الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار كما أوردناه في كتاب الدعوات والأذكار .

وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات وفي الآثار ما يدل على أن الذنب إذا اتبع بثمانية أعمال كان العفو عنه مرجوا أربعة من أعمال القلوب ، وهي التوبة أو العزم على التوبة وحب الإقلاع عن الذنب ، وتخوف العقاب عليه ، ورجاء المغفرة له وأربعة من أعمال الجوارح ، وهي أن تصلي عقيب الذنب ركعتين ثم تستغفر الله تعالى بعدهم سبعين مرة وتقول : سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة ثم تتصدق بصدقة ثم تصوم يوما وفي بعض الآثار تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلى ، ركعتين وفي بعض الأخبار تصلي أربع ركعات وفي الخبر : إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تكفرها السر بالسر ، والعلانية بالعلانية ولذلك قيل : صدقة السر تكفر ذنوب الليل ، وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار وفي الخبر الصحيح : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني عالجت امرأة فأصبت منها كل شيء إلا المسيس فاقض علي بحكم الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم أوما : صليت معنا صلاة الغداة ؟ قال : بلى فقال صلى الله عليه وسلم إن : الحسنات يذهبن السيئات وهذا يدل على أن ما دون الزنا من معالجة النساء صغيرة إذ جعل الصلاة كفارة له بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : « الصلوات الخمس كفارات لما بينهن إلا الكبائر » فعلى الأحوال كلها ينبغي أن يحاسب نفسه كل يوم ، ويجمع سيئاته ويجتهد في دفعها بالحسنات .

التالي السابق


(وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار) كسيد الاستغفار المروي عن شداد بن أوس: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" رواه البخاري، والترمذي، والنسائي (كما أوردناه في كتاب الدعوات والأذكار، وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات) ، والاستكثار منها فلعله بذلك تزيد حسناته على سيئاته، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، (وفي الآثار ما يدل على أن الذنب إذا اتبع بثمانية أعمال كان العفو عنه مرجوا) .

ولفظ القوت: ومن أحسن ما يتعقب الذنب من الأعمال بعد التوبة وحل الإصرار مما يرجى به كفارة الخطيئة ثمانية أعمال: (أربعة من أعمال القلوب، وهي) اعتقاد (التوبة) منه، (والعزم على التوبة) ; فإن العبد إذا عزم عليها، فكأنه اعتقدها، ولم يذكر صاحب القوت هذه الزيادة، (وحب الإقلاع عن الذنب، وتخوف العقاب عليه، ورجاء المغفرة له) ، ثم يحتسب على الله تعالى بحسن ظنه وصدق يقينه كفارة ذنبه فهذه الأربعة من أعمال القلوب، (وأربعة من أعمال الجوارح، وهي أن يصلي) العبد (عقب الذنب ركعتين) ، وذلك بعد أن يتوضأ وإن اغتسل كان أكمل، وإن أمكنه أن يغسل الثياب التي عصى الله فيها كان أكمل، فإن طهارة الظاهر عنوان طهارة الباطن، وإذا كانت الصلاة في موضع خال عن اشتغال وعن توهم الرياء، والسمعة في بال كان أكمل، ويشترط أن يضع جبينه على الأرض لله والتراب لزيادة الخشوع عند الله، وللتذكر إلى أصله ومرجعه، (ثم يستغفر الله بعدهما) مع البكاء إن أمكن، وإلا فبالتباكي وقلب حزين على ما سبق من المعصية، ويجعلها نصب عينيه (سبعين مرة) روى الديلمي من حديث أبي هريرة: "من استغفر الله سبعين مرة في دبر كل صلاة غفر له ما كتب من الإثم" الحديث .

وروى الحسن بن سفيان من حديث أنس: "من استغفر سبعين مرة غفر له سبعمائة ذنب" الحديث، وروى ابن السني في عمل اليوم الليلة من حديث عائشة: "من استغفر الله في كل يوم سبعين مرة لم يكتب من الكذابين" الحديث .

