الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وتحققوا أن النطق بما تعبدوا به من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله ليس له طائل ولا محصول إن لم تتحقق الإحاطة بما تدور عليه هذه الشهادة من الأقطاب والأصول وعرفوا أن كلمتي الشهادة على إيجازها تتضمن إثبات ذات الإله ، وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول وعلموا أن بناء الإيمان على هذه الأركان ، وهي أربعة ويدور كل ركن منها على عشرة أصول :

الركن الأول في معرفة ذات الله تعالى ومداره على عشرة أصول : وهي العلم بوجود الله تعالى وقدمه وبقائه ، وأنه ليس بجوهر ولا جسم ، ولا عرض ، وأنه سبحانه ليس مختصا بجهة ولا مستقرا على مكان وأنه يرى ، وأنه واحد .

الركن الثاني في صفاته ويشتمل على عشرة أصول وهو العلم بكونه حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما منزها عن حلول الحوادث ، وأنه قديم الكلام والعلم والإرادة .

الركن الثالث في أفعاله تعالى ومداره على عشرة أصول : وهي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأنها مكتسبة للعباد ، وأنها مرادة لله تعالى ، وأنه متفضل بالخلق والاختراع وأن له تعالى تكليف ما لا يطاق وأن ، له إيلام البريء ولا يجب عليه رعاية الأصلح وأنه لا واجب إلا بالشرع وأن بعثة الأنبياء جائزة وأن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة مؤيدة بالمعجزة .

الركن الرابع في السمعيات ومداره على عشرة أصول : وهي إثبات الحشر والنشر وسؤال منكر ونكير ، وعذاب القبر ، والميزان ، والصراط ، وخلق الجنة والنار ، وأحكام الإمامة وأن فضل الصحابة على حسب ترتيبهم وشروط الإمامة فأما الركن الأول من أركان الإيمان في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى وأن الله تعالى واحد ، ومداره على عشرة أصول:

الأصل الأول معرفة وجوده تعالى .

التالي السابق


(وتحققوا أن النطق) باللسان (بما تعبدوا به من قول) هذه الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) -صلى الله عليه وسلم- (ليس له طائل) أي: نفع (ولا محصول) يتحصل منه (إن لم تتحقق الإحاطة) أي: المعرفة التامة (بما تدور عليه) أرحية (هذه الشهادة من الأقطاب والأصول) وقطب الرحى: ما تدور عليه، والمراد هنا من الأقطاب والأصول: الأركان (وعرفوا أن كلمتي الشهادة) المذكورتين (على إيجازها) واختصارها (تتضمن) سائر العقائد الدينية المذكورة فيما بعد إجمالا .

وتفصيل ذلك أن معنى الألوهية استغناء الإله عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه، فدخل فيه (إثبات ذات الإله، وإثبات صفاته) كلها السبعة، ولوازمها، وإثبات أفعاله، ودخل تحت قولنا: "محمد رسول الله" (إثبات صدق الرسل) عليهم السلام، والأمانة والتبليغ وأضدادها وجملتها اثنتان وستون عقيدة، على ما تقدم تفصيلها في أواخر الفصل الأول (فعلموا أن بناء الإيمان على هذه الأركان، وهي أربعة) وهو استعارة بالكناية; لأنه شبه الإيمان بمعنى له دعائم، فذكر المشبه، وطوى ذكر المشبه به، وذكر ما هو من خواص المشبه به، وهو البناء، ويسمى هذا استعارة ترشيحية، ويجوز أن يكون استعارة تمثيلية، بأن تمثل حالة الإيمان مع أركانه بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة، وقطبها الذي تدور عليه الأركان: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء، ويجوز أن يكون استعارة تبعية، بأن تقدر الاستعارة في البناء، والقرينة الإيمان، شبه ثباته على هذه الأركان ببناء الخباء على الأعمدة الأربعة، وهذه الاستعارة -أعني التبعية- تقع أولا في المصادر ومتعلقات معاني الحروف، ثم تسري في الأفعال والصفات والحروف، وفيه تكلف: لأن البناء اسم عين، لا مصدر، إلا أن يراد به الفعل، وقد تقدم شيء من ذلك في أول الكتاب .

(يدور كل ركن) من هذه الأركان الأربعة المذكورة (على عشرة أصول: الركن الأول) من الأركان الأربعة: (في معرفة ذات الله) -عز وجل- (ومداره على عشرة أصول: وهي العلم بوجود الله تعالى وقدمه وبقائه، وأنه ليس بجوهر) يتحيز (ولا جسم، ولا عرض، وأنه تعالى ليس مختصا بجهة) من الجهات الست (ولا مستقرا على مكان) كالعرش [ ص: 88 ] ونحوه (وأنه مرئي، وأنه واحد) بذكر كل واحد من هذه العشرة في أصل مستقل، وما يتفرع منها من المسائل، فهي راجعة إليها .

(الركن الثاني في صفاته) تعالى (ويشتمل) أيضا (على عشرة أصول) ، هي العلم بكونه تعالى (حيا عالما قادرا مريدا) لأفعاله (سميعا بصيرا متكلما منزها عن حلول الحوادث، وأنه قديم الكلام) القائم بالنفس، وقديم العلم، وقديم الإرادة، فهذه العشرة هي: كونه حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما قديم العلم والإرادة والكلام، وقوله: "منزها عن حلول الحوادث" غير معدود في هؤلاء .

