الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والحاصل أن الخير والشر مقضي به، وقد كان ما قضى به واجب الحصول بعد سبق المشيئة فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره بل كل صغير وكبير مستطر وحصوله بقدر معلوم منتظر ، وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولنقتصر على هذه المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام التوكل ولنرجع إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل .

.

التالي السابق


(والحاصل أن الخير والشر) كل منهما (مقضي به) ومرضي به فالخير بالذات والشر بالعرض، وكل بقدر وقد صار ما قضي به واجب الحصول بعد سبق المشيئة فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه .

قال المصنف في المقصد الأسنى: إذا كان معنى الحكمة ترتب الأسباب وتوجهها إلى المسببات كان المتصف بها على الإطلاق حكيما مطلقا; لأنه مسبب كل الأسباب جملتها وتفصيلها ومن الحكم يتشعب القضاء والقدر، فتدبيره أصل وضع الأسباب لتتوجه إلى المسببات هو حكمه وإيجاده للأسباب الكلية الأصلية الثابتة المستقرة التي لا تحول ولا تزول إلى وقت معلوم كالأرض والسموات والكواكب وحركاتها المتناسبة الدائمة التي لا تتغير ولا تنعدم إلى أن يبلغ الكتاب أجله، ووضعه إياها ونصبه لها هو قضاؤه وتوجيه هذه الأسباب بحركاتها المتناسبة المحدودة المقدرة المحسوبة إلى المسببات الحادثة منها لحظة بعد لحظة هو قدره، فالحكم هو التدبير الأول الكلي، والأمر الأزلي هو كلمح البصر، والقضاء هو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة، والقدر هو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدورة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص .

وكذلك لا يخرج شيء عن قضائه وقدره (بل كل صغير وكبير) من الأعمال (مستطر) أي: سطر في اللوح رواه ابن المنذر عن ابن عباس قال قتادة: أي: محفوظ مكتوب، رواه عبد بن حميد (وحصوله بقدر معلوم منتظر، وما أصابك) من الخير والشر والنفع والضر (لم يكن ليخطئك وما أخطأك) منها (لم يكن ليصيبك) رواه أحمد والطبراني والبزار من حديث أبي الدرداء: لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ورجال الطبراني ثقات. فالعلم بهذه الأشياء وطمأنينة القلب بها وسكينة العقل عند ورودها وأن لا يضطرب بالرأي والمعقول ولا ينازع بالتشبيه والتمثيل هو من فرائض الإيمان لا يصح إيمان عبد حتى يسلم ذلك كله .

ومنه قول ابن عباس: القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وكذب بالقدر كان تكذيبه بالقدر نقصا في التوحيد، فجعل الإيمان بالأقدار كلها أنها من الله تعالى مشيئة وحكما بمنزلة الخيط الذي ينتظم عليه الحب، وأن التوحيد منتظم فيه، فإذا انقطع الخيط سقط الحب، قال: كذلك إذا كذب بالقدر ذهب الإيمان، فالتوكل فرض وفضل ففرضه منوط بالإيمان وهو تسليم الأقدار كلها عليه للقادر واعتقاد أن جميعها قضاؤه وقدره، وأما فضل التوكل فيكون عن مشاهدة الوكيل; لأنه في مقام المعرفة برؤية عين اليقين (ولنقتصر على هذه المراميز) أي: الإشارات (من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام [ ص: 434 ] التوكل) وعليها بناؤه ومستقره (ولنعد إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى) .

ولسياق المصنف هذا من أول قوله: ولا يتم هذا إلا بالإيمان والرحمة إلى هنا شواهد تدل على صحته، من أقواها وأقربها إليه قول المصنف نفسه في كتابه جواهر القرآن وهذا نصه:

