الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا ، وسبب إعراضهم عن الله تعالى ، وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور فقد ، أخبر صلى الله عليه وسلم ، وذكر أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة .

وقد كان ما وعد به صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات و يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ، ويبكون على أنفسهم في الخلوات .

وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي ، وانهماكهم في الدنيا ، وإعراضهم عن الله تعالى زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله راجون ، لعفوه ومغفرته ، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون .

فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى ، وينال بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم ، وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه معقل بن يسار يأتي على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان ، أمرهم كله يكون طمعا لا خوف معه ، إن أحسن أحدهم قال : يتقبل مني ، وإن أساء قال : يغفر لي .

فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه .

وبمثله أخبر عن النصارى ; إذ قال تعالى : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ، ومعناه أنهم ورثوا الكتاب ، أي : هم علماء و يأخذون عرض هذا الأدنى أي : شهواتهم من الدنيا حراما كان أو حلالا .

، وقد قال تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان : ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف ، لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ، ويعظم خوفه ، إن كان مؤمنا بما فيه .

وترى الناس يهذونه هذا يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم ، يقرءون شعرا من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه ، والعمل بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا ، فهذه أمثلة الغرور بالله ، وبيان الفرق بين الرجاء والغرور . ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص ، إلا أن معاصيهم أكثر ، وهم يتوقعون المغفرة ، ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر ، وهذا غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ، ويكون ما يتناول من أموال المسلمين والشبهات أضعافه ، ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين ، وهو يتكل عليه ، ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال ، وما هو إلا كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان ، وفي الكفة الأخرى ألفا ، وأراد أن يرفع الكفة الثقيلة بالكفة الخفيفة ، وذلك غاية جهله .

نعم ، ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه ; لأنه لا يحاسب نفسه ، ولا يتفقد معاصيه ، وإذا عمل طاعة حفظها ، واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه ، أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ، ثم يغتاب المسلمين ، ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من غير حصر وعدد ، ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة ، وغفل عن هذيانه طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة ، أو ألف مرة ، وقد كتبه الكرام الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد فهذا أبدا يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه إلى غير ذلك من آفات اللسان .

وذلك محض الغرور .

ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يكتبونه من هذيانه الذي زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة من مهماته ، وما نطق به في فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته ، حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه ، فيا عجبا لمن يحاسب نفسه ، ويحتاط خوفا على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ، ولا يحتاط خوفا من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه ، ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها لقد دفعنا إلى أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين ، وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين ، فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن ، وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين ، مع هذا البيان .

وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور على القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالا على أباطيل المنى وتعاليل ، الشيطان والهوى ، والله أعلم .

التالي السابق


(ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم) ، وكسلهم من الأعمال (وسبب إقبالهم على الدنيا، وسبب إعراضهم عن الله عز وجل، وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن الغرور سيغلب على آخر هذه الأمة) ، وهو حديث أبي ثعلبة الخشني في إعجاب كل ذي رأي برأيه، وقد تقدم في آخر ذم الكبر والعجب. (وقد كان ما وعد به صلى الله عليه وسلم) ، وتحقق وجدانه; (فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات) ، [ ص: 444 ] مديمين عليها ( و يؤتون ما آتوا ) من الأعمال الصاحة ( وقلوبهم وجلة ) أي: خائفة (يخافون على أنفسهم) من عدم القبول، (وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات، ويبكون على أنفسهم في الخلوات) كما هو معروف من سيرتهم لمن طالع في تراجمهم وأخبارهم .

(وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير عارفين مع إكبابهم على المعاصي، وانهماكهم في الدنيا، وإعراضهم عن الله) عز وجل، (زاعمين أنهم واثقون بكرم الله وفضله، وراجون لعفوه ومغفرته، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من كرم الله وفضله ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون، فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى، وينال بالهوينا) أي: بالهداوة والسهولة (فعلى ماذا كان بكاء أولئك) القوم (وخوفهم وحزنهم، وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء) كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

(وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه معقل بن يسار) المزني رضي الله عنه، ممن بايع تحت الشجرة، وكنيته أبو علي مات بعد الستين: (يأتي على الناس زمان يخلق) أي: يبلى (فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب) أي: تبلى (على الأبدان، يكون أمرهم كله طمعا لا خوف معه، إن أحسن أحدهم قال: يتقبل مني، وإن أساء قال: يغفر لي)قال العراقي: رواه الحارث بن أبي أسامة من طريق أبي نعيم بسند ضعيف، ورواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس نحوه بسند فيه جهالة .

