الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
حتى قال مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة والإيمان ، به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

التالي السابق


وهذه المسألة يأتي ذكرها والاختلاف فيها، وقال ابن اللبان: قد كان السلف الصالح نهوا الناس عن اتباع أرباب البدع، وعن الإصغاء إلى آرائهم، وحسموا مادة الجدال في التعرض بالآي المتشابهة؛ سدا للذريعة، واستغناء عنه بالمحكم، وأمروا بالإيمان وبإمراره كما جاء من غير تعطيل ولا تشبيه (حتى قال مالك) بن أنس، إمام المدينة -رحمه الله تعالى- (لما سئل عن) معنى (الاستواء) في قوله تعالى: ثم استوى على العرش ، وفي قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى ، وقد جاء ذكره في ست آيات، فقال مالك: (الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، الإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) .

وهذا القول من مالك جاء بألفاظ مختلفة وأسانيد متنوعة، وقد أورده المصنف هكذا في آخر "إلجام العوام"، وأورده ابن اللبان في كتابه بلفظ "أنه سئل: كيف استوى؟ فقال: كيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" وقال اللالكائي في كتاب "السنة": أخبرنا علي بن الربيع المقري مذاكرة، حدثنا عبد الله بن أبي داود، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا مهدي بن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال له: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضاء، يعني: العرق، وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه، فقال: فسري عنه، فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالا. وأمر به فأخرج.

وأخرجه كذلك أبو الشيخ وأبو نعيم وأبو عثمان الصابوني ونصر المقدسي كلهم من رواية جعفر بن عبد الله، رواه الصابوني من وجه آخر من رواية جعفر بن ميمون عن مالك، ورواه عثمان بن سعيد بن السكن من رواية جعفر بن عبد الله عن رجل قد سماه عن مالك، ورواه ابن ماجه عن علي بن سعيد عن بشار الخفاف أو غيره عن مالك، وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله [ ص: 81 ] الحافظ، أخبرني أحمد بن محمد بن إسماعيل بن مهران، حدثنا أبو الربيع بن أخي رشدين بن سعد، قال سمعت عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى ، كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال له: كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه. قال: فأخرج الرجل .

وقد يروى هذا القول أيضا عن ابن عيينة، قال اللالكائي: أخبرنا عبد الله بن أحمد النهاوندي، أخبرنا أبو بكر بن أحمد بن محمود النهاوندي سنة ست عشرة وثلاثمئة، حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة، حدثنا أحمد بن يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن آدم، عن ابن عيينة قال: سئل عن قوله الرحمن على العرش استوى ، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق .

وقد يروى أيضا لربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك، أخرج اللالكائي بسنده المتقدم إلى يحيى بن آدم، عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة عن الاستواء.. فساقه بعينه، ورواه أبو الشيخ من رواية عبد الله بن صالح بن مسلم، قال: سئل ربيعة.. بمعناه، أي: فيحتمل أن ابن عيينة أجاب السائل بما أجاب به ربيعة، كما أن مالكا كذلك أجاب بما أجاب به ربيعة، وإن اختلفت ألفاظهم .



وأول من وفق لهذا الجواب السيدة أم سلمة -رضي الله عنها- والكل تابعون على منهجها، أخبرنا عمر بن أحمد بن عقل إجازة، أخبرنا عبد الله بن سالم، أخبرنا محمد بن العلاء الحافظ، أخبرنا علي بن يحيى، أخبرنا يوسف بن عبد الله، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الحافظ، أخبرنا أبو الفضل بن أبي الحسن الحافظ، أخبرنا عبد الرحيم بن الحسين الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، أخبرنا ابن عبد الدائم، أخبرنا إبراهيم بن البرقي، أخبرنا مالك بن أحمد، أنا أبو الفتح بن أبي الفواريس الحافظ، ثنا إسحاق بن محمد، ثنا عبد الله بن إسحاق المدائني، ثنا أبو يحيى الوراق، ثنا محمد بن الأشرس الأنصاري، ثنا أبو المغيرة عمير بن عبد الحميد الحنفي، عن قرط بن خالد عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة -رضي الله عنها- في قوله -عز وجل-: الرحمن على العرش استوى قالت: "الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر".