(ويقول: سبحان الله العظيم وبحمده) ، ولو (مائة مرة) فإن زاد أو نقص فهو بالخيار، إن زاد في الاستغفار حتى صار مائة مرة فهو أفضل وأكمل، وكذلك ينبغي أن يكون مع التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير مائة لتجتمع الباقيات الصالحات، بل ويضم إليها لا حول ولا قوة إلا بالله كذلك، ثم يرفع يديه ويحمد الله تعالى، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويدعو لنفسه ولوالديه ولجميع المسلمين .

روى ابن أبي شيبة، وأحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي، وابن حبان من حديث أبي هريرة من قال: "سبحان الله وبحمده مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"، وروى البيهقي من حديث ابن عمر: "من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة، كتب الله له ألف حسنة، ومن زاد زاده الله" وروى أحمد ومسلم وأبو داود [ ص: 603 ] والترمذي، وابن حبان: من قال حين يصبح ويمسي: "سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحدا قال مثل ذلك، أو زاد عليه (ثم يتصدق بصدقة) سرا، أو علانية ليلا أو نهارا ليدخل في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ، (ثم يصوم يوما) فإنه من جملة الحسنات المكفرات.

فهذه الأعمال قد وردت بها الآثار أنها مكفرة للزلل والعثار، (وفي بعض الآثار) أنه يشترط أن يتوضأ و (يسبغ الوضوء) ، وإسباغه بإكمال شروطه وأركانه وواجباته، (ويدخل المسجد، ويصلي ركعتين) فإن المسجد أفضل الأماكن وأشرفها، ويشهد له بما عمل فيه قال العراقي: في هذه الآثار: إن من مكفرات الذنب أن يسبغ الوضوء، ويدخل المسجد ويصلي ركعتين رواه أصحاب السنن من حديث أبي بكر الصديق: "ما عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له" هذا لفظ أبي داود، وهو في الكبرى للنسائي مرفوعا وموقوفا، فلعل المصنف عبر بالآثار لإرادة الوقف فذكرته احتياطا، وإلا فالآثار ليست من شرط كتابي. انتهى قلت .

وقد روى الطبري في الأوسط من حديث أبي الدرداء: "ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ، ثم يصلي ركعتين أو أربعا مفروضة وغير مفروضة، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، وحديث أبي بكر رواه كذلك الطيالسي، وابن أبي شيبة، وأحمد، والحميدي، والعدلي، وعبد بن حميد، وابن منيع، وابن السني في عمل يوم وليلة، وابن حبان، والبزار، وأبو يعلى، والدارقطني في الأفراد، والبيهقي، والضياء كلهم من رواية علي عن أبي بكر، ولفظهم جميعا: "ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر الله له".

(وفي بعض الأخبار يصلي أربع ركعات) . قال العراقي: رواه ابن مردويه في التفسير، والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهوى امرأة. الحديث، وفيه: فلما رآها جلس منها مجلس الرجل من أهله، وحرك ذكره، فإذا هو مثل الهدبة فقام نادما فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صل أربع ركعات، فأنزل الله تعالى: وأقم الصلاة طرفي النهار الآية، وإسناده جيد. انتهى .

قلت: ورواه كذلك البزار، ولفظهم جميعا أن رجلا كان يهوى امرأة فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأذن له، فانطلق في يوم مطير، فإذا هو بالمرأة على غدير ماء تغسل، فلما جلس منها مجلس الرجل من المرأة ذهب يحرك ذكره، فإذا هو كأنه هدبة فندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صل أربع ركعات فأنزل الله وأقم الصلاة طرفي النهار ". الآية.

وروى عبد الرزاق وابن جرير عن يحيى بن جعدة أن رجلا أقبل يريد أن يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر فوجد امرأة جالسة على غدير فدفع في صدرها، وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة، فقام نادما حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال له: استغفر الله ربك، وصل أربع ركعات، وتلا عليه: وأقم الصلاة طرفي النهار الآية. (وفي الخبر: إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تكفرها السر بالسر، والعلانية بالعلانية) .

قال العراقي: رواه البيهقي في الشعب من حديث معاذ، فيه رجل لم يسم، ورواه الطبراني من رواية عطاء بن يسار عن معاذ بلفظ: وما عملت من سوء فأحدث لله فيه توبة; السر بالسر، والعلانية بالعلانية" الحديث. انتهى .

