الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد أشرنا إلى حكمة ذلك في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات ، فلنرجع الآن إلى الغرض ، فالمقصود أن تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات لا ، يمكن إلا بضرب المثال ، فلنفهم من المثل الذي نضربه معناه لا صورته فنقول : الناس في الآخرة ينقسمون أصنافا ، وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتا لا يدخل تحت الحصر ، كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ، ولا تفارق الآخرة الدنيا في هذا المعنى أصلا البتة فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له ، وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها إلا أنا إن عجزنا عن إحصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس .

فنقول الناس : ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة أقسام : هالكين ، ومعذبين ، وناجين ، وفائزين ومثاله في الدنيا أن يستولي ملك من الملوك على إقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون ، ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون ويخلى ، بعضهم فهم الناجون ، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون ، فإن كان الملك عادلا لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق ، فلا يقتل إلا جاحدا لاستحقاق الملك معاندا له في أصل الدولة ، ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته ولا يخلي إلا معترفا له برتبة الملك ، لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه ، ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة وإهلاك الهالكين إما تحقيقا بجز الرقبة أو تنكيلا بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد أنواعها واختلافها بحسب درجات تقصيرهم فتقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات لا تحصى ، ولا تنحصر فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون فمن هالك ومن معذب مدة ومن ناج يحل في دار السلامة ، ومن فائز والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في جنات عدن ، أو جنات المأوى ، أو جنات الفردوس والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلا ، وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلاف سنة ، وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر .

التالي السابق


(وقد أشرنا إلى حكمة ذلك في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات، فلنرجع الآن إلى الغرض، فالمقصود أن تعرف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات، ولا يمكن) معرفة ذلك (إلا بضرب الأمثال، فلتفهم من المثل الذي نضرب) لك [ ص: 551 ] (معناه) المراد منه (لا صورته فتقول: الناس في الآخرة ينقسمون أصنافا، وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتا لا يدخل تحت الحصر، كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها، ولا تفارق الآخرة الدنيا في المعنى أصلا البتة فإن مدبر) الأمور في (الملك والملكوت واحد لا شريك له، وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها) ، ولا تحويل عنها (إلا أنا إن عجزنا عن إحصاء آحاد الدرجات) لعدم حصرها (فلا نعجز عن إحصاء الأجناس، فنقول: ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة أقسام: هالكين، ومعذبين، وناجين، وفائزين) ، لأنهم لا يخلون عن سعادة، أو شقاوة، والشقاوة إن كانت بالشرك والكفر وجحود صفات الربوبية فهم الهالكون فإن كان مع وجود الإقرار بالربوبية نوع عصيان ومخالفة فهم معذبون، والسعادة إن كانت بالإيمان بالله وبما جاء به الرسل فهم الناجون، فإن كان مع ذلك نبذ الدنيا وإقبال على الله بالكلية فهم الفائزون، فهذا وجه الحصر في الأقسام المذكورة، (ومثاله في الدنيا أن يستولي ملك من الملوك على إقليم) من الأقاليم السبعة (فيقتل بعضهم فهم الهالكون، ويعذب بعضهم البعض مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون، ويخلي بعضهم) أي: يتركه (فهم الناجون، ويخلع على بعضهم) أي: يلبسهم خلعا (فهم الفائزون، فإن كان الملك عادلا لم يقسمهم كذلك إلا بالاستحقاق، فلا يقتل إلا جاحدا) أي: منكرا (لاستحقاقه الملك معاندا له في أصل الدولة، ولا يعذب إلا من قصر في خدمته) والمثول بين يديه (مع الاعتراف بملكه وعلو درجته) واستحقاقه لتلك النعمة، (ولا يخلي إلا معترفا له برتبة الملك، لكنه لم يقصر ليعذب) على تقصيره، (ولم يخدم ليخلع عليه، ولا يخلع) الملك (إلا على من أبلى عمره) ، وفي نسخة: قدره (في الخدمة والنصرة) له، (ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة) والنصرة، (وإهلاك الهالكين إما تحقيقا) في الحال (بجز الرقبة) أي: قطعها، (أو تنكيلا بالمثلة) بأن تقطع أطرافه عضوا عضوا حتى يهلك، وذلك (بحسب درجاتهم) ومراتبهم (في المعاندة) له، (وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد أنواعها واختلافها بحسب درجات تقصيرهم) ، ومراتبه (فتنقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات لا تحصى، ولا تنحصر فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون فمن هالك) مرة، (ومن معذب) مرة، (ومن ناج في دار السلامة، ومن فائز والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في جنات عدن، أو جنات المأوى، أو جنات الفردوس) ، وهي أعلى الجنات، وسيأتي ذكر الجنات في آخر الكتاب، (والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلا، وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلاف سنة، وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر) قال العراقي: رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من حديث أبي هريرة بسند ضعيف في حديث قال فيه: (وأطولهم مكثا فيها مثل الدنيا من يوم خلقت إلى يوم القيامة، وذلك سبعة آلاف سنة اهـ) ، ولفظ القوت: وقد جاء في الخبر أن آخر من يبقى في جهنم من الموحدين سبعة آلاف سنة، وروى أبو سعيد، وأبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آخر من يخرج من النار، وهو أيضا من يدخل الجنة" فلعله - والله أعلم - بعد سبعة آلاف سنة فيعطى من الجنة مثل الدنيا كلها عشرة آلاف سنة قلت: هذا الخبر رواه أحمد، وعبد بن حميد عن أبي سعيد، وأبي هريرة بها، ولفظه: "آخر من يخرج من النار رجلان يقول الله لأحدهما: يا ابن آدم" الحديث بطوله، وفي آخره، فيقول أي رب أدخلني الجنة، فيقول الله عز وجل: "سل وتمن فيسأل، ويتمني مقدار ثلاثة أيام من أيام الدنيا، فإذا فرغ قال: لك ما سألت، ومثله معه، وقال أبو هريرة: وعشرة أمثاله، وروى الطبراني [ ص: 552 ] في الكبير من حديث ابن مسعود أن آخر من يخرج من النار، ويدخل الجنة رجل يحبو فيقال: ادخل الجنة فيخيل أنها ملأى فيقول: يا رب إنها ملأى، فيقال له: ادخل إن لك عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أنت الملك، أتضحك بي؟ فذلك أنقص أهل الجنة حظا.




الخدمات العلمية