وأرويه أعلى من هذا بالسند المتقدم إلى محمد بن عبد الرحمن الحافظ، قال: أخبرني محمد بن مقبل الصيرفي بحلب، أخبرنا الصلاح بن عمر المقدسي، أخبرنا أبو الحسن السعدي، أخبرنا عمر بن محمد بن طبرزد، أخبرنا هبة الله بن الحصين، أخبرنا أبو طالب بن غيلان، أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الأزهر، ثنا محمد بن الأشرس أبو كنانة بصري، ثنا أبو المغيرة الحنفي، وهو عمير بن عبد المجيد، ثنا قرة بن خالد.

قلت: وهذا هو الصواب. يعني عبد المجيد، وقرة، وفي سياق السند الأول "عبد الحميد وقرط" كذا وجد بخط قديم، وهو ليس بصحيح، وفيه: "والإيمان به واجب" بدل قولها "والإقرار به إيمان"، والباقي سواء، وأبو يحيى الوراق في السند الأول هو الهندي، واسمه محمد بن عمر بن كيسة، وقد أخرج هذا الحديث من طريقه اللالكائي من رواية عبد الصمد بن علي، عنه قال: سمعه منه بالكوفة في جبانة سالم عن أبي كنانة محمد بن أشرس الأنصاري.. فساقه، ورواه أبو بكر الخلال، عن محمد بن أحمد البصري، عن أبي يحيى الوراق، هو ابن كيسة به، ورواه أبو عثمان الصابوني من رواية محمد بن عبيد الحافظ، عن أبي يحيى بن كيسة به، وقال فيه: عن محمد بن الأشرس الوراق أبي كنانة.



ورواه أبو نعيم الأصبهاني في كتاب "المحجة" عن إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق المعدل، سمعه منه بنيسابور، عن أبي العباس أحمد بن محمد الأزهري الحافظ، عن محمد بن الأشرس أبي كنانة البصري به، وقد تفرد بهذا الحديث أبو كنانة، واختلف عليه فيه، فرواه أبو عبد الله بن منده الحافظ، عن أحمد بن مهران الفارسي، ثنا الحسين بن حميد، ثنا محمد بن أشرس أبو كنانة، ثنا النضر بن خالد، فذكره، ورواه أيضا في التوحيد عن محمد بن إسحاق البصري، عن الحسن بن الربيع الكوفي، عن محمد بن أشرس أبي كنانة الكوفي عن أبي المغيرة النضر بن إسماعيل [ ص: 82 ] الحنفي الكوفي عن قرة بن خالد البصري، وقد ذكر هذا الاختلاف أبو إسماعيل الأنصاري في اسم أبي المغيرة، ثم قال: إن الأشبه عنده أنه غير النضر بن إسماعيل; لأن النضر كوفي، والحديث بصري السند، والله أعلم .

وقال ابن اللبان في تفسير قول مالك: قوله كيف غير معقول، أي: كيف من صفات الحوادث، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل، فيجزم بنفيه عن الله تعالى قوله، والاستواء غير مجهول، أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة، والإيمان به على الوجه اللائق به تعالى واجب; لأنه من الإيمان بالله وبكتبه، والسؤال عنه بدعة، أي: حادث; لأن الصحابة كانوا عالمين بمعناه اللائق بحسب اللغة، فلم يحتاجون للسؤال عنه؟ فلما جاء من لم يحط بأوضاع لغتهم، ولا له نور كنورهم يهديه لصفات ربه، شرع يسأل عن ذلك، فكان سؤاله سببا لاشتباهه على الناس وزيغهم عن المراد. اهـ .




الخدمات العلمية