الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقول القائل : العرض لا عوض له ، فلا يجب الاستحلال منه ، بخلاف المال ، كلام ضعيف ، إذ قد وجب في العرض حد القذف ، وتثبت المطالبة به بل في الحديث الصحيح ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها ، منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار .

ولا درهم إنما ، يؤخذ من حسناته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته
وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل : قد اغتبتيها فاستحليها فإذن لا بد ؛ من الاستحلال إن قدر عليه فإن كان غائبا أو ميتا ، فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء ويكثر ، من الحسنات .

فإن قلت : فالتحليل هل يجب ؟ فأقول : لا ؛ لأنه تبرع ، والتبرع فضل ، وليس بواجب ، ولكنه مستحسن ، وسبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه والتودد إليه ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه فإن لم يطب قلبه كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له يقابل بها سيئة الغيبة في القيامة .

وكان بعض السلف لا يحلل، قال سعيد بن المسيب: : لا أحلل من ظلمني وقال ابن سيرين : إني لم أحرمها عليه فأحللها له ، ؛ إن الله حرم الغيبة عليه ، وما كنت لأحلل ما حرم الله أبدا .

فإن قلت : فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ينبغي أن يستحلها وتحليل ما حرمه الله تعالى غير ممكن فنقول : المراد به العفو عن المظلمة لا أن ينقلب الحرام حلالا وما قاله ابن سيرين حسن في التحليل قبل الغيبة ؛ فإنه لا يجوز له أن يحلل لغيره الغيبة .

فإن قلت : فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا خرج من بيته قال : اللهم إني قد تصدقت بعرضي على الناس فكيف يتصدق بالعرض ؟ ومن تصدق به، فهل يباح تناوله وإن كان لا تنفذ صدقته؟ فما معنى الحث عليه فنقول: معناه: إني لا أطلب مظلمة في القيامة منه، ولا أخاصمه، وإلا فلا تصير الغيبة حلالا به، ولا تسقط المظلمة عنه; لأنه عفو قبل الوجوب، إلا أنه وعد، وله العزم على الوفاء بأن لا يخاصم، فإن رجع وخاصم كان القياس كسائر الحقوق، إن له ذلك; بل صرح الفقهاء بأن من أباح القذف لم يسقط حقه من حد القاذف ، ومظلمة الآخرة مثل مظلمة الدنيا، وعلى الجملة، فالعفو أفضل، قال الحسن إذا جثت الأمم بين يدي الله تعالى نودوا: ليقم من كان له أجر على الله. فلا يقوم إلا العافون عن الناس في الدنيا قال الله تعالى خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل ، ما هذا العفو؟ فقال ؟ قال: إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك وروي عن الحسن أن رجلا قال له : إن فلانا قد اغتابك فعبث ، إليه رطبا على طبق ، وقال: قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك ، فأردت أن أكافئك عليها ، فاعذرني فإني ، لا أقدر أن أكافئك على التمام .

التالي السابق


(وقول القائل: العرض لا عوض له، فلا يجب الاستحلال منه، بخلاف المال، كلام ضعيف، إذ قد وجب في العرض حد القذف، وتثبت المطالبة به) ، كما هو مفصل في فروع الفقه، (بل في الحديث الصحيح ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال، فليستحلها منه قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، يؤخذ من حسناته، فإن لم تكن له حسنات أخذت من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته ) ، متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليستحلله منها" . ورواه أحمد كذلك، وفيه: من عرض أو مال، فليستحلله اليوم قبل أن تؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه ، ( وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل: قد اغتبتيها فاستحليها ؛ فلابد من الاستحلال إن قدر عليه) أي: على أن يأتي إليه، (فإن كان غائبا) في سفر بعيد، (أو ميتا، فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء، ويستكثر من الحسنات) ، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وربما يفهم منه التفصيل الذي ذكرناه آنفا، فتأمل .