قلت: ورواه ابن النجار من حديثه: "إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة; السر بالسر، والعلانية بالعلانية، ورواه أحمد في الزهد عن عطاء بن يسار مرسلا: "إذا عملت سيئة فأحدث عنها توبة; السر بالسر، والعلانية بالعلانية".

وروى أحمد من حديث أبي ذر: "إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها" قيل: يا رسول الله أمن الحسنات: لا إله إلا الله؟ قال: "هي أفضل الحسنات".

(ولذلك قيل: صدقة السر تكفر ذنوب الليل، وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار) ، ولفظ القوت: ويقال: صدقة الليل تكفر ذنوب النهار، وصدقة السر تكفر ذنوب الليل .

(وفي الخبر الصحيح: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني عالجت امرأة فأصبت منها كل شيء إلا المسيس) يعني الوقاع (فاقض علي بحكم الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم: أوما صليت معنا صلاة الغداة؟ [ ص: 604 ] قال: بلى، قال: فإن الحسنات يذهبن السيئات) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث ابن مسعود دون قوله: "أوما صليت معنا صلاة الغداة"، ورواه من حديث أنس، وفيه: "هل حضرت معنا الصلاة؟" قال: نعم .

ومن حديث أبي أمامة: "هل شهدت الصلاة معنا؟" قال: نعم. الحديث اهـ .

قلت: لفظ المتفق عليه من حديث ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، كأنه يسأله عن كفارتها، فأنزلت عليه: وأقم الصلاة طرفي النهار، وزلفا من الليل الآية، فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذه؟ قال: "لمن عمل بها من أمتي"، وقد رواه كذلك أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن أبي الحاتم، وأبو الشيخ، وابن حبان، وروى ابن حبان وحده بلفظ: قال رجل: يا رسول الله، إني رأيت امرأة في البستان فضممتها إلي وقبلتها وباشرتها، وفعلت بها كل شيء إلا أني لم أجامعها، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: وأقم الصلاة الآية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه فقال عمر: يا رسول الله أله خاصة؟ فقال: للناس كافة، ورواه عبد الرزاق وأحمد، ومسلم، والثلاثة، وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب بلفظ: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأة في البستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزقتها، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت، فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فذهب الرجل فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره فقال: ردوه علي فردوه فقرأ وأقم الصلاة الآية. فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله، أله وحده أم للناس كافة؟

وأما حديث أنس في المتفق عليه فلفظه: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه علي، فلم يسأله عنه، وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى الصلاة، قام الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا في كتاب الله. قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم؟ قال: فإن الله قد غفر ذنبك، ورواه كذلك أحمد.

وقد روي مثل ذلك من حديث واثلة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه علي.. الحديث، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل توضأت حين أقبلت. قال: نعم. قال: صليت معنا؟ قال: نعم. قال: فاذهب، فإن الله قد غفر لك. رواه ابن حبان.

وأما حديث أبي أمامة فرواه أحمد، ومسلم، وأبو داوود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقم في حد الله مرة أو مرتين، فأعرض عنه، ثم أقيمت الصلاة، قال: أين الرجل؟ قال: أنا ذا. قال: أتممت الوضوء، وصليت معنا آنفا؟ قال: نعم. قال: فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك فلا تعد. وأنزل الله حينئذ على رسوله: أقم الصلاة الآية. وقد روي مثل هذه القصة من حديث بريدة، ورواية عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، وزيد بن أبي رومان، وغيرهم .

(وهذا يدل على أن ما دون الزنا من معالجة النساء صغيرة إذ جعل الصلاة كفارة لذلك بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس كفارات لما بينهن إلا الكبائر") تقدم قريبا (فعلى الأحوال كلها ينبغي أن يحاسب نفسه كل يوم، ويجمع سيئاته) فردا فردا، ويلوم النفس ويوبخها، (ويجتهد في دفعها بالحسنات) على الطريق المتقدم ذكره .




الخدمات العلمية