الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وذهبت طائفة إلى الاقتصاد وفتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله سبحانه ، وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها ومنعوا التأويل فيه ، وهم الأشعرية .

وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفاته تعالى الرؤية ، وأولوا كونه : سميعا بصيرا وأولوا المعراج ، وزعموا أنه لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط وجملة من أحكام الآخرة ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات والمشمومات والمنكوحات والملاذ المحسوسة وبالنار واشتمالها على جسم محسوس يحرق بحرق الجلود ويذيب الشحوم .

ومن ترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة وردوه إلى آلام عقلية وروحانية ولذات عقلية ، وأنكروا حشر الأجساد وقالوا ببقاء النفوس وأنها تكون إما معذبة وإما منعمة ، بعذاب ونعيم لا يدرك بالحس وهؤلاء هم المسرفون .

وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه .

فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم ولا يتعين له موقف .

والألبق بالمقتصر على السمع المجرد مقام أحمد بن حنبل رحمه الله .

التالي السابق


(وذهبت طائفة إلى الاقتصاد ففتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله تعالى، وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها) كما جاءت، (ومنعوا) فيه (التأويل، وهم الأشعرية) أي: فرقة الأشاعرة عامة، وقد سبق في ترجمة الأشعري أن هذا قول لأبي الحسن الأشعري، وأن له قولا ثانيا، وهو أن تمر أخبار الصفات كما جاءت، وإليه مال في الإبانة، وتبعه الباقلاني وإمام الحرمين والمصنف .

(وزاد المعتزلة عليهم) بجميع أصنافهم (حتى أولوا من صفاته تعالى تعلق الرؤية، وأولوا قوله: سميعا بصيرا) فقال أصحاب أبي هاشم الجبائي: معنى قولنا للحي أنه سميع بصير يفيد أنه حي يصح أن يسمع المسموع إذا وجد، ويصح أن يرى المرئي إذا وجد، ومتى وجد المسموع أو المرئي ولم تكن بالحي آفة مانعة من إدراكهما وجب أن يكون سامعا للمسموع، ورائيا للمرئي من غير حصول معنى هو سمع أو بصر فيه، وسيأتي البحث في ذلك .

(وأولوا المعراج، وزعموا أنه لم يكن بالجسد) بل بالروح (وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط وجملة من أحكام الآخرة) أي: المتعلقة بها (ولكن أقروا بحشر الأجساد) من القبور (و) كذلك أقروا (الجنة) وأنها موجودة (واشتمالها على) أنواع (المأكولات والمشمومات والمنكوحات والملاذ المحسوسة) .

وكذلك أقروا (بالنار) ، إلا أنهم قالوا: ليست موجودة الآن، وإنما توجد يوم الجزاء (واشتمالها على جسم محسوس يحرق) أجساد الكفار والعصاة (ويمزق الجلود ويذيب الشحوم) ولا قائل بخلق الجنة دون النار، فثبوتها ثبوتها، وقد أجمع العلماء على أن التأويل في أكثر أمور الآخرة من غير ضرورة إلحاد في الدين (ومن ترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة) وهم حكماء اليونان، وإليهم نسبت الفلسفة (فأولوا كل ما ورد في أمور الآخرة وردوها إلى آلام عقلية وروحانية) غير محسوسة (ولذات عقلية، وأنكروا حشر الأجساد) مطلقا، واستبعدوه (وقالوا ببقاء النفوس) المجردة (وأنها تكون إما معذبة وإما منعمة، بعذاب ونعيم لا يدرك بالحس) وإنما يتعقل .

(وهؤلاء هم المسرفون) المفرطون (وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال) عن ربقة الشريعة (وبين جمود الحنابلة) ووقوفهم على السمع المجرد (دقيق غامض) المدرك خفي (لا يطلع عليه إلا الموفقون) من الأزل (الذين يدركون الأمور بنور إلهي) قذف في بصائرهم (لا بالسماع) المجرد من العقل (ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور) بواسطة ذلك النور، واتضحت الأشياء على ما هي عليها (نظروا إلى السمع) المتلقى من الثقات (والألفاظ الواردة) في تلك الأخبار الصحيحة (فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين أقروه) وأثبتوه (وما خالف) ذلك (أولوه) بما يقتضيه أسلوب اللغة العربية .

(فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد) عن العقل (فلا يستقر له قدم) فيه (ولا يتعين له موقف) يطمئن إليه (والأليق بالمقتصر على السمع المجرد مقام) سيدنا (أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى) وهو طريقة السلف، وقد ذكر المصنف في "إلجام العوام" أنها تتضمن سبعة أمور: التقديس، ثم التصديق، ثم الاعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الكف، ثم الإمساك، ثم التسليم لأهل المعرفة، ثم بين ذلك بقوله: التقديس، فهو تنزيه الرب تعالى عن [ ص: 83 ] الجسمية وتوابعها، وأما التصديق: فهو الإيمان بما قاله -صلى الله عليه وسلم- وأن ما ذكره حق على الوجه الذي قاله وأراده .



وأما الاعتراف بالعجز فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليس على قدر طاقته، وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته. وأما السكوت فألا يسأل عن معناه، ولا يخوض فيه، ويعلم أن سؤاله عنه بدعة، وأما الإمساك: فهو ألا يتصرف في تلك الألفاظ بالتبديل بلغة أخرى، والزيادة فيه، والنقصان منه، والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ، وعلى الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة .

وأما الكف: فأن يكف باطنه من البحث والتفكر والتصرف فيه، وأما التسليم لأهله: فأن يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد لا يخفى على الرسل، أو على الصديقين والأولياء .

فهذه سبعة وظائف لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منها، ثم قال بعد كلام طويل: ولهذا أقول: يحرم على الوعاظ على رؤوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة بالخوض في التأويل والتفصيل، بل الواجب عليهم الاقتصار على ما ذكره السلف، وهو المبالغة في التقديس والتنزيه، ونفي التشبيه، وأنه تعالى منزه عن الجسمية وعوارضها، وله المبالغة في هذا بما أراد، حتى يقول: كل ما يخطر في بالكم وهجس في ضمائركم وتصور في خواطركم فالله تعالى خالقها، وهو منزه عنها وعن مشابهتها، وأنه ليس المراد بالأخبار شيئا من ذلك، وأما هو حقيقة المراد، فلستم من أهل معرفته، والسؤال عنه بدعة، فاشتغلوا بالتقوى، وما أمركم الله به فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، وهذا قد نهيتم عنه، فلا تسألوا عنه، ومهما سمعتم شيئا من ذلك فاسكتوا، وقولوا: آمنا وصدقنا، وما أوتينا من العلم إلا قليلا، وليس هذا مما أوتينا .

وقال أيضا في التأويل: هو بيان معناه بعد إزالة ظاهره، وهذا إما أن يقع من العامي، أو من العارف مع العامي، أو من العارف مع نفسه بينه وبين ربه، فهذه ثلاثة مواضع:

الأول: تأويل العامي على سبيل الاستقلال بنفسه، وهو حرام يشبه خوض البحر المغرق لمن لا يحسن السباحة، فلا شك في تغريقه، وبحر المعرفة أبعد غورا، وأكثر مهالك من بحر الماء; لأن هلاك هذا البحر لا حياة بعده، وهلاك بحر الدنيا لا يزيل إلا الحياة الزائلة، وذلك يزيل الحياة الأبدية، فشتان بين الخطرين .

الموضع الثاني: أن يكون ذلك من العالم مع العامي، وهذا أيضا ممنوع، ومثاله: أن يبحر السابح الغواص مع نفسه عاجزا عن السباحة مضطرب القلب والبدن، وذلك حرام؛ فإنه عرضة لخطر الهلاك؛ فإنه لا يقوى على حفظه في لجة البحر، ولو أمره بالوقوف بقرب الساحل لا يطيعه، ولو أمره بالسكون عند التطام الأمواج وإقبال التماسيح فاتحة فاها للالتقام اضطرب قلبه وبدنه، ولم يكن على حسب مراده، لقصور طاقته، وفي معنى العوام: الأديب النحوي والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم، بل كل عالم سوى المتجردين لعلم السباحة في بحر المعرفة القاصرين أعمارهم عليه، الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات، المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات، المخلصين لله تعالى في العلوم والأعمال، القائمين بجميع حدود الشريعة وآدابها في القيام بالطاعات وترك المنكرات، المفرغين قلوبهم عن غير الله، المستحقرين للدنيا، بل للآخرة والفردوس الأعلى في جنب محبة الله تعالى، فهؤلاء هم أهل الغوص في بحر المعرفة، وهم مع ذلك كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد منهم بالدر المكنون والسر المخزون، أولئك الذين سبقت لهم منا الحسنى، فهم الفائزون، وربك أعلم بما تكن صدورهم وما يعلنون .

