الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الرتبة الرابعة : رتبة الفائزين ، وهم العارفون دون المقلدين ، وهم المقربون السابقون ، فإن المقلد وإن كان له فوز على الجملة بمقام في الجنة فهو من أصحاب اليمين ، وهؤلاء هم المقربون وما يلقى هؤلاء يجاوز حد البيان والقدر الممكن ذكره ما فصله القرآن فليس بعد بيان الله بيان ، والذي لا يمكن التعبير عنه في هذا العالم ، فهو الذي أجمله قوله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وقوله عز وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر والعارفون مطلبهم تلك الحالة التي لا يتصور أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم ، وأما الحور والقصور والفاكهة واللبن والعسل والخمر والحلي ، والأساور فإنهم لا يحرصون عليها ، ولو أعطوها لم يقنعوا بها ولا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله تعالى الكريم ، فهي غاية السعادات ، ونهاية اللذات ; ولذلك قيل لرابعة العدوية رحمة الله عليها كيف رغبتك في الجنة ? فقالت : الجار ثم الدار فهؤلاء قوم شغلهم حب رب الدار عن الدار وزينتها ، بل عن كل شيء سواه حتى عن أنفسهم ، ومثالهم مثال العاشق المستهتر بمعشوقه المستوفي همه بالنظر إلى وجهه ، والفكر فيه فإنه في الحال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه ويعبر على هذه الحالة بأنه فني عن نفسه ، ومعناه أنه صار مستغرقا بغيره ، وصارت همومه هما واحدا وهو محبوبه ، ولم يبق فيه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه نفسه ، ولا غير نفسه وهذه الحالة هي التي توصل في الآخرة إلى قرة عين لا يتصور أن تخطر في هذا العالم على قلب بشر كما لا يتصور أن تخطر صورة الألوان والألحان على قلب الأصم والأكمه إلا أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره ، فعند ذلك يدرك حاله ، ويعلم قطعا أنه لم يتصور أن تخطر بباله قبل ذلك صورته ، فالدنيا حجاب على التحقيق ، وبرفعه ينكشف الغطاء فعند ذلك يدرك ذوق الطيبة وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فهذا القدر كاف في بيان توزع الدرجات على الحسنات والله الموفق بلطفه .