(الركن الثالث في أفعاله تعالى) بالخلق (ومداره على عشرة أصول: وهي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى) لا خالق سواه، وأنها وإن كانت كذلك لا يخرجها عن كونها (مكتسبة للعباد، وأنها) وإن كانت كسبا للعباد، فلا تخرج عن أن تكون (مرادة لله تعالى، وأنه تعالى متفضل بالخلق) والاقتراح (و) من الجائزات (أن له تعالى تكليف ما لا يطاق، وأنه له إيلام البريء) وتعذيبه، وأنه (لا يجب عليه رعاية الأصلح) لعباده، (وأنه لا واجب إلا بالشرع) دون العقل (وأن بعث الأنبياء جائز) ليس بمستحيل (وأن نبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثابتة مؤيدة بالمعجزات) الباهرة، ثم إن هذه الأركان الثلاثة التي تقدم ذكرها، في الإلهيات والنبوات .

(الركن الرابع في السمعيات) وهي المتلقاة من السمع، بما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- (ومداره على عشرة أصول: وهي إثبات الحشر) والنشر (وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر، والميزان، والصراط، وخلق الجنة والنار، وأحكام الإمام) الحق، وفيه ذكر الخلفاء الأربعة وإمامة أبي بكر -رضي الله عنه- بنص أو اختيار (وأنه لو تعذر وجود الورع والعلم) فيمن يتصدى للإمامة (حكم بانعقادها) ، فهذه عشرة، فصار المجموع أربعين عقيدة، هذا على الإجمال .

ثم شرع في تفصيل ذلك فقال: (فأما الركن الأول من أركان الإيمان ففي معرفة ذات الله تعالى، ومداره على عشرة أصول، الأصل الأول معرفة وجوده تعالى) ، وعبارة ابن الهمام في "المسايرة": العلم بوجوده تعالى، وهو سهل; لأن العلم والمعرفة -لغة- شيء واحد .

واعلم أولا أن الإلهيات، وهي المسائل المبحوث فيها عن الإله -جل وعز- أنواع ثلاثة:

الأول: فيما يجب لله -عز وجل-، الثاني: فيما يستحيل في حقه تعالى، الثالث: فيما يجوز في حقه تعالى .

النوع الأول: فيما يجب له تعالى، فما يجب له تعالى عشرون صفة، وهل صفاته تعالى تنحصر في هذه العشرين أم لا؟ والصحيح أنها تابعة لكمالاته، وكمالاته لا نهاية لها، لكن العجز عن معرفة ما لم ينصب لنا عليه دليل عقلي ولا نقلي لا نؤاخذ به بفضل الله تعالى، ومفهومه أن ما قام عليه الدليل نؤاخذ بتركه، وهي هذه العشرون صفة .

ومعنى "كمالاته لا نهاية لها": هل هو باعتبار علمنا، أو باعتبار علم الله تعالى؟ أما باعتبار علمنا فظاهر؛ لنقصه وضعفه، وأما باعتبار علم الله فمعناه علمها على ما هي عليه من عدم النهاية، ويحتمل أن تكون لا نهاية لها باعتبار لغة العرب; لأن العرب إذا كثر الشيء يحكمون عليه بعدم النهاية، وإن كان في نفسه متناهيا، كما تقول: غنم فلان لا حصر لها، ويحتمل أن تكون حكم عليها بعدم النهاية؛ مراعاة للنفسية والسلبية; لأنها لا نهاية لها .



وأما المعاني والمعنوية فهي متناهية; لأن كل ما دخل في الوجود فهو متناه، فتضم ما يتناهى، وهي المعاني والمعنوية إلى ما لا يتناهى، وهي النفسية والسلبية، وتحكم على الجميع بعدم النهاية .

واعلم أن هذه الصفات العشرين في الحقيقة أقسام أربعة: نفسية وسلبية ومعان ومعنوية، وهذا على القول بثبوت الأحوال، والأصح أنه لا حال، وحينئذ تكون الأقسام ثلاثة، وعليه درج غالب المتكلمين، فالأول من الصفات العشرين النفسية الوجود، وهي التي أشار لها المصنف بقوله: "الأصل الأول معرفة وجوده"، ولم يمثلوا للنفسية بغير الوجود، واتفقوا على تقديمه على غيره من الصفات; لكونه كالأصل لها؛ إذ وجوب الواجبات له تعالى واستحالة المستحيلات عليه وجواز الجائزات في حقه كالفرع عنه، وإنما قلنا: كالأصل، ولم نقل: أصلا; لأن الوجود لو كان أصلا حقيقة للزم حدوث بقية الصفات; لأن الأصل يتقدم على الفرع، وليس كذلك، والوجود صفة نفسية على المشهور [ ص: 89 ] لا توصف بالوجود، أي: في الخارج، ولا بالعدم، أي: في الذهن؛ لأنها من جملة الأحوال عند القائل بها، وهي الحال الواجب للذات ما دامت الذات غير معللة، كالتحيز مثلا للجرم؛ فإنه واجب، ما دام الجرم، وليس ثبوته معللا بعلة، وقوله: "الحال"، أخرج المعاني والسلبية، وقوله: غير معللة بعلة، أخرج الأحوال المعنوية ككون الذات عالمة وقادرة ومريدة مثلا؛ فإنها معللة بقيام العلم والقدرة والإرادة بالذات .




الخدمات العلمية