الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الآثار .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما خلق الله جنة عدن قال لها : تزيني ، فتزينت ، ثم قال لها : أظهري أنهارك ، فأظهرت عين السلسبيل ، وعين الكافور ، وعين التسنيم ، فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر ، وأنهار العسل واللبن ، ثم قال لها : أظهري سررك ، وحجالك وكراسيك ، وحليك وحللك ، وحور عينك ، فأظهرت ، فنظر إليها ، فقال تكلمي ، فقالت : طوبى لمن دخلني ، فقال الله تعالى : وعزتي لا أسكنك بخيلا .

وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز أف للبخيل ; لو كان البخل قميصا ما لبسته ، ولو كان طريقا ما سلكته .

وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاء لكننا ، نتصبر .

وقال محمد بن المنكدر كان يقال : إذا أراد الله بقوم شرا أمر الله عليهم شرارهم ، وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم .

وقال علي كرم الله وجهه في خطبته : إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ولم يؤمر بذلك ، قال الله تعالى : ولا تنسوا الفضل بينكم وقال عبد الله بن عمرو الشح أشد من البخل ; لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ، ويشح بما في يده فيحبسه والبخيل هو الذي يبخل بما في يده .

وقال الشعبي لا أدري أيهما أبعد غورا في نار جهنم : البخل ، أو الكذب وقيل : ورد على أنوشروان حكيم الهند ، وفيلسوف الروم فقال للهندي : تكلم ، فقال : خير الناس من ألفى سخيا ، وعند الغضب وقورا وفي القول متأنيا وفي الرفعة متواضعا ، وعلى كل ذي رحم مشفقا .

وقام الرومي ، فقال : من كان بخيلا ورث عدوه ماله ، ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون ، وأهل النميمة يموتون فقراء ، ومن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه .

وقال الضحاك في قوله تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ، قال : البخل ; أمسك الله تعالى أيديهم عن النفقة في سبيل الله ، فهم لا يبصرون الهدى .

وقال كعب ما من صباح إلا وقد وكل به ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفا .

وعجل لمنفق ، خلفا .

وقال الأصمعي سمعت أعرابيا وقد وصف رجلا ، فقال : لقد صغر فلان في عيني لعظم الدنيا في عينه ، وكأنما يرى السائل ملك الموت إذا أتاه .

وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أرى أن أعدل بخيلا لأن البخل ; يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن ، فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة .

وقال علي كرم الله وجهه : والله ما استقصى كريم قط حقه .

قال الله تعالى : عرف بعضه وأعرض عن بعض وقال الجاحظ ما بقي من اللذات إلا ثلاث ذم : البخلاء ، وأكل القديد ، وحك الجرب .

وقال بشر بن الحارث البخيل لا غيبة له قال النبي صلى الله عليه وسلم إنك إذا لبخيل ومدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : صوامة قوامة إلا أن فيها بخلا ، قال : فما خيرها إذا .

وقال بشر النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء ، البخلاء كرب على قلوب المؤمنين .

وقال يحيى بن معاذ ما في القلب للأسخياء إلا حب ، ولو كانوا فجارا ، وللبخلاء إلا بغض ولو كانوا أبرارا .

وقال ابن المعتز أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه .

ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام .

إبليس في صورته فقال له : يا إبليس ، أخبرني بأحب الناس إليك ، وأبغض الناس إليك قال : أحب الناس إلي المؤمن البخيل ، وأبغض الناس إلي الفاسق السخي ، قال له : لم ? قال : لأن البخيل قد كفاني بخله ، والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه ، فيقبله ، ثم ولى وهو يقول : لولا أنك يحيى لما أخبرتك .

حكايات البخلاء .

قيل : كان بالبصرة رجل موسر بخيل ، فدعاه بعض جيرانه ، وقدم إليه طباهجة ببيض ، فأكل منه فأكثر ، وجعل يشرب الماء ، فانتفخ بطنه ، ونزل به الكرب والموت ، فجعل يتلوى فلما جهده الأمر ، وصف حاله للطبيب ، فقال : لا بأس عليك ، تقيأ ما أكلت فقال : هاه ! أتقيأ طباهجة ببيض الموت ؟ ولا ذلك .

وقيل : أقبل أعرابي يطلب رجلا وبين يديه تين فغطى التين بكسائه فجلس الأعرابي ، فقال له الرجل : هل تحسن من القرآن شيئا ، قال : نعم فقرأ ، والزيتون ، وطور سينين ، فقال وأين التين قال : هو تحت كسائك .