الموضع الثالث: تأويل العارف مع نفسه في سر قلبه بينه وبين ربه، وهو على ثلاثة أوجه، فإن الذي انقدح في سره أنه المراد من لفظ الفوق والاستواء مثلا إما أن يكون مقطوعا به، أو مشكوكا فيه، أو مظنونا ظنا غالبا، فإن كان قطعيا فليعتقده، وإن كان مشكوكا فليتجنبه، ولا يحكمن على مراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- من كلامه باحتمال معارض بمثله من غير ترجيح، بل الواجب على الشاك في المشكوك فيه التوقف، وإن كان مظنونا فاعلم أن للظن تعليقين: أحدهما: في المعنى الذي انقدح عنده هل هو جائز في حق الله تعالى، أم هو محال؟ والثاني: أن يعلم قطعا جوازه ولكن يتردد [ ص: 84 ] هل هو المراد باللفظ أم لا؟ وبينهما تفاوت; لأن كل واحد من الظنين إذا انقدح في النفس وحاك في الصدر فلا يدخل تحت الاختبار دفعه على النفس؛ فلا يمكنه ألا يظن؛ فإن للظن أسبابا ضرورية، ولا يمكن دفعها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لكن عليه وظيفتان جديدتان: إحداهما: لا يدع نفسه تطمئن إليه جزما من غير شعور بإمكان الغلط فيه، فلا ينبغي أن يحكم مع نفسه بموجب ظنه حكما جازما، والثانية: أنه إن ذكره لم يطلق القول بأن المراد بالاستواء كذا، وبالفوق كذا; لأنه حكم لما لا يعلم، وقد قال: ولا تقف ما ليس لك به علم لكن يقول: أنا أظن أنه كذا، فيكون صدقا في خبره عن نفسه، وعن ضميره، ولا يكون حكما على صفة الله تعالى، ولا على مراده وكلامه، بل حكما على نفسه; وبناء على ضميره .



ثم أورد في بيان التصرفات الممنوعة الجمع بين المفترقات، والتفريق بين المجتمعات، فقال: ولقد بعد من التوفيق من صنف كتابا في جميع هذه الأخبار خاصة، ورسم في كل عضو بابا، فقال: باب في إثبات الرأس، وباب في إثبات اليد، وباب في إثبات العين، وغير ذلك، فإن هذه كلمات متفرقة متباعدة؛ اعتمادا على قرائن مختلفة في فهم السامعين معاني صحيحة، فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان صار جميع تلك المفترقات في السمع دفعة واحدة قرينة عظيمة في تأكيد الظواهر وإيهام التشبيه، وصار الإشكال في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ينطق بما يوهم خلاف الحق أعظم في النفس وأوقع، بل الكلمة الواحدة المفردة يتطرق إليها الاحتمال، فإذا اتصل بها ثانية وثالثة ورابعة من جنسها، وصار متواليا ضعف بالإضافة إلى الجملة، ولذلك يحصل بقول مخبرين وثلاثة ما لا يحصل بقول الواحد، بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر ما لا يحصل بالآحاد، ويحصل من العلم القطعي باجتماع القرائن ما لا يحصل بالآحاد، وكل ذلك نتيجة الإجماع؛ إذ يتطرق الاحتمال والضعف، فلذلك لا يجوز جمع المفرقات .

وأما التفريق بين المجتمعات فإنه كذلك لا يجوز; لأن كل حكمة سابقة على حكمه أو لاحقة له، مؤثرة في تفهيم معناه، ومرجحة للاحتمال الضعيف فيه، فإذا فرقت وفصلت سقطت دلالتها، مثاله: قوله تعالى: وهو القاهر فوق عباده ، ولا يسلط على أن يقول القائل: وهو فوق مطلقا; لأنه إذا ذكر القاهر مع المقهور، وهي فوقية الرتبة، ولفظ "القاهر" يدل عليه، بل لا يجوز أن يقول: وهو القاهر فوق غيره، بل ينبغي أن يقول: وهو القاهر فوق عباده ; لأن ذكر العبودية في وصف من الله فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة؛ إذ يحسن أن يقول: السيد فوق عبده، والأب فوق ابنه، والزوج فوق الزوجة، وإن كان لا يحسن أن يقول: زيد فوق عمرو، قبل أن يبين تفاوتهما من السيادة والعبودية، أو غلبة القهر ونفوذ الأمر بالسلطنة أو بالأبوة أو بالزوجة، فهذه دقائق يغفل عنها العلماء، فضلا عن العوام، فكيف يتسلط العوام في مثل ذلك على التصريف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير؟

ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف في الجمود والاقتصار على موارد التوقيف على الوجه الذي ورد، باللفظ الذي ورد، والحق ما قالوه، والصواب ما رأوه، فأهم المواضع بالاحتياط ما هو تصرف في ذات الله تعالى وصفاته، وأحق المواضع بإلجام اللسان وتقييده عن الجريان بما يعظم فيه الخطر، وأي خطر أعظم من الكفر، والله أعلم .




الخدمات العلمية