الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المثال الثاني : غرور العصاة من المؤمنين بقولهم : إن الله كريم ، وإنا نرجو عفوه ، واتكالهم على ذلك ، وإهمالهم الأعمال وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم رجاء ، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين ، وأن نعمة الله واسعة ، ورحمته شاملة ، وكرمه عميم ، وأين معاصي العباد في بحار رحمته ، وإنا موحدون ومؤمنون ، فنرجوه بوسيلة الإيمان وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء وعلو رتبتهم كاغترار العلوية بنسبهم ومخالفة ، سيرة آبائهم في الخوف والتقوى والورع وظنهم أنهم أكرم على الله من آبائهم إذا ; آباؤهم مع غاية الورع والتقوى كانوا خائفين وهم مع غاية الفسق والفجور آمنون .

وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى .

، فقياس الشيطان للعلوية .

أن من أحب إنسانا أحب أولاده وأن ، الله قد أحب آباءكم فيحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعة ، وينسى المغرور أن نوحا عليه السلام أراد أن يستصحب ولده معه في السفينة ، فلم يرد فكان من المغرقين فقال رب إن ابني من أهلي فقال تعالى يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح وأن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه فلم ينفعه .

وأن نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى استأذن ربه في أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ، ولم يؤذن له في الاستغفار ، فجلس يبكي على قبر أمه لرقته لها بسبب القرابة حتى أبكى من حوله .

فهذا أيضا اغترار بالله تعالى ، وهذا ; لأن الله تعالى يحب المطيع ، ويبغض العاصي ، فكما أنه لا يبغض الأب المطيع ببغضه للولد العاصي فكذلك لا يحب الولد العاصي بحبه للأب المطيع ولو كان الحب يسري من الأب إلى الولد لأوشك ، أن يسري البغض أيضا ، بل الحق أن لا تزر وازرة وزر أخرى .

ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه ، ويصير عالما بتعلم أبيه ، ويصل إلى الكعبة ويراها بمشي أبيه .

فالتقوى فرض عين فلا يجزي فيه والد عن ولده شيئا ، وكذا العكس ، وعند الله جزاء التقوى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه إلا على سبيل الشفاعة ، لمن لم يشتد غضب الله عليه فيأذن ، في الشفاعة له كما سبق في كتاب الكبر والعجب .

التالي السابق


(المثال الثاني: غرور العصاة من المؤمنين بالله بقولهم: إن الله كريم، وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال) رأسا، (وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم رجاء، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين، وأن نعمة الله واسعة، ورحمته شاملة، وكرمه عميم، وأين معاصي العباد) ، وإن كثرت (في) جنب (بحار رحمته، وإنا موحدون ومؤمنون، فنرجوه بوسيلة الإيمان) ، فهذا مستند كبير درجت عليه عامة العصاة وخاصتهم، (وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء) والجدود، (وعلو رتبتهم) عند الناس (كاغترار العلوية) أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم البيوت الخمسة (بنسبهم، ومخالفتهم سيرة آبائهم) الطاهرين (في الخوف والتقوى والورع) كما روي عن علي بن الحسين بن علي وولده وحفيده جعفر وغيرهم، وهو ظاهر لمن طالع مناقبهم، وسبر سيرهم (وظنهم أنهم أكرم على الله من آبائهم; إذ آباؤهم مع غاية الورع والتقوى كانوا خائفين) على أنفسهم، (وهم مع غاية الفجور والفسق آمنون، وذلك نهاية الاغترار بالله، فقياس الشيطان للعلوية أن من أحب إنسانا أحب أولاده، وإن الله تعالى قد أحب آباءكم فيحبكم) لحبه إياهم، (فلا تحتاجون إلى الطاعة، وينسى المغرور أن نوحا عليه السلام) كما أذن له أن يعمل للسفينة، وذلك قوله تعالى: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ثم أمره أن يحمل فيها، وذلك قوله تعالى: قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (أراد أن يستصحب ولده) كنعان (معه في السفينة، فلم يرد فكان من المغرقين) ، وذلك ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فكان من امتناعه من الركوب ما قص [ ص: 440 ] الله في كتابه بقوله: وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (فقال) نوح لما رآه كذلك يا رب ( إن ابني من أهلي ) وإن وعدك الحق وقد وعدتني أن تنجي أهلي، فما حاله، أو فما له لم ينج؟ ويجوز أن يكون هذا قبل غرقه، فرد الله تعالى عليه، (فقال) يا نوح ( إنه ليس من أهلك ) لقطع الولاية بين المؤمن والكافر، وأشار إليه بقوله: ( إنه عمل غير صالح ) أي: ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة، ثم أبدل الفاسد بغير الصالح تصريحا بالمناقضة بين وصفيهما .

