الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان كما أخبر الله تعالى عنه إذ قال : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن فأجاب الله عن ذلك كلا أي : ليس كما قال ، إنما هو ابتلاء نعوذ بالله من شر البلاء ونسأل الله التثبيت ، فبين أن ذلك غرور قال الحسن كذبهما جميعا بقوله : كلا يقول ليس : هذا بإكرامي ، ولا هذا بهواني ، ولكن الكريم من أكرمته بطاعتي غنيا كان أو فقيرا ، والمهان من أهنته بمعصيتي غنيا كان أو فقيرا .

وهذا الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان ; إما بالبصيرة أو بالتقليد .

أما البصيرة فبأن يعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعدا عن الله ، ووجه كون التباعد عنها مقربا إلى الله ويدرك ذلك بالإلهام في منازل العارفين والأولياء وشرحه من جملة علوم المكاشفة ، ولا يليق بعلم المعاملة .

وأما معرفته بطريق التقليد والتصديق ، فهو أن يؤمن بكتاب الله تعالى ويصدق رسوله وقد قال تعالى أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وقال تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وقال تعالى : فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون وفي تفسير قوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون أنهم كلما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة ليزيد غرورهم وقال تعالى : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقال تعالى : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله فمن آمن به تخلص من هذا الغرور فإن منشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته ، فإن من عرفه لا يأمن مكره ، ولا يغتر بأمثال هذه الخيالات الفاسدة وينظر إلى فرعون وهامان وقارون وإلى ملوك الأرض وما جرى لهم كيف أحسن الله إليهم ابتداء ثم دمرهم تدميرا فقال تعالى : هل تحس منهم من أحد الآية ، وقد حذر الله تعالى من مكره واستدراجه فقال : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ، وقال تعالى : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ، وقال عز وجل : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقال تعالى : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا فكما لا يجوز للعبد المهمل أن يستدل بإهمال السيد إياه وتمكينه من النعم على حب السيد بل ينبغي أن يحذر أن يكون ذلك مكرا منه وكيدا مع أن السيد لم يحذره مكر نفسه فبأن يجب ذلك في حق الله تعالى مع تحذيره استدراجه أولى ، فإذن من أمن مكر الله فهو مغتر ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم واحتمل أن يكون ذلك دليل الهوان ، ولكن ذلك الاحتمال لا يوافق الهوى فالشيطان ، بواسطة الهوى يميل بالقلب إلى ما يوافقه ، وهو التصديق بدلالته على الكرامة ، وهذا هو حد الغرور .

التالي السابق


(والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله) أكرمه بها، (وإذا صرفت عنه ظن أنه هوان) به (كما أخبر الله تعالى عنه) في كتابه العزيز: (إذ قال: فأما الإنسان ) ، وهو متصل بقوله: [ ص: 438 ] إن ربك لبالمرصاد من الآخرة، فلا يريد إلا السعي لها، فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها، ( إذا ما ابتلاه ربه ) اختبره بالغنى واليسر ( فأكرمه ونعمه ) بالمال والجاه، ( فيقول ربي أكرمن ) أي: فضلني بما أعطاني ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) أي: حبسه ( فيقول ربي أهانن ) لقصور نظره، ومرد فكره، فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء، والانهماك في حب الدنيا، فلذلك ذمه على قوله، وردعه عنه بقوله: ( كلا أي: ليس كما قال، إنما هو ابتلاء نعوذ بالله من شر البلاء، فبين أن ذلك غرور) ، ولم يقل فأهانه وقدر عليه كما قال: فأكرمه ونعمه; لأن التوسعة تفضل، والإخلال به لا يكون إهانة. (قال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (كذبهما جميعا بقوله: كلا يقول: هذا ليس بكرامتي، ولا هذا بهواني، ولكن الكريم من أكرمته بطاعتي غنيا كان أو فقيرا، والمهان من أهنته بمعصيتي غنيا كان أو فقيرا) ، رواه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن الحسن مختصرا بلفظ كذبتهما جميعا ما بالغنى أكرمك، ولا بالفقر أهانك .

وروى ابن أبي حاتم، عن مجاهد نحوه قال: ظن كرامة الله في المال، وهوانه في قلته وكذب، إنما يكرم بطاعته من أكرم، ويهين بمعصيته من أهان.