(فأخبر) صلى الله عليه وسلم (أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن) ، وإنذاراته (وما فيه، وبمثله أخبر) الله تعالى (عن النصارى; إذ قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ) أي: تكلفوا دراسته وتلقفوه، ( يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ، ومعناه أنهم ورثوا الكتاب، أي: هم علماء) بما فيه ( و يأخذون عرض هذا الأدنى أي: شهواتهم من الدنيا حلالا كان أو حراما، وقد قال تعالى: ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) اسم من الإيعاد، وهو الوعد من العذاب (والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف، لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه، ويعظم خوفه، إن كان مؤمنا بما فيه) مصدقا له (وترى الناس يهذونه هذا) الهذ سرعة القطع، وقد هذ قراءته هذا إذا أسرع فيها، (يخرجون الحروف من مخارجها يناظرون على رفعها وخفضها ونصبها، فكأنهم يقرءون شعرا من أشعار العرب يهمهم الالتفات إلى معانيه، والعمل بما فيه) .

وقد روى أبو نعيم من حديث ابن عباس: "يأتي على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن فيجمعون حروفه، ويضيعون حدوده، ويل لهم مما جمعوا، وويل لهم مما ضيعوا"، إن أدنى الناس بهذا القرآن من جمعه ولم ير عليه أثره (وهل في العالم غرور يزيد على هذا، فهذه أمثلة الغرور بالله، وبيان الفرق بين الرجاء والغرور.

ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص، إلا أن معاصيهم أكثر، وهم متوقعون المغفرة، ويظنون أنه تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر، وهذا غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال، أو الحرام، ويكون ما يتناول من أموال المسلمين والشبهات أضعافه، ولعل ما تصدق به هو من أموال المسلمين، وهو يتكل عليه، ويظن أن أكل ألف درهم [ ص: 445 ] حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحلال أو الحرام، وما هو إلا كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان، وفي الكفة الأخرى ألفا، وأراد أن يرفع الكفة الثقيلة بالكفة الخفيفة، وذلك غاية جهله، نعم، ومنهم من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه; لأنه لا يحاسب نفسه، ولا يتفقد معاصيه، وإذا عمل طاعة حفظها، واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه، أو يسبح الله تعالى في اليوم) ، والليلة (مائة مرة، ثم يغتاب المسلمين، ويمزق أعراضهم) ، ويأكل لحومهم (ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من غير حصر وعدد، ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر مائة مرة، وغفل عن هذيانه) ، وهو الكلام الذي لا فائدة فيه (طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة، أو ألف مرة، وقد كتبه الكرام الكاتبون) ، وهم الحفظة من الملائكة، (وقد أوعده الله تعالى العقاب على كل كلمة فقال: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) أي: مراقب حاضر (فهو أبدا يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات، ولا يلتفت إلى ما ورد في عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين بذكر ما لا يضمرونه إلى غير ذلك من آفات اللسان، وذلك محض الغرور، ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يكتبونه من هذيانه الذي زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه) أي: يمسكه (حتى عن جملة من مهماته، وما نطق به في فترته فكان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته، حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه، فيا عجبا لمن يحاسب نفسه، ويحتاط خوفا على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ، ولا يحتاط خوفا من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه، ما هذا إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها) وتأمل حق التأمل (فقد دفعنا إلى أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين، عياذا بالله من ذلك، وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين، فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن، وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران) والجحود، (فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين، مع هذا البيان) الواضح البرهان، (وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور على القلوب أن يخشى ويتقى) مقامه، (ولا يغتر به اتكالا على أباطيل المنى، و) اعتمادا (على تعاليل الشيطان والهوى، والله الموفق) .




الخدمات العلمية