الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفرقة أخرى وقعت في الإباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام فبعضهم يزعم إن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي وبعضهم يقول : قد كلف الناس تطهير القلوب عن الشهوات ، وعن حب الدنيا ، وذلك محال ، فقد كلفوا ما لا يمكن وإنما يغتر به من لم يجرب ، وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال .

ولا يعلم الأحمق أن الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من أصلهما ، بل إنما كلفوا قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع .

وبعضهم يقول : الأعمال بالجوارح لا وزن لها ، وإنما النظر إلى القلوب ، وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة إلى معرفة الله ، وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا ، وقلوبنا عاكفة في حضرة الربوبية فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ، ويزعمون أنهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية وأن الشهوات لا تصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها ، ويرفعون درجة أنفسهم على درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة حتى كانوا يبكون عليها وينوحون ، سنين متوالية وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى وكل ذلك بناء على أغاليط ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم صالح للاقتداء به وإحصاء أصنافهم يطول .

التالي السابق


(وفرقة أخرى منهم وقعت في) إباحة (الإباحة فطووا بساط الشرع) على غرته، (ورفضوا الأحكام) الشرعية، (وسووا بين الحلال والحرام) ، وهم طائفة الملاحدة، وهم فرق; (فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملي) كما تقتضيه حقيقة الغنى المطلق (فلم أتعب نفسي) بالمجاهدة والرياضة؟! وهؤلاء قد شبه عليهم الأمر لم يفطنوا أن عائدة الأعمال إنما تعود إليهم، وهم لكمال فقرهم محتاجون لها، وأما الحق تعالى فلا يسأل عما يفعل .

(وبعضهم يقول: قد كلف الناس تطهير القلوب عن الشهوات، وعن حب الدنيا، وذلك محال، فقد كلفوا ما لا يمكن) تحصيله، وما من قلب إلا وفيه الشهوة وحب الدنيا، (وإنما يغتر به من لم يجرب، وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال) ، وهؤلاء أيضا قد اشتبه عليهم الأمر .

(ولا يعلم الأحمق أن الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من أصلهما، بل إنما كلفوا قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع، وبعضهم يقول: الأعمال بالجوارح لا قدر) ، وفي نسخة: لا وزن (لها، وإنما النظر إلى القلوب، وقلوبنا والهة) أي: مهيمة (بحب الله واصلة إلى معرفة الله، وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا، وقلوبنا عاكفة في الحضرة الربوبية) نتمتع بها (فنحن في الشهوات بالظواهر [ ص: 481 ] لا بالقلوب، ويزعمون أنهم قد ترقوا عن رتبة العوام) بهذا (واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية) لعدم الحاجة إليها، (و) يزعمون (أن الشهوات لا تصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها، ويرفعون درجة أنفسهم عن درجة الأنبياء عليهم السلام إذ كان يصدهم عن طريق الله خطئية واحدة حتى كانوا يبكون عليها، وينحون سنين متوالية) ، كما حكي ذلك في قصة آدم وداود عليهما السلام; فأخرج أحمد في الزهد عن علقمة بن مرثد قال: لو جمع دموع أهل الأرض ودموع داود ما عدلوا دموع آدم حين أهبط من الجنة.

وعند ابن أبي شيبة: لو عدل بكاء أهل الأرض بكاء داود ما عدله، ولو عدل بكاء أهل الأرض ببكاء آدم حين أهبط إلى الأرض ما عدله، وأخرج أحمد عن ثابت قال: اتخذ داود سبع حثايا من الشعر، وحثاهن من الرماد، ثم بكى حتى أنفذها دموعا، ولم يشرب داود شرابا إلا ممزوجا بدموع عينيه، ومن طريق الأوزاعي مرفوعا لقد خددت الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض، ومن طريق أبي عبد الله الجدلي قال: ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات.

(وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى) ، وفضائحهم في سوء ما ذهبوا إليه لا تستقصى، (وكل ذلك بناء على أغاليط) وقعت لهم في فهمهم (ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة) والرياضة (قبل إحكام العلم) واتقان قواعده، (ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم صالح للاقتداء به) ، نعم شيخهم الذي يقتدون به الشيطان، (وإحصاء أصنافهم يطول) .




الخدمات العلمية