لا يكفي الإيمان بالتوحيد في إثارة حالة التوكل حتى ينضاف إليه الإيمان بالرحمة والجود والحكمة إذ به يحصل الثقة بالوكيل الحق، وهو أن تعتقد جزما أو ينكشف لك بالبصيرة أن الله تعالى لو خلق الخلائق كلهم على عقل أعقلهم بل على أكمل ما يتصور أن يكون عليه حال العقل ثم زادهم أضعاف ذلك علما وحكمة، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت ولطائف الحكمة ودقائق الخير والشر ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت لما دبروه بأحسن مما هو عليه ولم يمكنهم أن يزيدوا ولا ينقصوا منه جناح بعوضة، ولم يستصوبوا البتة دفع مرض وعيب ونقص وفقر وضر وجهل وكفر، ولا أن يغيروا قسمة الله من رزق وأجل وقدرة وعجز وطاعة ومعصية، بل شاهدوا جميع ذلك عدلا محضا لا جور فيه وحقا صرفا لا نقص فيه واستقامة تامة لا قصور فيها ولا تفاوت، بل كل ما يرون نقصا يرتبط به كمال آخر أعظم ولم يدخر في إصلاحهم أمرا .

وهذا بحر زاخر في المعرفة يحرك أمواجه سر القدر الذي منع من ذكره المكاشفون وتحير فيه الأكثرون، ولا يعقله إلا العالمون، ولا يدرون في تأويله إلا الراسخون. هذا نصه بحروفه .

وقال في موضع آخر من الجواهر أيضا: قد أنكر الرضا جماعة، وقالوا لا يتصور الرضا بما يخالف الهوى وإنما يتصور الصبر فقط.

والجواب: أن الرضا بالبلاء وبما يخالف الطبع يتصور من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يدهشه مشاهدة المحبة وإفراطها عن الإحساس بالألم، والثاني: أن يحس بالألم ويكرهه بالطبع ولكن يرضى به بعقله وإيمانه لمعرفته بجزالة الثواب على البلاء كما يرضى بألم الفصد وشرب الدواء لعلمه بأنه سبب الشفاء حتى أنه ليفرح بمن يهدي إليه الدواء وإن كان بشيعا، وكذلك يرضى التاجر بمشقة السفر وهو خلاف طبعه وهذا أيضا مشاهد مثله في الأعراض الدنيوية فكيف ينكر في السعادة الأخروية .

الثالث: أن يعتقد أن لله تعالى تحت أقداره أعجوبة لطيفة من لطائفه، وذلك يخرج عن قلبه لم وكيف حتى لا يتعجب مما جرى في العالم أن تعجبه كتعجب موسى - عليه السلام - من الخضر عن السر الذي اطلع عليه سقط تعجبه وكان تعجبه بناء على ما خفي عنه من تلك الأسرار، وكذلك أفعال الله تعالى .

ثم ساق قصتين إحداهما للرجل الذي كان يقول في كل ما يصيبه، الخيرة فيما قدره الله، والثانية للفارس الذي نسي صرة فيها ألف دينار، ولولا أنه سيأتي سياقها في كتاب الرضا لذكرتهما، فمن أيقن بأمثال هذه الأسرار ولم يتعجب من أفعال الله تعالى وتعجب من جهل نفسه ولم يقل: لم؟ وكيف؟ فقد رضي بما دبر الله في ملكوته .

وههنا وجوه أربعة تتشعب عن محض المعرفة بكمال الجود والحكمة وبكيفية ترتيب الأسباب المتوجهة إلى المسببات ومعرفة القضاء الأول الذي هو كلمحة البصر، ومعرفة القدر الذي هو سبب ظهور تفاصيل القضاء فإنها رتبت على أكمل الوجوه وأحسنها وليس في الإمكان أحسن منها وأكمل، ولو كان واد خر لكان بخلا لا جودا وعجزا يناقض القدرة وينطوي تحت ذلك سر القدر، وكما أن من عرف ذلك لم ينطو ضميره إلا على الرضا، فكذلك كل ما يجري من الله تعالى ويلي هذين السياقين ما ذكره في كتابه المسمى بالأربعين في أصول الدين .

