الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها ، أما إذا خطر له وساوس الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره ، فلا يترك الصلاة ؛ لأن آفة الرياء في العبادات ضعيفة وإنما تعظم في الولايات ، وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم .

وبالجملة فالمراتب ثلاث: .

الأولى : الولايات ، والآفات فيها عظيمة ، وقد تركها جماعة من السلف خوفا من الآفة .

الثانية: الصوم الصلاة والحج والغزو ، وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم ، ولم يؤثر عنهم الترك لخوف الآفة .

وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها ، والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنى قوة .

الثالثة : وهي متوسطة بين الرتبتين ، وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية والتدريس ، والآفات فيها أقل مما في الولايات ، وأكثر مما في الصلاة ، فالصلاة ينبغي أن لا يتركها الضعيف والقوي ، ولكن يدفع خاطر الرياء ، والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء رأسا دون الأقوياء ومناصب العلم بينهما ، ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولاة أشبه ، وأن الحذر منه في حق الضعيف أسلم ، والله أعلم .

وهنا . رتبة رابعة : وهي جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقين ، فإن في الإنفاق وإظهار السخاء استجلابا للثناء وفي إدخال السرور على قلوب الناس لذة للنفس والآفات فيها أيضا كثيرة .

ولذلك سئل الحسن عن رجل طلب القوت ثم أمسك وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به ، فقال : القاعد أفضل لما يعرفون من قلة السلامة في الدنيا ، وأن من الزهد تركها قربة إلى الله تعالى .

وقال أبو الدرداء « ما يسرني أنني أقمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين دينارا ، أتصدق بها ، أما إني لا أحرم البيع والشراء ، ولكني أريد أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله » . .

وقد اختلف العلماء ، فقال قوم : إذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو أفضل من أن يشتغل بالعبادات والنوافل وقال قوم : الجلوس في دوام ذكر الله أفضل ، والأخذ والإعطاء يشغل عن الله وقد قال المسيح عليه السلام يا طالب الدنيا ليبر بها تركك لها أبر وقال .

أقل ما فيه أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله ، وذكر الله أكبر وأفضل .

وهذا فيمن سلم من الآفات ، فأما من يتعرض لآفة الرياء فتركه لها أبر ، والاشتغال بالذكر لا خلاف في أنه أفضل .

وبالجملة ما يتعلق بالخلق وللنفس فيه لذة فهو مثار الآفات ، والأحب أن يعمل ويدفع الآفات ، فإن عجز فلينظر وليجتهد ، وليستفت قلبه ، وليزن ما فيه من الخير بما فيه من الشر ، وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميل إليه الطبع .

وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه ؛ لأن النفس لا تشير إلا بالشر ، وقلما تستلذ الخير وتميل إليه ، وإن كان لا يبعد ذلك أيضا في بعض الأحوال ، وهذه أمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات ، فهو موكول إلى اجتهاد القلب ؛ لينظر فيه لدينه ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه ثم قد يقع مما ذكرناه غرور للجاهل ، فيمسك المال ، ولا ينفقه ؛ خيفة من الآفة ، وهو عين البخل .

ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلا عن الصدقات أفضل من إمساكه ، وإنما الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب أن الأفضل الكسب والإنفاق أو التجرد للذكر ، وذلك لما في الكسب من الآفات فأما المال الحاصل من الحلال فتفرقته أفضل من إمساكه بكل حال .

التالي السابق


(وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها، أما إذا خطر له وسواس الرياء في أثناء الصلاة وهو له كاره، فلا يترك الصلاة؛ لأن آفة الرياء في العبادات ضعيفة) كما تقدمت الإشارة إليه (وإنما تعظم في الولايات، وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم .

وبالجملة فالمراتب ثلاث:

الأولى: الولايات، والآفات فيها عظيمة، وقد تركها جماعة من السلف) وهربوا منها (خوفا من الآفة) أن تلحقهم .

(الثانية: الصلاة والصوم والحج والغزو، وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم، ولم يؤثر عنهم الترك)لها (لخوف الآفة، وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها، والقدرة على نفيها) وطردها (مع إتمام العمل لله بأدنى قوة .

