الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات .

اعلم أن في الإسرار للأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء ، وفي الإظهار فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ، ولكن فيه آفة الرياء ، قال الحسن قد علم المسلمون إن السر أحرز العملين ، ولكن في الإظهار أيضا فائدة ؛ ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية فقال : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .

والإظهار قسمان : أحدهما في نفس العمل ، والآخر التحدث بما عمل :

القسم الأول : إظهار نفس العمل ، كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه .

وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيرها ، ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب .

نعم الغازي إذا هم بالخروج فاستعد وشد الرحل قبل القوم تحريضا لهم على الحركة فذلك أفضل له ؛ لأن الغزو في أصله من أعمال العلانية ، لا يمكن إسراره فالمبادرة إليه ليست من الإعلان ، بل هو تحريض مجرد ، وكذلك الرجل قد يرفع صوته في الصلاة بالليل لينبه جيرانه وأهله فيقتدى به .

فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه ، وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء .

التالي السابق


(بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات) *

(اعلم) هداك الله بتوفيقه (أن في الإسرار للأعمال) أي: في إخفائها (فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء، وفي الإظهار) لها (فائدة الاقتداء) فيها (وترغيب الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء، قال الحسن ) البصري رحمه الله تعالى: (إن السر أحرز العملين، ولكن في الإظهار أيضا فائدة؛ ولذلك أثنى الله على السر [ ص: 302 ] والعلانية فقال: إن تبدوا الصدقات فنعما هي ) أي: فنعم شيء تبدوها! ( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء ) أي: تعطوها مع الإخفاء ( فهو خير لكم ) وتمام الآية ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير .

(والإظهار قسمان: أحدهما في نفس العمل، والآخر بالتحدث بما عمل:

القسم الأول: إظهار نفس العمل، كالصدقة في الملأ) أي: بين أظهر الناس (لترغيب الناس فيها كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة) فيها دراهم، وذلك لما رغب النبي - صلى الله عليه وسلم- في أمر الصدقة (فتتابع الناس بالعطية لما رأوه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه") .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي، وفي أوله قصة. اهـ .

قلت: لفظ مسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" وهكذا رواه أيضا الطيالسي وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وأبو عوانة وابن حبان.

وفي الباب حذيفة بن اليمان، وأبو هريرة، وأبو جحيفة، وواثلة بن الأسقع، فلفظ حديث حذيفة: "من سن في الإسلام خيرا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره، ومن أوزار من تبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" هكذا رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، والحاكم، والضياء من رواية أبي عبيدة بن حذيفة، عن أبيه .

ولفظ حديث أبي هريرة: "من سن خيرا فاستن به كان له أجره كاملا، ومن أجور من استن به من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره كاملا ومن أوزار الذي استن به لا ينقص من أوزارهم شيء" هكذا رواه أحمد.

وفي رواية: "من سن سنة هدى فاتبع عليها كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة ضلالة فاتبع عليها كان عليه مثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" هكذا رواه السجزي في الإبانة .

ولفظ حديث أبي جحيفة: "من سن سنة حسنة فعمل بها بعده كان له أجره ومثل أجورهم من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها ومثل أوزارهم من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء" هكذا رواه ابن ماجه، والطبراني في الأوسط .

ولفظ حديث واثلة: "من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك، ومن سن سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك، ومن مات مرابطا في سبيل الله جرى له أجر المرابط حتى يبعث يوم القيامة" هكذا رواه الطبراني في الكبير، والسجزي في الإبانة .

(ويجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والحج والغزو وغيره، ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب) كما وقع للأنصاري المتقدم ذكره (نعم الغازي) في سبيل الله (إذا هم بالخروج) من محله بنية الغزو (فاستعد) وتهيأ (وشد الرحل) والركائب (قبل القوم تحريضا على الحركة) والنهوض (فذلك أفضل له؛ لأن الغزو في نفسه من أعمال العلانية، لا يمكن إسراره) أي: إخفاؤه (والمبادرة إليه ليس من الإعلان، بل هو تحريض مجرد، وكذلك الرجل قد يرتفع صوته في صلاة الليل) أي: التي يصليها بعد هجعه (لينبه جيرانه وأهله فيقتدى به) في فعله .

(فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه، وإظهار الرغبة فيه للتحريض) على الانتفاع به، فمن كان ممن يستن به، عالما بما لله عليه، قاهرا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي؛ لصحة قصده، جاز له الإظهار والمبادرة، وإليه الإشارة بقوله: (بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء) والأفضل الإخفاء مطلقا، صرح به العز بن عبد السلام في قواعده .




الخدمات العلمية