ودعا بعضهم أخا له ، ولم يطعمه شيئا فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه ، وأخذه مثل الجنون فأخذ صاحب البيت العود وقال له : بحياتي ، أي صوت تشتهي أن أسمعك قال : صوت المقلى .

ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلا قبيح البخل فسئل نسيب له كان يعرفه عنه فقال ، له قائل : صف لي مائدته ، فقال : هي فتر في فتر وصحافه منقورة من حب الخشخاش قيل : فمن يحضرها ? قال : الكرام الكاتبون قال : فما يأكل معه أحد ? قال : بلى ; الذباب فقال سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق قال أنا : والله ما أقدر على إبرة أخيطه بها ، ولو ملك محمد بيتا من بغداد إلى النوبة مملوءا إبرا ، ثم جاءه جبريل ، وميكائيل ، ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة ويسألونه إعارتهم : إياها ليخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل ويقال : كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلا حتى يقرم إليه فإذا قرم إليه أرسل غلامه فاشترى له رأسا فأكله ، فقيل له : نراك لا تأكل إلا الرءوس في الصيف ، والشتاء ، فلم تختار ذلك قال : نعم الرأس ! أعرف سعره فآمن ، خيانة الغلام ولا يستطيع أن يغبنني فيه ، وليس بلحم يطبخه الغلام ، فيقدر أن يأكل منه إن مس عينا ، أو أذنا ، أو خدا ، وقفت على ذلك وآكل منه ألوانا : عينه لونا وأذنه ، لونا ، ولسانه لونا ، وغلصمته لونا ، ودماغه لونا وأكفى مؤنة طبخه ، فقد اجتمعت لي فيه مرافق .

وخرج يوما يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله مالي : عليك إن رجعت بالجائزة ? فقال : إن أعطيت مائة ألف أعطيتك درهما ، فأعطي ستين ألفا فأعطاها أربعة دوانق .

واشترى مرة لحما بدرهم فدعاه صديق له فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق ، وقال : أكره الإسراف .

وكان للأعمش جار ، وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول : لو دخلت فأكلت كسرة وملحا ، فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش ، فقال : سر بنا ، فدخل منزله ، فقرب إليه كسرة ، وملحا فجاء سائل ، فقال له رب المنزل : بورك فيك ، فأعاد عليه المسألة ، فقال له : بورك فيك ، فلما سأل الثالثة قال له اذهب والله وإلا خرجت إليك بالعصا ، قال : فناداه الأعمش ، وقال : اذهب ويحك ، فلا والله ما رأيت أحدا أصدق مواعيد منه هو ; منذ مدة يدعوني على كسرة وملح فوالله ، ما زادني عليهما .

التالي السابق


(الآثار .

قال ابن عباس - رضي الله عنه -: لما خلق الله جنة عدن) ، وهي أوسط الجنات (قال لها: تزيني، فتزينت، ثم قال لها: أظهري أنهارك، فأظهرت عين السلسبيل، وعين الكافور، وعين التسنيم، فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر، وأنهار العسل، وأنهار اللبن، ثم قال لها: أظهري سررك، وحجالك) محركة جمع حجلة، وهي الكلة (وكراسيك، وحللك، وحليك، وحور عينك، فأظهرت، فنظر إليها، فقال: تكلمي، فقالت: طوبى لمن دخلني، فقال الله تعالى: وعزتي لا أسكنتك بخيلا) .

رواه الطبراني في الكبير، عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: لما خلق الله - عز وجل - جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون.

ورواه ابن عساكر، وزاد: ثم قالت: أنا حرام على كل بخيل ومراء.

ورواه أبو طاهر محمد بن عبد الواحد الطبري المفسر في كتاب فضائل التوحيد، والرافعي من حديث أنس: لما خلق الله جنة عدن، وهي أول ما خلقها الله، قال لها: تكلمي، فقالت: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، قد أفلح المؤمنون، قد أفلح من دخل في، وشقي من دخل النار.

(وقالت أم البنين) ابنة عبد العزيز بن مروان (أخت عمر بن عبد العزيز) - رحمه الله تعالى - : (أف للبخيل; لو كان البخل قميصا ما لبسته، ولو كان طريقا ما سلكته .