قال في الأصل التاسع من أصول الدين: الرضا بالقضاء أن المسببات رتبت على الأسباب على أكمل الوجوه وأحسنها وليس في الإمكان أحسن منها وأكمل، ولو كان لكان بخلا لا جودا أو عجزا يناقض القدرة. ويلي هذه السياقات الثلاثة ما قاله الشيخ كمال الدين أبو بكر محمد بن إسحاق الشافعي الصوفي في كتابه "مقاصد منجيات الإحياء" وهذا نصه:

بعد أن ذكر مراتب الإيمان فقال: حينئذ ترجع أيها الناظر إليه ويعتمد قلبك عليه فتزداد نورا بتوجهك واعتمادك لقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فيشرق في قلبك بهدايته ما أشرق في قلوب أنبيائه كما قال تعالى حاكيا عن نبيه: إن ربي على صراط مستقيم أي: مستقيم في أحكامه وأقضيته التي قدرها في أزله وأنها على أتم أنواع الكمال والإتقان، وأن الله تعالى لو خلق الخلائق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وأعطاهم من العلم والحكمة ما تحتمله نفوسهم [ ص: 435 ] وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها ثم زاد كل واحد منهم عدد جميعهم علما وحكمة وعقلا ثم كشف لهم عواقب الأمور وأطلعهم على سائر الملكوت، وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر .

ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلم والحكمة والعلوم لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزيدوا فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ولم يقدروا على ذلك بل كل ما خلقه الله من السموات والأرض إن رجع فيه البصر وطول فيه النظر ما يرى فيه من تفاوت ولا فطور، وكل ما قسم الله بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وقدرة وعجز وإيمان وكفر وطاعة ومعصية فكله عدل محض وحق صرف; لأنه لو لم يخلق الناقص لم يعرف الكامل، ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف بني آدم .

فمقتضى الحكمة والجود خلق الكامل والناقص جميعا والقدرة صالحة واسعة لغير ذلك، فلو شاء لقطع الأسباب عن المسببات والمسببات عن الأسباب ولأوجد العالم على هيئة أخرى، ولو شاء لخلق كلهم سعداء أو كلهم أشقياء، ولو شاء لخلق المسعد مشقيا والمشقي مسعدا، إلا أن الإرادة خصصت هذا التخصيص والله فعال لما يريد .

وإنما أوجدت الخلق القدرة فعل ما خصصته الإرادة جرت المقادير في الأزل واستمرت في الأبد وجفت الأقلام بما قضي على الأنام، فلم يتقدم أحد منهم قدر أنملة، ولم يتأخر إلا بمقادير سابقة وكتابة لاحقة، ولو تهيأت أسباب السعادة كلها للأشقياء لما سعدوا ولو تهيأت أسباب الشقاوة كلها للسعداء لما شقوا، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله، بل كل صغير وكبير مستطر، وحصوله بقدر معلوم منتظر وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. انتهى .

وفيه تفصيل لما أجمله المصنف من قبل صلوحية القدر وسعتها لغير ما ذكر، وتأويل لقوله الذي أسقطه وهو ليس في الإمكان أبدع مما أبرزه، وهو أن الإرادة خصصته هذا التخصيص وسيأتي لذلك مزيد في بيان وجوه التأويل، ويشهد لهذا ما قاله الإمام أبو العباس الإقليشي في كتاب الأنباء في شرح الصفات والأسماء: وأما تأخر العالم مع تمام قدرة القادر سبحانه فمنه ما هو ضروري وليس بجعل جاعل ومنه ما هو اختياري، والضروري استحالة قديم غير الله تعالى فوجب بالضرورة أن يكون العالم متأخر الوجود عن الله تعالى، وأما الاختياري فوجوده في الوقت الذي وجد وعلى الهيئة التي وجدت، وكان في الإمكان أن يوجد قبله وبعده وعلى هيئة أخرى إلا أن الإرادة خصصته هذا التخصيص، والله تعالى اختار هذا التخصيص فكان فعله واقعا بقدرته وإرادته واختياره، وليس لفاعل سواه استبداد في إيراده وإصداره. انتهى .

فهذا أحد وجوه أبدعيته إذا تأملت عبارته، وقال المصنف في المقصد الأسنى في شرح اسمه العدل: قال معناه العادل، وهو الذي يصدر منه فعل العدل المضاد للظلم والجور، ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله، ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله، فمن أراد أن يفهم هذا الوصف فينبغي أن يحيط علما بأفعال الله تعالى من ملكوت السماوات إلى منتهى الثرى حتى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت ثم رجع فما رأى من فطور ثم رجع كرة أخرى، فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، قد بهره جمال الحضرة الربوبية وحيرة اعتدالها وانتظامها، فحينئذ يعلق بفهمه شيء من معاني عدل الله .