الثالثة: وهي متوسطة بين الرتبتين، وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية والتدريس، والآفات فيها أقل مما في الولايات، وأكثر مما في الصلوات، فالصلاة لا ينبغي أن لا يتركها الضعيف والقوي، ولكن يدفع خاطر الرياء، والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء رأسا دون الأقوياء) المتحملين لها (ومناصب العمل بينهما، ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولايات أشبه، وأن الحذر منه في حق الضعيف أسلم. والله أعلم .

وههنا رتبة رابعة: وهي جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقين، فإن في الإنفاق) عليهم (إظهار السخاء) والجود (استجلابا للثناء) والمحمدة (وفي ادخال السرور على قلوب الناس لذة للنفس) عظيمة (والآفات فيها أيضا كثيرة) كما تقدم ذكر بعضها .

(ولذلك سئل الحسن ) البصري رحمه [ ص: 321 ] الله تعالى (عن رجل طلب القوت ثم أمسك) عليه (وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به، فقال: القاعد أفضل) وذلك لما (يعرفون من قلة السلامة في الدنيا، وأن من الزهد تركها قربة لله عز وجل) نقله صاحب القوت .

(وقال أبو الدرداء) رضي الله عنه: ("ما يسرني أني أقمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين دينارا، أتصدق بها، أما إني لا أحرم البيع والشراء، ولكني أريد أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله") .

أخرجه أحمد في الزهد، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية، حدثنا عبد الصمد، ثنا عبد الله بن يحيى، حدثنا أبو عبد رب قال: قال أبو الدرداء: "ما يسرني أن أقوم على الدرج من باب المسجد فأبيع وأشتري فأصيب كل يوم ثلاثمائة دينار، أشهد الصوات كلها في المسجد، لا أقول: إن الله لم يحل البيع وحرم الربا، ولكن أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله".

(وقد اختلف العلماء، فقال قوم: إذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو أفضل من أن يشتغل بالعبادات والنوافل) وهذا قول عباد الشام (وقال قوم: الجلوس في دوام ذكر الله أفضل، والأخذ والعطاء يشغل عن الله) وهذا قول عباد البصرة.

(وقد قال عيسى -عليه السلام- يا طالب الدنيا لتبر بها تركك لها أبر) تقدم في كتاب ذم الدنيا (وقال) أيضا: (أقل ما فيه أنه يشغله إصلاحه عن ذكر الله، وذكر الله أفضل وأكبر) .

وروي عنه أنه قال: "إن في المال داء كبيرا، قيل: يا روح الله وإن كان يكتسبه من الحلال، قال: يشغله كسبه عن الله عز وجل" .

(وهذا فيمن سلم من الآفات، فأما من يتعرض لآفة الرياء فتركه لها أبر، والاشتغال بالذكر لا خلاف في أنه أفضل) وقد وردت بذلك أخبار .

(وبالجملة ما يتعلق بالخلق وللنفس فيه لذة فهو مثار الآفات، والأحب أن يعمل ويدفع الآفات، فإن عجز عن الدفع فلينظر وليجتهد، وليستفت قلبه، وليزن ما فيه من الخير بما فيه من الشر، وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميل إليه الطبع) فما دل عليه نور العلم واطمأن إليه القلب يقدم عليه، وما مال إليه الطبع وحاك في الصدر يتركه .

(وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه؛ لأن النفس لا تشير إلا بالشر، وقلما تستلذ الخير) أو تستحسنه (وتميل إليه، وإن كان لا يبعد ذلك أيضا في بعض الأحوال، وهذه أمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات، فهو موكول إلى اجتهاد القلب؛ لينظر فيه لدينه) بما يصلحه (ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه) كما ورد الأثر بذلك في الخبر .

(ثم قد يقع بما ذكرناه غرور للجاهل، فيمسك المال، ولا ينفق؛ خيفة من الآفة، وهو عين البخل) المذموم (ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلا عن الصدقات) الواجبة أو المسنونة (أفضل من إمساكه، وإنما الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب أن الأفضل ترك الكسب والإنفاق أو التجرد للذكر، وذلك لما في الكسب من الآفات) أكبرها الشغل عن الله .

(وأما المال الحاصل من الحلال) من غير مزاولة الاكتساب (فتفرقته أفضل من إمساكه بكل حال) .




الخدمات العلمية