(فإن قلت: فالتحليل هل يجب؟ فأقول: لا؛ لأنه تبرع، والتبرع فضل، وليس بواجب، ولكنه مستحب، وسبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه) بما لم يخرجه إلى حد الكذب، (و) يبالغ في (التردد إليه) بما لم يخرجه إلى حد التملق، (ويلازم ذلك) أي: الثناء والتودد، (حتى يطيب قلبه) ، فإنه ربما لا يطيب قلبه بمرة واحدة أو اثنتين، (فإن لم يتب قلبه) مع ذلك، (كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له) في صحيفته (يقابل بها سيئة الغيبة في يوم القيامة، وكان بعض السلف يقول: لا أحلل من اغتابني) أي: لا أجعله في حل مني، (وقال سعيد) بن المسيب: (لا أحلل [ ص: 560 ] من ظلمني) أي: تنقص من عرضي، (وقال ابن سيرين : إني لم أحظرها) أي: لم أحرمها (عليه، فأحلله؛ إن الله حرم الغيبة عليه، وما كنت لأحل ما حرم الله أبدا) قال أبو نعيم في الحيلة: حدثنا أبو بكر بن خلاد ، حدثنا محمد بن يونس ، حدثنا أزهر بن سعد ، عن ابن عون قال: قيل لمحمد بن سيرين : يا أبا بكر ، إن رجلا قد اغتابك فتحلله. قال: ما كنت لأحل شيئا حرمه الله ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم ، حدثنا أبو عمير ، حدثنا أبو حمزة قال: قال السري بن يحيى ، أو غيره، لابن سيرين : إني قد اغتبتك، فاجعلني في حل. قال: إني أكره أن أحل ما حرمه الله عز وجل ، (فإن قلت: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ينبغي أن يستحلها ) وهو في حديث أبي هريرة الماضي ذكره بلفظ: "فليستحللها منه" ، ( وتحليل ما حرم الله غير ممكن) ، وهو الذي فهمه سعيد بن المسيب وابن سيرين كما اقتضاه قولهما السابق، (فنقول: المراد به) جعله في حل، يعني: ( العفو عن المظلمة ) لينقلب حرامه بمنزلة الحلال المباح له، (لا أن ينقلب الحرام حلالا) كما يدل له ظاهر اللفظ، (وما قاله ابن سيرين حسن في التحليل قبل الغيبة؛ فإنه لا يجوز له أن يحلل لغيره الغيبة ) ، فمن جوزه فقد أحل ما حرمه الله، وأما بعد الغيبة فمعناه: لا أعفو عنه، (فإن قلت: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على الناس ) ، قال العراقي : رواه البزار وابن السني في اليوم والليلة، والعقيلي في الضعفاء من حديث أنس بسند ضعيف، وذكره ابن عبد البر من حديث ثابت مرسلا عند ذكر أبي ضمضم في الصحابة، قلت: وإنما هو رجل ممن كان قبلنا، كما عند البزار والعقيلي . اهـ .