وقد خلق أقسام الموجودات جسمانيا وروحانيا كاملها وناقصها وأعطى كل شيء خلقه وهو بذلك جواد، ورتبه في موضعه اللائق به وهو بذلك عدل، فمن الأجسام العظام في العالم الأرض والماء والهواء والسموات والكواكب وقد خلقها ورتبها فوضع الأرض في أسفل وجعل الماء فوقها والهواء فوق الماء والسموات فوق الهواء ولو عكس الترتيب لبطل النظام، ولعل شرح وجه استحقاق هذا الترتيب في العدل والنظام مما يصعب على أكثر الأفهام، فلننزل إلى درجة العوام ونقول: لينظر الإنسان إلى بدنه فإنه مركب من أعضاء مختلفة كما أن بدن العالم مركب من أجسام مختلفة، فأول اختلافه أنه مركب من العظم واللحم والجلد وجعل العظام عمادا واللحم صوانا لها مكتنفا لها والجلد صوانا للحم، ولو عكس هذا الترتيب وأظهر ما بطن لبطل النظام وإن خفي عليك، وقد خلق الإنسان من أعضاء مختلفة مثل اليد والرجل والعين والأنف والأذن فهو بخلق هذه الأعضاء جواد وبوضعها مواضعها الخاصة عدل; لأنه وضع العين في أولى المواضع بها من البدن إذ لو خلقها [ ص: 436 ] على القفا أو على الرجل أو على اليد أو على قمة الرأس لم يخف ما يتطرق إليها من النقصان والتعرض للآفة .

وكذلك خلق اليدين وعلقهما من المنكبين ولو علقهما من الرأس أو من الركبتين لم يخف ما يتولد منه من الخلل وكذلك وضع جميع الحواس على الرأس فإنها جواسيس لتكون مشرفة على جميع البدن ولو وضعها على الرجل اختل نظامها قطعا .

وشرح ذلك في كل عضو يطول فينبغي أن تعلم أنه لم يخلق شيئا في موضعه إلا أنه متعين له ولو تيامن عنه أو تياسر أو تسفل أو تعالى لكان ناقصا أو باطلا أو قبيحا أو خارجا عن التناسب كريها في المناظر، وكما أن الأنف خلق على وسط الوجه ولو خلق على الجبهة أو على الخد لتطرق النقصان إلى فوائده .

وربما يقوى فهمك على إدراك حكمته فاعلم أن الشمس أيضا لم يخلقها في السماء الرابعة وهي في وسط السموات السبع هزلا بل ما خلقها إلا بالحق وما وضعها إلا موضعها المستحق لها لحصول مقاصدها منها، إلا أنك ربما تعجز عن درك الحكمة فيها لأنك قليل التفكر في ملكوت السموات والأرض وعجائبها، ولو نظرت فيها لرأيت من عجائبها ما تستحقر معه عجائب بدنك كيف لا؟ وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وليتك وفيت بمعرفة عجائب نفسك فتفرغت للتأمل فيها وفيما يكتنفها من الأجسام فتكون ممن قال الله تعالى فيهم سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم .

ومن أين لك أن تكون ممن قال فيهم: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وإنما تفتح أبواب السماء لمن لم يستغرقه هم الدنيا .

ثم قال في بيان حظ العبد من هذا الاسم: ويكون الإيمان به قطع الإنكار والاعتراض ظاهرا وباطنا وتمامه أن لا ينسب شيئا إلى الدهر ولا ينسب شيئا من الأشياء إلى الفلك ولا يعترض عليه بما أجرى به العادة فجرت مستمرة بحكمه وتقديره إلى حين يطويها وينقضها بل يعلم أن ذلك كله أسباب مسخرة وأنها رتبت ووجهت إلى المسببات أحسن ترتيب وتوجهت بأقصى وجه العدل .

وقال في اسمه تعالى اللطيف: وبالجملة فهو من حيث دبر الأمور حكيم، ومن حيث أوجدها جواد، ومن حيث رتبها مصور، ومن حيث وضع كل شيء موضعه عادل، ومن حيث لم يترك فيها دقائق الرفق لطيف، ولن يعرف حقيقة هذه الأسماء من لم يعرف حقيقة هذه الأفعال .

