بطغيانه) وعداوته (وكما أن الله تعالى قال) في كتابه العزيز ( ادعوني أستجب لكم وأنت تدعوه ولا يستجيب لك ، فكذلك تذكر الله ولا يهرب الشيطان منك لفقد شروط الذكر والدعاء) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(قيل لإبراهيم بن أدهم) رحمه الله تعالى (ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا ، وقد قال الله تعالى: ادعوني أستجب لكم قال: لأن قلوبكم ميتة، قيل: وما الذي أماتها؟ قال: ثمان خصال: عرفتم الله ولم تقوموا بحقه ، وقرأتم القرآن ولم تعملوا بحدوده ، وقلتم نحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم تعملوا بسنته ، وقلتم نخشى الموت ولم تستعدوا له ، وقال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فواطأتموه) أي: وافقتموه (على المعاصي، وقلتم نخاف النار وأرهقتم أبدانكم فيها ، وقلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها ، وإذا قمتم من فراشكم رميتم عيوبكم وراء ظهوركم ، وافترشتم عيوب الناس أمامكم فسخطتم ربكم ، فكيف يستجيب لكم؟) أخرجه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسين ، حدثنا أبو يعلى أحمد بن محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو أحمد محمد بن محمد بن مهدي بن قدامة ، حدثنا أبو ياسر عمار بن عبد المجيد ، حدثنا أحمد بن عبد الله الحرمامي قال: سمعت حاتما الأصم يقول: قال شقيق بن إبراهيم: دخل إبراهيم بن أدهم في أسواق البصرة فاجتمع إليه الناس فقالوا: يا أبا إسحاق ، إن الله يقول في كتابه: ادعوني أستجب لكم ونحن ندعوه بعد دهر فلا يستجيب لنا ، قال إبراهيم: يا أهل البصرة ، ماتت قلوبكم في عشرة أشياء: أولها: عرفتم الله فلم تؤدوا حقه ، والثاني: قرأتم كتاب الله فلم تعملوا به ، والثالث: ادعيتم حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتركتم العمل بسنته ، والرابع: ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه ، والخامس: قلتم نحب الجنة فلم تعملوا لها ، والسادس: قلتم نخاف النار ورهنتم أنفسكم بها ، والسابع: قلتم: إن الموت حق ولم تستعدوا له ، والثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم ونبذتم عيوبكم ، والتاسع أكلتم نعمة ربكم ولم تشكروها ، والعاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم .

(فإن قلت: فالداعي إلى المعصية المختلفة شيطان واحد أو شياطين مختلفون؟ فاعلم أنه لا حاجه لك إلى معرفة ذلك في المعاملة ، فاشتغل بدفع العدو) حيث عرفته بأخبار الصادق المصدوق ، وثبتت لك عداوته (ولا تسأل عن صفته) فإنه مما لا يعنيك ، ومن أمثالهم الدالة على ذلك يقولون: (كل البقل من حيث يؤتى، ولا تسأل عن المبقلة) أي: منبته ، ومن ذلك أيضا قولهم: خذ الهدية ولا تسأل عن جالبها (ولكن الذي يتضح بنور الاختصار وشواهد الأخبار أنهم جنود مجندة) أي: كثيرة (وإن لكل نوع من المعاصي شيطانا يخصه ويدعو إليه ، وأما طريق الاستبصار فذكره يطول، ويكفيك القدر الذي ذكرناه) آنفا (وهو أن اختلاف المسببات يدل على اختلاف الأسباب ، كما ذكرناه في نور النار وسواد الدخان .

وأما الأخبار

[ ص: 288 ] فقد قال مجاهد) بن جبر المكي التابعي في تفسير قوله تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء الآية ، أن (لإبليس خمسة من الأولاد قد جعل كل واحد منهم على شيء من أمره فذكر زلنبور) ، وقد تقدم ذكره وضبطه في كتاب الحلال والحرام (والأعور ومسوط) كمنبر كأنه مفعل من السوط (وداسم وثبور) وفي لفظ ثبرا (فأما ثبور فهو صاحب المصائب الذي يأمر) ابن آدم (بالثبور) والويل (وشق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية ، وأما الأعور فإنه صاحب الزنا يأمر به ويزينه) في أنفسهم، (وأما مسوط فهو صاحب الكذب، وأما داسم فإنه يدخل مع الرجل إلى أهله يرميهم بالعيب عنده ويغضبه عليهم ، وأما زلنبور فهو صاحب السوق فبسببه لا يزالون متظلمين) أخرجه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو الشيخ عن مجاهد لفظه: باض إبليس خمس بيضات: زلنبور وداسم وثبر ومسوط والأعور; أما الأعور فصاحب الزنا ، وأما ثبر فصاحب المصائب ، وأما مسوط فصاحب أخبار الكذب يلقيها على أفواه الناس ، ولا يجدون لها أصلا ، وأما داسم فصاحب البيوت إذا دخل الرجل بيته ولم يسم دخل معه، وإذا أكل ولم يسم أكل معه، ويريه من متاع البيت، وألا يحضر موضعه ، وأما زلنبور فصاحب الأسواق يضع رأسه في كل سوق بين السماء والأرض .

وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: ولد إبليس خمسة: ثبر، والأعور وزلنبور ومسوط وداسم ، فمسوط صاحب الصخب ، والأعور وداسم لا أدري ما يعملان ، وثبر صاحب المصائب ، وزلنبور الذي بين الناس ويبصر الرجل عيوب أهله. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان قال: باض إبليس خمس بيضات وذريته من ذلك .

(وشيطان الصلاة يسمى خنزب) رواه مسلم من حديث عثمان بن أبي العاصي، وقد تقدم قريبا .

(وشيطان الوضوء يسمى الولهان) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي بن كعب بلفظ: إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان ، فاتقوا وسواس الماء، وقد تقدم (وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة) كما ذكرناها ، ومن ذلك ما روى الحكيم في النوادر عن عبد الرحمن بن أبي سلمة مرسلا ، وكل بالنفوس شيطان يقال له اللهو ، فهو يخيل إليها ويتراءى لها إذا عرج بها ، فإذا انتهت إلى السماء، فما رأت فهو الرؤيا التي تصدق ، ومنهم جماعة سلطهم على الحجاج والمجاهدين .

روى الطبراني من حديث ابن عباس: إن لإبليس مردة من الشياطين يقول لهم: عليكم بالحجاج والمجاهدين فأضلوهم عن السبيل ، ومنهم جماعة سلطهم على المصلين ، روى الشيخان وأبو يعلى من حديث أبي سعيد: إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته فيأخذ بشعرة من دبره فيمدها فيرى أنه أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا .




الخدمات العلمية