وقال طلحة بن عبيد الله) التيمي القرشي أحد العشرة - رضي الله عنه -: (إنا لنجد [ ص: 198 ] بأموالنا ما يجده البخلاء، ولكن نتصبر، وقال محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن المهدي التيمي: (كان يقال: إذا أراد الله بقوم شرا أمر عليهم شرارهم، وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم) ، وقد روي نحو ذلك مرفوعا من حديث مهران، وله صحبة، ولفظه: إذا أراد الله بقوم خيرا ولى عليهم حلماءهم، وقضى بينهم علماؤهم، وجعل المال في سمحائهم، وإذا أراد الله بقوم شرا ولى عليهم سفهاءهم، وقضى بينهم جهالهم، وجعل المال في بخلائهم.

أخرجه الديلمي في مسند الفردوس .

(وقال علي - كرم الله وجهه - في خطبته: إنه سيأتي على الناس زمان عضوض) ، أي: شديد المراس; كالدابة العضوض التي تكثر العض لمن مسها (يعض الموسر على ما في يديه) من المال بنواجذه، وهو كناية عن الإمساك الشديد (ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: ولا تنسوا الفضل بينكم ) المراد به ما فضل من المال بعد حاجتكم .

(وقال عبد الله بن عمرو) بن العاص في الفرق بين الشح، والبخل (الشح أشد من البخل; لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يدي غيره حتى يأخذه، ويشح) على غيره (بما في يديه فيحبسه) عنه (والبخيل هو الذي يبخل بما في يديه) مما يفضل لديه .

(وقال الشعبي) - رحمه الله تعالى -: (لا أدري أيهما أبعد غورا في نار جهنم: البخل، أو الكذب) .

رواه ابن أبي الدنيا في الصمت، عن إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، عن بيان، عنه، إلا أنه قال: في النار بدل: في جهنم، (وقيل: ورد على أنوشروان) بفتح الهمزة، وضم النون، وشروان كسحبان اسم ملك الفرس، وكان مشهورا بالعدل (حكيم الهند، وفيلسوف الروم) ، وهو واحد الفلاسفة، ومعناه الحكيم بالرومية (فقال أنوشروان للهندي: تكلم، فقال: خير الناس من ألفى) ، أي: وجد (سخيا، وعند الغضب وقورا) ، أي: متحملا لغضبه (وفي القول متأنيا) ، أي: متثبتا (وفي الرفعة متواضعا، وعلى كل ذي رحم مشفقا، وقال للرومي: تكلم، فقال: من كان بخيلا ورث عدوه ماله، ومن قل شكره) للنعمة (لم ينل النجاح) ، أي: الظفر بالمقصود (وأهل الكذب مذمومون، وأهل النميمة يموتون فقرا، ومن لم يرحم) ، أي: من ملكه (سلط الله عليه من لا يرحمه) ، وشاهده في كلام نبينا صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم.

(وقال الضحاك في قوله تعالى: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ، قال: البخل; أمسك الله تعالى بأيديهم عن النفقة في سبيل الله، فهم لا يبصرون الهدى) .

أخرجه الخرائطي في مساوي الأخلاق .

(وقال كعب الأحبار) - رحمه الله تعالى - (ما من صباح إلا وقد وكل به ملكان يناديان) يقول أحدهما: (اللهم عجل للممسك تلفا، و) يقول الثاني: (اللهم عجل للمنفق خلفا) .

هكذا رواه صاحب الحلية، وقد رواه الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه، وتعقبه الذهبي، وفيه زيادة: وملكان يناديان: يا باغي الخير هلم، ويقول الآخر: يا باغي الشر قصر، (وقال) عبد الملك بن قريب (الأصمعي) - رحمه الله تعالى - (سمعت أعرابيا قد وصف رجلا، فقال: لقد صغر فلان في عيني) ، أي: ذل، وحقر (لعظم الدنيا في عينه، وكأنما السائل إذا يراه ملك الموت إذا أتاه) ، أي: يستثقله، ويقشعر عنه، ويزور، ويكرهه كما يكره ملك الموت، ويزور عنه .

(وقال) الإمام (أبو حنيفة) - رحمه الله تعالى -: (لا أرى أن أعدل بخيلا; لأنه يحمله البخل على الاستقصاء) في معاملاته (فيأخذ فوق حقه) لا محالة (خيفة أن يغبن، فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة) ، فلا يعدل .

(وقال علي - كرم الله وجهه -: والله ما استقصى كريم قط حقه) ; لأنه (قال الله تعالى: عرف بعضه وأعرض عن بعض ) .

أخرجه ابن مردويه في تفسيره .