وقال في اسمه تعالى المصور: وأما اسم المصور فهو له من حيث رتب صور الأشياء أحسن ترتيب وصورها أحسن تصوير وهذا من أوصاف الفعل فلا يعلم حقيقته إلا من يعلم صورة العالم على الجملة ثم على التفصيل، فإن العالم كله في حكم شخص واحد مركب من أعضاء متعاونة على غرض مطلوب منه وإنما أعضاؤه وأجزاؤه السموات والكواكب والأرضون وما بينهما من الماء والهواء وغيرهما، وقد رتبت أجزاؤه ترتيبا محكما لو غير ذلك الترتيب لبطل النظام، فخصص بجهة الفوق ما ينبغي أن يعلو وبجهة السفل ما ينبغي أن يسفل، وكما أن البناء يضع الحجارة أسفل الحيطان والخشب فوقها لا بالاتفاق بل بالحكمة والقصد لإرادة الأحكام، ولو قلب ذلك فوضع الحجارة فوق الحيطان والخشب في أسفلها لانهدم البناء ولم تثبت صورته أصلا .

وكذلك ينبغي أن تفهم السبب في علو الكواكب وتسفل الأرض والماء وسائر أنواع الترتيب في الأجزاء العظام من أجزاء العالم ولو ذهبنا نصف أجزاء العالم أو تخصيصها ثم نذكر الحكمة في ترتيبها لطال، والتصوير موجود في كل جزء من أجزاء العالم وإن صغر حتى في النملة والذرة بل في كل عضو من أعضاء النملة .

بل الكلام يطول في شرح صورة العين التي هي أصغر عضو في الحيوان، ومن لم يعرف طبقات العين وعددها وهيئتها وشكلها ومقاديرها وألوانها ووجه الحكم فيها، فلن يعرف مصورها إلا بالرسم المجمل .



فصل

وهذه نبذة من كلام أئمة السنة الموافقة في المعنى والمشاهدة لصحة ما تقدم تقريره .

قال البيضاوي في تقرير قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا إلى قوله وهو بكل شيء عليم فيه تعليل كأنه قال: ولكونه عالما بكيفية الأشياء خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع، واستدلال بأن من كان هذا فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عالما، فإن إتقان الأفعال بأحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم .

وقال في قوله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض الآية: اعلم أن دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا، والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة وأنحاء مختلفة إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرك السموات أو بعضها [ ص: 437 ] كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها وبحيث تصير دائرة مارة بالقطبين وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا أو على هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها فلا بد لها من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته .

وقال في قوله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم إلى قوله: والله يعلم وأنتم لا تعلمون : فيه دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة وإن لم يعرف عينها، ونقل الطيبي في هذه الآية عن الزجاجي أنه قال: معنى كراهتهم القتال أنه من جنس غلظه عليهم ومشقته لا أن المؤمن يكره فرض الله لأنه تعالى لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصلاح .

وقال الطيبي في حاشية الكشاف عند قوله تعالى: والله لا يحب الفساد الإفساد في الحقيقة إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، وما تراه من فعله إفسادا فهو بالإضافة إلينا وباعتبارنا فأما بالنظر الإلهي فكله إصلاح، ولهذا قيل: يا من إفساده إصلاح، أي: ما نعده نحن إفسادا فهو بالإضافة إلينا وباعتبارنا لقصور نظرنا .

وقال الفخر الأصبهاني في أول سورة آل عمران: القيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ولا يتم ذلك إلا بمجموع أمرين: كونه عالما بجميع حاجاتهم على جميع الوجوه، وكونه قادرا على وقعها، والأول لا يتم إلا بكونه عالما بكل شيء، والثاني لا يتم إلا بكونه قادرا على كل ممكن .