التالي السابق


(الرتبة الرابعة: رتبة الفائزين، وهم العارفون) المخصوصون (دون المقلدين، وهم المقربون السابقون، فإن المقلد وإن كان له فوز على الجملة بمقام في الجنة فهو من أصحاب اليمين، وهؤلاء هم المقربون) ، قال الله تعالى: والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ، ثم قال: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين ، (وما يلقى هؤلاء يجاوز حد البيان والقدر الممكن ذكره ما فصله القرآن فليس بعد الله بيان، والذي لا يمكن التعبير عنه في هذا العالم، فهو الذي أجمله قوله تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) جزاء بما كانوا يعملون، (وقوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا أذن سمعت، ولا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر) أغفله العراقي، وسبب إغفاله أنه يوجد في بعض نسخ الكتاب، وقال الله عز وجل بدون وقوله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث قدسي رواه أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي [ ص: 569 ] هريرة، ورواه ابن جرير من حديث أبي سعيد، ورواه أيضا عن قتادة مرسلا، ورواه أيضا عن الحسن بلاغا بلفظ: قال ربكم: "أعددت لعبادي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما لا عين رأت" الحديث، (والعارفون مطلبهم تلك الحالة التي لا يتصور أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم، وأما الحور والقصور والفاكهة واللبن والعسل والخمر والحلي، والأساور) ، والذهب، والحرير، وغير ذلك مما ذكر في القرآن (فإنهم لا يحرصون عليها، ولو أعطوها لم يقنعوا بها) ، وطلبوا ما وراء ذلك، (ولا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله الكريم، فهي غاية السعادات، ونهاية اللذات; ولذلك قيل لرابعة) بنت إسماعيل (العدوية) البصرية العابدة المشهورة (رحمة الله عليها) ، وكانت من أقران الحسن البصري (كيف رغبتك في الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار) ، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث علي: "الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، والزاد قبل الرحيل" رواه الخطيب في الجامع، ورواه الطبراني من حديث رافع بن خديج بزيادة في آخره، (فهؤلاء قوم شغلهم حب رب الدار عن الدار وزينتها، بل عن كل شيء سواء حتى عن أنفسهم، ومثالهم مثال العاشق المستهتر بمعشوقه) أي: المولع به المدهوش في حبه، (المستوفي همه بالنظر إلى وجهه، والفكر فيه فإنه في حالة الاستغراق غافل عن) كل شيء سواء حتى (عن نفسه) فهو (لا يحس بما يصيبه في بدنه) من الآلام والمصائب، (ويعبر عن هذه الحالة بأنه فني عن نفسه، ومعناه أنه صار مستغرقا بغيره، وصارت همومه) كلها (هما واحدا وهو محبوبه، ولم يبق فيه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لا نفسه، ولا غير نفسه) اعلم أنه من استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار لا عينا ولا أثرا، ولا رسما، ولا طللا، يقال: إنه فني عن الخلق، وبقي بالحق، وفناؤه عن نفسه وعن الخلق بزوال إحساسه بنفسه وبهم، فإذا فني عن الأفعال والأحوال والأخلاق، فلا يجوز أن يكون فني عنه وجودا، وإذا قيل: إنه فني عن نفسه، وعن الخلق فتكون نفسه موجودة، والخلق موجودون، ولكنه لا علم له بهم ولا بها، ولا إحساس ولا خبر فتكون نفسه موجودة، والخلق موجودين، ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق غير محس بنفسه وبالخلق، وقد يرى الرجل يدخل على ذي سلطان أو محتشم فيذهل عن نفسه، وعن أهل مجلسه، وربما يذهل عن ذلك المحتشم، حتى إذا سئل بعد خروجه من عنده عن أهل مجلسه وهيئة ذلك الصدر، وهيئة نفسه لم يمكنه الإخبار عن شيء، قال الله تعالى: فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن لم يجدن عند لقاء يوسف على الوهلة ألم قطع الأيدي، وهن أضعف الناس، وقلن ما هذا بشرا، ولقد كان بشرا، وقلن: إن هذا إلا ملك كريم، ولم يكن ملكا، فهذا تغافل مخلوق عن أحواله عند لقاء مخلوق، فما ظنك بمن يكاشف بشهود الحق سبحانه، فلو تغافل عن إحساسه بنفسه وأبناء جنسه فأي أعجوبة به فيه، فمن فني عن جهله بقي بعلمه، ومن فني عن شهوته بقي بإنابته، ومن فني عن رغبته بقي بزهادته، ومن فني عن مشيئته بقي بإرادته، وكذلك القول في جميع صفاته، فإذا فني العبد عن صفة مما جرى ذكره، يرتقي عن ذلك بفنائه عن رؤية فنائه، وهي مراتب ثلاث: فالأولى فناء عن نفسه وصفاته ببقائه بصفات الحق، ثم فناؤه عن صفات الحق بشهود الحق كذا قرره القشيري في الرسالة، (وهذه الحالة هي التي توصل في الآخرة إلى قرة عين لا يتصور أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم كما لا يتصور أن تخطر صورة الألوان) المتنوعة، (والألحان) المختلفة (على قلب الأصم والأكمه) فيه لف ونشر غير مرتب، والأكمه من ولد أعمى أو عمي قبل أن يميز ويدرك (إلا أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره، فعند ذلك يدرك حاله، ويعلم قطعا أنه لم يتصور أن يخطر بباله قبل ذلك صورته، فالدنيا حجاب على التحقيق، وبرفعه ينكشف الغطاء) ، وتتضح الحقائق، وإليه الإشارة بقول بعض السادة: إنما الكون خيال، وهو حق في الحقيقة، كل من يفهم هذا حاز أسرار الطريقة (فعند ذلك يدرك ذوق الحياة الطيبة) المشار إليها بقوله تعالى: فلنحيينه حياة طيبة ، (و) يدرك أيضا (أن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) ، وكيف يعلمون، والحجاب على قلوبهم، وقد تقدم [ ص: 570 ] الكلام على هذه الآية في كتاب العلم، (فهذا القدر كاف في بيان توزع الدرجات) والدركات (على الحسنات والسيئات) في الآخرة، (والله الموفق بلطفه) وكرمه .




الخدمات العلمية