(وإن إبراهيم) عليه السلام (استغفر لأبيه) آزر (فلم ينفعه) ذلك، وقد اعتذر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز فقال: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه إلى قوله: إن إبراهيم لأواه حليم .

(وإن نبينا استأذن أن يزور قبر أمه) آمنة بنت وهب، وذلك بالأبواء، (ويستغفر لها فأذن له في الزيارة، ولم يؤذن له في الاستغفار، فجلس يبكي على قبر أمه لرقته لها بسبب القرابة حتى أبكى من حوله) . قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة اهـ .

وفي الوسيط للواحدي عند قوله تعالى: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ، قال قرأ نافع بفتح التاء الفوقية، وجزم اللام على النهي للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه سأل جبريل عليه السلام عن قبر أبيه وأمه، فدله عليهما، فذهب إلى القبرين، ودعا، وتمنى أن يعرف حال أبويه في الآخرة فنزلت اهـ .

قلت: وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي" فنزلت، فما ذكرهما حتى توفاه الله، وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: أين أبواي؟ فنزلت.

وأما حديث إحيائهما حتى آمنا به فأورده السهيلي في الروض من حديث عائشة، وكذا الخطيب في السابق واللاحق، وقال السهيلي في إسناده مجاهيل، وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جدا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله عز وجل، وقد ألف الحافظ السيوطي في نجاة الأبوين سبع رسائل، ورد عليه فيها غير واحد من علماء عصره، ومن بعدهم، ولي في هذا الشأن جزء لطيف سميته الانتصار لوالدي النبي المختار صلى الله عليه وسلم، والذي أراه الكف عن التعرض لهذا نفيا وإثباتا، والله أعلم .

(فهذا أيضا اغترار بالله عز وجل، وهذا; لأن الله يحب المطيع، ويبغض العاصي، فكما أنه لا يبغض الأب المطيع) لله تعالى (ببغضه للولد العاصي) لله تعالى، (فكذلك لا يحب الوالد العاصي) لله تعالى (بحبه للولد المطيع) لله تعالى، (ولو كان الحب يسري من الأب إلى الولد، ولا شك أن يسري البغض أيضا، بل الحق أن لا تزر وازرة وزر أخرى) ، وكل شاة معلقة برجلها، (ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه) ، وأنه ينفعه (كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه، ويصير عالما بتعلم أبيه، ويصل إلى الكعبة ويراها بمشي أبيه) إليها، وبرؤيته إياها هذا لا يكون، (والتقوى فرض عين) في حق كل أحد، (ولا يجزي فيه والد عن ولده شيئا، وكذا العكس، وعند الله جزاء التقوى) في يوم القيامة (يوم يفر المرء من أخيه وأبيه) ، وصاحبته وبنيه (إلا على سبيل الشفاعة، لمن لم يشتد غضب الله عليه، وأذن له في الشفاعة كما سبق في كتاب الكبر والعجب)، غير أن صلاح الآباء قد يراعى في الأبناء، وله نوع تأثير فيهم بدليل قوله تعالى: وكان أبوهما صالحا فإنه نبه به على أن سعي الخضر عليه السلام كان لصلاحه، قال البيضاوي: قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء .

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، عن خيثمة قال: قال عيسى عليه السلام: طوبى لذرية المؤمن ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده، وتلا خيثمة: وكان أبوهما صالحا .

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: إن الله يحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق شيبة، عن سليمان بن سليم أبي سلمة قال: مكتوب في التوراة: إن الله ليحفظ القرب إلى القرب إلى سبعة قروب.

وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال: إن الرب تبارك وتعالى قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل: إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد.

وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال يقول الله: اتقوا غضبي، فإن غضبي يدرك إلى ثلاثة آباء، وأحبوا رضاي; فإن رضاي يدرك [ ص: 441 ] الأمة.




الخدمات العلمية