(وهذا الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان; إما بالبصيرة) النافذة، (وإما بالتقليد) المحض (إما بالبصيرة) النافذة، (فبأن تعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعدا عن الله، ووجه كون التباعد عنها مقربا إلى الله)ضرورة من أحب القرب من الله تباعد عن شهوات الدنيا، ومن مال إليها بعد عن قرب الله، (ويدرك ذلك بإلهام) رباني، ينفث في روعه (في منازل العارفين والأولياء) ، ومقاماتهم وأحوالهم (وشرحه) من حيث التفصيل يستدعي بسط مقدمات، وهو (من جملة علوم المكاشفة، ولا يليق بعلم المعاملة، وأما معرفته بطريق التقليد والتصديق، فهو أن يؤمن بكتاب الله ويصدق رسوله) فيما بلغه، (وقد قال تعالى) في كتابه العزيز: ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) ، ما نريد بهم (وقال تعالى: سنستدرجهم ) أي: سنجرهم قليلا قليلا إلى العذاب ( من حيث لا يعلمون ، وقال تعالى: فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) أي: منقطعون في حجتهم، أو محزنون لشدة ما عرض لهم، (و) يروى (في تفسير قوله تعالى: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون أنهم كلما أحدثوا ذنبا أحدثنا نعمة ليزيد غرورهم) ، وفي رواية كلما جددوا خطيئة جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم شكر النعمة، واستغفار الذنب .

ويروى عن سعيد بن جبير: الاغترار بالله المقام على الذنب ورجاء المغفرة، وروى أحمد والطبراني والبيهقي من حديث عقبة بن عامر: إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك له منه استدراج.

وروى ابن المبارك في الزهد من مرسل سعيد بن أبي سعيد: "إذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة وابتغيته يسر لك، وإذا رأيت شيئا من أمر الدنيا وابتغيته عسر عليك، فاعلم أنك على حال حسنة، وإذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة وابتغيته عسر عليك، وإذا طلبت شيئا من أمر الدنيا وابتغيته يسر لك فأنت على حال قبيحة"، ورواه البيهقي مرفوعا من حديث عمر بن الخطاب، (وقال تعالى: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) أي: نكثر جرائمهم في مدة الإمهال، (وقال تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون الآية) ، وتمامها إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله وسنة رسوله) صلى الله عليه وسلم، (فمن آمن به) وصدق بما فيه، (تخلص من هذا الغرور فإن منشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته، فإن من عرفه لا يأمن من مكره، ولا يغتر بأمثال هذه الخيالات) والأوهام، (وينظر إلى فرعون وهامان وقارون) وشداد، وأشباههم، (وإلى ملوك الأرض) [ ص: 439 ] السالفين (وما جرى لهم كيف أحسن الله إليهم ابتداء) ، وأسبغ عليهم نعمه، (ثم دمرهم تدميرا) ، واستأصل شأفتهم، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا (فقال تعالى: هل تحس منهم من أحد الآية، وقد حذر الله تعالى مكره واستدراجه) في مواضع من الكتاب العزيز (فقال: فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ، وقال تعالى: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ، وقال تعالى: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ، والمكر هو صرف الغير عما يقصد بنوع من الحيلة، وهو ضربان: محمود وهو ما يتحرى به أمر جميل، وعلى ذلك ما تقدم من الآيات، ومذموم وهو ما يتحرى به فعل ذميم، ومنه قوله تعالى: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله قالوا: ومن مكر الله بالعبد إمهاله، وتمكينه من أعراض الدنيا، (وقال تعالى: إنهم يكيدون كيدا ) من إبطال القرآن، وإطفاء نوره، والمراد بهم أهل مكة، (وأكيد كيدا) أي: أقابلهم بكيدي في استدراجي لهم، وانتقامي منهم بحيث لا يحتسبون، ( فمهل الكافرين ) أي: فلا تشتغل بالانتقام منهم، أو لا تستعجل بإهلاكهم، ( أمهلهم رويدا ) أي: إمهالا يسيرا، (فكما لا يجوز للعبد المهمل) المتروك في لذاته (أن يستدل بإهمال السيد إياه) ، وتركه له (وتمكينه من التنعم) في شهوات الدنيا (على حب السيد) ، وتقربه منه (بل ينبغي أن يحذر أن يكون ذلك مكرا منه) ، وحيلة (مع أن السيد لم يحذره مكر نفسه) ، ولم يعلمه به، (فبأن يجب ذلك في حق الله تعالى مع تحذيره استدراجه) ، وتخويفه منه، وتنبيهه عليه (أولى، فإذن من أمن من مكر الله فهو مغرور) ، ولذا قال علي رضي الله عنه: من وسع عليه في دنياه، ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن عقله.

(ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند المنعم) ، محبوب لديه، (واحتمل أن يكون ذلك دليل الهوان، ولكن ذلك احتمال لا يوافق الهوى والشيطان، بواسطة الهوى يميل بالقلب إلى ما يوافقه، وهو التصديق بدلالته على الكرامة، وهذا هو حد الغرور) .




الخدمات العلمية