الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يتخلص منه أحد ، ولا يمكن الاحتراز منه ، وهذا يوجب اليأس إذ لا يقوى أحد من البشر على الحذر من خفايا هذه الآفات . فأقول : الإنسان إذا افترقت همته في شيء أظهر اليأس منه ، واستعظم الأمر واستوعر الطريق وإذا صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل ، واستنبط بدقيق النظر خفايا الطرق في الوصول إلى الغرض حتى إن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه استنزله وإذا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحر استخرجه وإذا أراد أن يستخرج الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه وإذا أراد أن يقنص الوحوش المطلقة في البراري والصحاري اقتنصها وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة ، وعظيم الحيوانات استسخرها وإذا أراد أن يأخذ الحيات والأفاعي ويعبث بها أخذها واستخرج الترياق من أجوافها وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقش من ورق التوت اتخذه وإذا أراد أن يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخرج بدقيق الهندسة ذلك ، وهو مستقر على الأرض وكل ذلك باستنباط الحيل وإعداد الآلات فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد وسخر البازي لاقتناص الطيور ، وهيأ الشبكة لاصطياد السمك إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي .

كل ذلك ; لأن همه أمر دنياه ، وذلك معين له على دنياه ، فلو همه أمر آخرته ، فليس عليه إلا شغل واحد وهو تقويم قلبه فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل ، وقال : هذا محال ومن الذي يقدر عليه وليس ذلك بمحال لو أصبح وهمه هذا الهم الواحد ، بل هو كما يقال :


لو صح منك الهوى أرشدت للحيل

فهذا شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون ومن اتبعهم بإحسان .

فلا يعجز عنه أيضا من صدقت إرادته وقويت همته بل لا يحتاج إلى عشر تعب الخلق في استنباط حيل الدنيا ، ونظم أسبابها .

التالي السابق


(فإن قلت: فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يتخلص منه أحد، ولا يمكن الاحتراز منه، وهذا يوجب اليأس) من إدراكه (إذ لا يقوى أحد من البشر على الحذر من خفايا هذه الآفات .

فأقول: الإنسان إذا فترت همته) أي: ضعفت (في شيء أظهر اليأس منه، واستعظم الأمر) أي: عده عظيما، (واستوعر الطريق) أي: استصعبه، (وإذا صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل، واستنبط بدقيق النظر خفايا الطريق [ ص: 489 ] في الوصول إلى الغرض حتى إن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق) أي: المرتفع (في جو السماء مع بعده منه استنزله) بحيلة منه، (وإذا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحر استخرجه) بحيله منه، (وإذا أراد أن يستخرج الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه) بحيلة منه، (وإذا أراد أن يقتنص الوحوش المطلقة في البراري والصحاري اقتنصها) بحيلة منه، (وإذا أراد أن يستسخر السباع) الضارية (والفيلة، وعظيم الحيوانات استسخرها) بحيلة منه، (وإذا أراد أن يأخذ الأفاعي والحيات ويعبث بها أخذها واستخرج الترياق من أجوافها) كل ذلك بحيلة منه، (وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقوش من ورق التوت) والفرصاد (اتخذه) ، فإن دود القز إنما يتربى بورق التوت، ولهم في تربيته صناعات دقيقة، (وإذا أراد أن يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها) وكيف سيرها وقطعها الفلك (استخرج بدقيق الهندسة ذلك، وهو مستقر على الأرض) لم يتحرك، (وكل ذلك باستنباط الحيل) اللطيفة (وإعداد الآلات) المتنوعة الموصلة إلى ذلك، (فسخر الفرس للركوب) بالارتياض، (والكلب للصيد) وللحراسة، (وسخر البازي لاقتناص الطيور، وهيأ الشبكة لاصطياد السمك إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي، كل ذلك; لأن همه أمر دنياه، وذلك معين له على دنياه، فلو أهمه أمر آخرته، فليس عليه إلا شغل واحد وهو تقويم قلبه) فقط، وهو تسويته وتعديله، وتنظيفه عن الخواطر الرديئة حتى يكون مهبطا واحدا، وهو تقويم قلبه فقط وهو تسويته وتعديله، وتنظيفه عن الخواطر الرديئة حتى يكون مبهطا لأنوار الله تعالى، (فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل، وقال: هذا محال ومن الذي يقدر عليه) جهلا منه وعنادا، (وليس ذلك بمحال لو أصبح وهمه هذا الهم الواحد، بل هو كما يقال:

لو صح منك الهوى أرشدت للحيل )

أي: متى استقام القلب تنبه لمداخل الغرور، فلا يبقى منه شيء إلا وقد وفق لقمعه. (فهذا شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون) من الصحابة الكرام، (ومن اتبعهم بإحسان) ، وسلك على سوي نهجهم، (فلا يعجز عنه أيضا من صدقت إرادته) في سلوك طريق الحق، (وقويت همته) بعد أن أجمعت، (بل لا يحتاج إلى عشر) معشار (تعب الخلق في استنباط حيل الدنيا، ونظم أسبابها) ، وتلفيق أجزائها .




الخدمات العلمية