وأخرج البيهقي في الشعب، عن عطاء الخراساني، قال: ما استقصى حكيم قط، ألم تسمع إلى قوله تعالى: عرف بعضه وأعرض عن بعض .

وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: الذي عرف: أمر مارية، والذي أعرض: قوله لعائشة: إن أباك، وأباها يليان الناس من بعدي مخافة أن يفشوه، (وقال) عمرو بن بحر (الجاحظ) البصري يكنى أبا عثمان، من رؤساء المعتزلة، وله تصانيف في عدة من الفنون، روى عن يزيد بن هارون، وأبي يوسف القاضي، وعنه يموت بن المزرع، ومات سنة 255 (ما بقي من اللذات إلا ثلاث: ذم البخلاء، وأكل [ ص: 199 ] القديد، وحك الجرب) ، وفي كل منهما يجد الإنسان لذة ما لا يجد في غيرها .

(وقال بشر بن الحارث) الحافي - رحمه الله تعالى - (البخيل لا غيبة له) ; لأنه (قال النبي صلى الله عليه وسلم) لرجل: (إنك إذا لبخيل) ، فلو كان غيبة لم يقل ذلك، (ومدحت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: صوامة قوامة) ، أي: كثيرة الصيام، والقيام (إلا أن فيها بخلا، قال: فما خيرها إذا) تقدم في آفات اللسان، فهذا أيضا يدل أن ذكر الرجل بالبخل لا غيبة له .

(وقال بشر) - رحمه الله تعالى - أيضا: (النظر إلى البخيل يقسي القلب، وبقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين ) ، والقولان أخرجهما الخطيب في كتاب البخلاء .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي - رحمه الله تعالى - (ما في القلب للأسخياء إلا حب، ولو كانوا فجارا، وللبخلاء إلا بغض ولو كانوا أبرارا) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقال ابن المعتز) ، وهو أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله أبي عبد الله محمد بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم العباسي، وهو أول من ألف في البديع، وله ديوان شعر: (أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه) لأن من أكرم ماله أهان بعرضه .

(ولقي يحيى بن زكريا - عليهما السلام - إبليس في صورته) الحقيقية (فقال له: يا إبليس، أخبرني بأحب الناس إليك، وأبغض الناس إليك، فقال: أحب الناس إلي المؤمن البخيل، وأبغض الناس إلي الفاسق السخي، قال: لم؟ قال: لأن البخيل قد كفاني بخله، وفسقه، والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه، فيقبله، ثم ولى) ، أي: أدبر (وهو يقول: لولا أنك يحيى لما أخبرتك) ، وكأنه أظهر له النصح في الجواب إكراما له - عليه السلام .

(حكايات البخلاء) (قيل: كان بالبصرة رجل موسر) ، أي: غني (بخيل، فدعاه بعض جيرانه، وقدم إليه طباهجة) ، وهي أن يقطع اللحم، ويشوي في الطنجير في أي دهن كان، فإذا طبخ في الماء، ثم قلي سمي قلية (ببيض، فأكل منه فأكثر، وجعل يشرب الماء، فانتفخ بطنه، ونزل به الكرب والموت، فجعل يتلوى) يمينا وشمالا (فلما أجهده الأمر، وصف حاله لطبيب، فقال: لا بأس عليك، تقيأ ما أكلت) تبرأ (فقال: هاه! أتقيأ طباهجة ببيض؟ أموت ولا أتقيأ طباهجة ببيض) ، فهذا من بخله آثر الطباهجة على الصحة .

(وقيل: أقبل أعرابي يطلب رجلا بين يديه تين) ، وهو التمر المعروف (فغطى التين بكسائه) من بخله؛ كي لا يراه فيشاركه، (فجلس الأعرابي، فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئا، قال: نعم، وقرأ) بعد الاستعاذة، والبسملة (والزيتون، وطور سينين، فقال) الرجل: (وأين التين؟ فقال: هو تحت كسائك، ودعا بعضهم أخا له، ولم يطعمه شيئا إلى العصر حتى اشتد جوعه، وأخذه مثل الجنون) ، فإنه قد يعتري ذلك عند خلو المعدة (فأخذ صاحب البيت العود) ليغني له، (وقال له: بحياتي، أي صوت تشتهي أن أسمعك) بهذا العود؟ (قال: صوت المقلى) ، أي: صوت قلية اللحم .

(ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك) البرمكي جده خالد بن برمك، كان من عبدة النار، فأسلم، وولده أبو علي يحيى بلغ الرتبة العلية في الثروة حتى ولي الوزارة للعباسيين، وأخبارهم مشهورة، ومنهم محمد بن جعفر بن يحيى، حدث، وهو من مشايخ أبي داوود، وأبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى المعروف بجحظة، صاحب أخبار، ونوادر (وكان بخيلا قبيح البخل) على خلاف شيمة أهل بيته، فإنهم كانوا قد اشتهروا بالكرم (فسئل نسيب له كان يألفه) ، أي: يعاشره (عنه، وقال له قائل: صف لي مائدته، فقال: هي فتر في فتر) ، والفتر بالكسر ما بين طرف الإبهام، وطرف السبابة بالتفريج المعتاد، وصفها في غاية الضيق (وصحافه) جمع صحفة بالفتح، وهي الإناء الذي يؤكل فيه (منقورة من حب الخشخاش) ، أي: في غاية الصغر، وهي مبالغة (قيل: فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون) ، وهي ملائكة [ ص: 200 ] اليمين والشمال (قال: فما يأكل معه أحد؟ قال: بلى; الذباب) ، وما قدر ما يأكل منه الذباب (سوأة له) ، أي: قبحا (أنت خاص به) ، ونسيبه، وأليفه (وثوبك مخرق) ، أي: مقطع (فقال: إني والله ما أقدر على إبرة أخيط بها، ولو ملك محمد بيتا من بغداد إلى النوبة) ، وهي من بلاد السودان (مملوءا إبرا، ثم جاءه جبريل، وميكائيل، ومعهما يعقوب النبي - عليهما السلام - يطلبون منه إبرة) واحدة (ويسألونه: أعرنا إياها لنخيط بها قميص يوسف) - عليه السلام - (الذي قد) ، أي: شق (من قبل) ، أي: من قدام (ما فعل) ، وهذا المنتهى في البخل، وفيه مبالغات .

(ويقال: كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلا حتى يقرم إليه) ، أي: يشتاق إليه، ويشتهيه، والقرم نزع النفس إلى اللحم خاصة (فإذا قرم) إليه (أرسل غلامه فاشترى له رأسا) من رؤوس الغنم المشوية (فأكله، فقيل له: نراك إلا تأكل الرؤوس) المشوية (في الصيف، والشتاء، فلم تختار ذلك؟ فقال: نعم الرأس! أعرف شعره، وآمن خيانة الغلام) فيه (ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه غلام، فيقدر أن يأكل منه إن مس) منه (عينا، أو أذنا، أو خدا، وقفت على ذلك) ، فهو محدود (و) مع ذلك (آكل منه ألوانا: آكل عينه لونا، وأذنيه لونا، ولسانه لونا، وغلصمته) ، وهي رأس الحلقوم (لونا، ودماغه لونا، و) مع ذلك (أكفى مؤنة الطبخ، فقد اجتمعت لي فيه مرافق) ، وهذا بخل فيه نوع تدبير .

(و) يحكى أنه (خرج يوما يريد الخليفة المهدي) العباسي (فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن رجعت بالجائزة؟) ، أي: الصلة، والعطية (فقال: إن أعطيت مائة ألف) درهم (أعطيتك درهما، فأعطي ستين ألفا) درهما (فأعطاها أربعة دوانق) ، ولم يكمل لها درهما .

(و) يحكى أيضا أنه (اشترى مرة لحما بدرهم فدعاه صديق له) إلى منزله (فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق، وقال: أكره الإسراف .

وكان للأعمش) سليمان بن مهران الكوفي الفقيه (جار، وكان لا يزال يعرض عليه المنزل يقول: لو دخلت فأكلت كسرة وملحا، فيأبى عليه الأعمش) ، ويتعلل، ويواعد (فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش، فقال: سر بنا، فدخل منزله، فقرب إليه كسرة، وملحا) كما كان يعده به (إذ سأل سائل بالباب، فقال رب المنزل: بورك فيك، فأعاد عليه المسألة، فقال له: بورك فيك، فلما سأل الثالثة قال له: اخرج، وإلا والله خرجت إليه بالعصا، قال: فناداه الأعمش، وقال: اذهب ويحك، فلا والله ما رأيت أحدا أصدق مواعيد منه; منذ مدة يدعوني على كسرة وملح، فلا والله ما زادني عليهما) .

وللبخلاء أخبار كثيرة، ونوادر شهيرة، وقد اقتصر المصنف على هذا القدر، وهو الذي أورده الخطيب في كتاب البخلاء بأسانيده .






الخدمات العلمية