أشار إلى الأول بقوله: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وإلى الثاني بقوله: هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء قال: وفي هذا لطيفة أخرى وهي أن قوله تعالى: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء لا يجوز إثباته بالسمع; لأن معرفة السمع موقوفة على العلم بكونه عالما بكل شيء بل بالدليل العقلي وهو أن يقال: إن أفعاله تعالى محكمة متقنة والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالما فذكر الدليل العقلي الدال عليه، وهو أنه الذي صورهم في الأرحام على هذه البينة العجيبة والهيئة الغريبة وركب الأعضاء المختلفة في الشكل والطبع والصفة فبعضها عظام وبعضها أعصاب وبعضها أوردة وبعضها شرايين وبعضها عضلات ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على أحسن التركيب وأكمل التأليف، وذلك يدل على كمال قدرته حيث خلق ذلك من نطفة، أو على كمال علمه من حيث إن الفعل المحكم المتقن على هذا الوجه لا يصدر إلا عن عالم، فكان قوله هو الذي يصوركم دالا على الأمرين معا. انتهى .

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: وإلهكم إله واحد الآية، وقوله: الرحمن الرحيم كالحجة على الوحدانية، فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها وفروعها وما سواه إما بنعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره، قال السعد: فإن قيل: الكفر والمعصية وسائر القبائح ليست بنعمة ولا منعم، قلنا: هي كلها من حيث القابلية والفاعلية وما يرجع إلى الوجود والسببية نعمة، ومرجع الشر والقبح إلى العدم .

وقال السعد في حاشية الكشاف عند قوله تعالى: أولئك لهم نصيب مما كسبوا "من" للتبعيض بمعنى أنهم لا يعطون إلا البعض مما طلبوا وهو القدر الذي استوجبوه في الدنيا نظرا إلى المصالح وفي الآخرة نظرا إلى الاستحقاق، إذ الصانع حكيم لا يفعل ما ليس بمصلحة ولا يعطي ما ليس بمستحق .

وقال البيضاوي في قوله تعالى: والله يقبض ويبسط يقتر على بعض ويوسع على بعض حسبما اقتضت حكمته، وقال عند قوله تعالى: قال إن الله اصطفاه عليكم لما استبعدوا تملك طالوت لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك بأن العمدة فيه اصطفاء الله تعالى، وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم .

وقال السعد عند قوله تعالى: أن آتاه الله الملك وقد حكى قول الكشاف: إن الله لا يؤتي الكافر الملك يعني أنه قبيح، قال: لو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح مثل الامتحان، وقال التقي السبكي في تفسيره عند قوله تعالى: حكمة بالغة أي: تامة بلغت النهاية في كل ما يوصف به .

وقال الزجاج في قوله تعالى: آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا معنى الكلام أنه قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتضعون الأموال على غير حكمة، ولهذا أتبعه بقوله: إن الله كان عليما أي: عليم بما يصلح لخلقه حكيم فيما فرض .

وقال ابن عطية في الآية: هذا تعرض للحكم في ذلك وتأنيس للعرب الذين كانوا يورثون على غير هذه الصفة، وقال أبو حيان: بين الله تعالى أن قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها وأن الآباء والأبناء شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم [ ص: 438 ] أقرب نفعا بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته، فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا .

فإذا كان علم ذلك عازبا عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم عللها ولا ندركها، بل يجب التسليم فيها لله ورسوله، وجميع المقدورات الشرعية في كونها لا نعقل عللها مثل قسمة المواريث سواء .



وحكى المفسرون في معنى قوله تعالى: ويهديكم سنن الذين من قبلكم قولين:

أحدهما: أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضا في جميع الشرائع والملل .

الثاني: أنه في بيان ما لك في المصلحة; لأن الشرائع وإن كانت مختلفة في نفسها متفقه في باب المصالح، ولهذا ختم الآية بقوله: والله عليم حكيم أي: عليم بوجوه المصالح حكيم بوضع الأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان. انتهى .

وهذا الثاني مؤيد لما تقدم تقريره أن الشيء قد يشرع في وقت ويكون إذ ذاك أبدع من خلافه لحكمة تقتضيه، ثم يشرع في وقت بعده خلافه ويكون هذا الخلاف أبدع في هذا الوقت من المشروع لما اقتضاه من الحكمة .

ونقل أبو حيان عن بعض المفسرين واستحسنه في قوله تعالى: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قال نهوا عن الحسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال; لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وعلم بأحوال العباد بما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق أو قبض، ولهذا ختم الآية بقوله: إن الله كان بكل شيء عليما أي: علمه محيط جميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكل منكم من توسيع وتقتير فإياكم والاعتراض بتمن أو غيره. انتهى .