قلت: قال الحافظ في الإصابة: قرأت بخط ابن عبد البر في حاشية كتاب ابن السكن : أبو ضمضم غير منسوب، روى ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتحبون أن تكونوا كأبي ضمضم ؟ قالوا: يا رسول الله، من أبو ضمضم ؟ قال: إن أبا ضمضم كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على من ظلمني. قال: فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له" . وذكره في الصحابة، فقال: روى عنه الحسن وقتادة أنه قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك . قال: وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رجلا من المسلمين قال.. فذكر مثله، قال أبو عمر : أظنه أبا ضمضم المذكور، قلت: تبع في ذلك كله الحاكم أبا أحمد ، فإنه أخرج الحديث من طريق حماد بن زيد عن هشام ، عن الحسن ، وعن أبي العوام ، عن قتادة ، قالا: قال أبو ضمضم : اللهم.. فذكره، ثم ساق حديث أبي هريرة من طريق سعيد بن عبد الرحمن ، عن سفيان ، وهو كذلك في جامع سفيان ، وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق شعيب بن بيان ، عن عمران القطان ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا، وقد تعقب ابن فتحون قول ابن عبد البر ، روى عنه الحسن وقتادة فقال: هذا وهم لا خفاء به، النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه عن أبي ضمضم فلا يعرفونه حتى يقولوا: من أبو ضمضم ؟ وأبو عمر يقول: روى عنه الحسن وقتادة ، وقد أخرجه البزار ، والساجي من طريق أبي النضر ، عن هاشم بن القاسم ، عن محمد بن عبد الله العمي ، عن ثابت ، عن أنس ، الحديث، وفيه: قالوا: وما أبو ضمضم ؟ قال: إن أبا ضمضم كان رجلا إذا أصبح قال.. الحديث. وفي رواية البزار من الزيادة: كان رجلا صلبا، قال ابن فتحون ، فالرجل لم يكن من هذه الأمة، وإنما كان قبلها، فأخبرهم بحاله؛ تحريضا على أن يعملوا بعمله، وما توهماه من أن الصحابي في حديث أبي هريرة هو أبو ضمضم خطأ، بل هو علبة بن زيد الأنصاري ، ولولا ما جاء من التصريح بأن أبا ضمضم كان فيمن كان قبلنا لجوزت أن يكون علبة يكنى أبا ضمضم ، لكن منع من ذلك ما أخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، وأبو بكر الخطيب في كتاب الموضح من طريق روح بن عبادة ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن عجلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم ؟ قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: رجل ممن كان قبلكم" . الحديث، قال أبو داود : رواه أبو النضر عن محمد بن عبد الله العمي عن ثابت عن أنس ، ورواية حماد أصح، وأخرجه من طريق محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة موقوفا. اهـ. وأسنده البخاري في تاريخه والبزار والساجي من طريق [ ص: 561 ] أبي النضر ، وأشار البزار إلى أن محمد بن عبد الله تفرد به، وأخرجه البخاري في تاريخه، والعقيلي في الضعفاء، وقال الحافظ في ترجمة علبة بن زيد الأنصاري ، أخرج الخطيب من طريق أبي قرة الزبيدي في كتاب السنن له، قال: ذكر ابن جريج عن صالح بن زيد عن أبي عبس الحارثي عن ابن عم له يقال له علبة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة، وحث عليها، فخرج من الليل وبكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالصدقة، ليس عندي ما أتصدق به، ولكني أتصدق بعرضي على من آذاني وشتمني أو لمزني، فهو له حل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قبلت منك صدقتك ، (فكيف يتصدق بالعرض ؟ ومن تصدق به، فهل يباح تناوله وإن كان لا تنفذ صدقته؟ فما معنى الحث عليه) وإخبار حاله للأصحاب (فنقول: معناه: إني لا أطلب مظلمة يوم القيامة منه، ولا أخاصمه، وإلا فلا تصير الغيبة حلالا به، ولا تسقط المظلمة; لأنه عفو قبل الوجوب، إلا أنه وعد، وله العزم على الوفاء بألا يخاصم، فإن رجع وخاصم كان القياس كسائر الحقوق، إن له ذلك; بل صرح الفقهاء بأن من أباح القذف لم يسقط حقه من حد القاذف ، ومظلمة الآخرة مثل مظلمة الدنيا، وعلى الجملة، فالعفو أفضل، قال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (إذا جثت الأمم بين يدي الله تعالى نودوا:) ألا (من كان أجره على الله فليقم. فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا) .

وروى ابن عساكر في التاريخ من حديث علي : ينادى يوم القيامة من بطنان العرش: ألا ليقم من كان أجره على الله. فلا يقوم إلا من عفا عن أخيه ، (قال الله) تعالى مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل ، ما هذا؟ قال: إن الله تعالى يأمر أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك) ، تقدم في كتاب رياضة النفس، (وروي عن الحسن) البصري رحمه الله تعالى (أن رجلا قال له: إن فلانا قد اغتابك، فبعث إليه) الحسن (رطبا على طبق، وقال: بلغني أنك أهديت إلي حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، لا أقدر أن أكافئك على التمام) أخرجه أبو نعيم في الحلية، وقال بعضهم: لو كنت أغتاب أحدا لاغتبت أمي؛ فإنها أولى أن تأخذ حسناتي، أو آخذ من سيئاتها يوم القيامة .




الخدمات العلمية