وذكر البيضاوي في تفسير هذه الآية نحوه، وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها هذه دلالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم إلا بأن أظهر علمه، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم كان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم. انتهى .

فهذا تصريح من الإمام بأنه ليس في الإمكان أشرف من العلم، وقال الفخر: إنما سأل الملائكة ما سألوا في حق آدم - عليه السلام - طلبا للحكمة فأجابهم بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون أي: إن أراد تعالى أن يزيدهم بيانا وأن يفصل لهم المجمل فبين لهم من فضل آدم ما لم يكن ذلك معلوما، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر لهم كمال فضله وقصورهم عنه في العلم، فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي. انتهى .

وقال المفسرون في قوله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم هذا نص من الله تعالى بأنه شرع الشرائع مختلفة على حسب ما اقتضته الحكمة، وقال البيضاوي في قوله تعالى: بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء أي: هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيع أخرى، على حسب مشيئته ومقتضى حكمته .

وقال الراغب فيما نقله الطيبي في حاشية الكشاف: وكلاهما من أئمة السنة: الحكم والحكمة من أصل واحد إلا أنه إذا كان في القول قيل له: حكم وقد حكم، وإذا كان في الفعل قيل له: حكمة، وحكم له حكمة. فإذا قلت: حكمت بكذا فمعناه قضيت فيه بما هو حكمه، وإن كان كما يقال: حكم فلان بالباطل بمعنى أجرى الباطل مجرى الحكم، فحكم الله تعالى مقتض للحكمة لا محالة فنبه بقوله: إن الله يحكم ما يريد على ما يريد يجعله حكمة حثا للعباد على الرضا به، فالله يحكم ما يريد وحكمه ماض ومن رضي بحكمه استراح في نفسه وهدي لرشده ومن سخط تعدى حكمه واكتسب بسخطه سخط الله وإهانته، كما ورد: من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليطلب ربا سواي .

وقال النووي في شرح المهذب في باب آداب العالم: وطريقه في نفي الحسد أن يعلم أن حكمة الله اقتضت جعل هذا الفضل في هذا الإنسان فلا يعترض ولا يكره ما اقتضته الحكمة، ولم يذمه الله احترازا من المعاصي، هذه عبارته وهو صريح في أن المعاصي وقعت على مقتضى الحكمة، وإنما تكره لأن الله ذمها، وقال أبو حيان في قوله تعالى: وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ختم [ ص: 439 ] الآية بهذين الوصفين للإشارة إلى أنه إنما يغني بحسب المصلحة والحكمة .

وقال أبو طالب المكي في مقام الرضا من قوت القلوب الذي هو أساس كتاب الإحياء: ومن الرضا أن لا يذم شيئا مباحا ولا يعيبه إذ كان ذلك بقضاء مولاه مشاهدا للصانع في جميع الصنعة ناظرا إلى إتقان الصنع والحكمة، وإن لم يخرج ذلك عن معيار العقل والعادة .

وبعض العارفين يجعل هذه الأشياء في باب الحياء من الله، ومنهم من يقول هي من حسن الخلق مع الله، ومنهم من جعله من باب الأدب بين يدي الله تعالى، وأعظم من ذلك أنها داخلة في باب قلة الحياء، ويصلح أن يكون هذا أحد معاني الخبر الذي جاء: قلة الحياء كفر يعني كفر النعمة، بأن يذم ويعيب بعض ما أنعم الله عليه من الإرفاق والإلطاف إذا كان فيها تقصير عن تمام مثلها أو كانت مخالفة لهواه، فيكون ذلك كفرا بالنعمة وقلة حياء العبد من المنعم، إذ قد أمره بالشكر على ذلك فبدله كفرا; لأن أحدا لو اصطنع طعاما فعبته وذممته كره ذلك منك، فكذلك الله تعالى يكره ذلك منك وهذا داخل في معرفة معانى الصفات .

وبعض الراضين يجعل ذم الأشياء وعيبها بمنزلة الغيبة لصانعها; لأنها صنعته ونتاج حكمته ونفاذ علمه وحكم تدبيره ولأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين وأحسن الخالقين، له في كل شيء حكمة بالغة وفي كل صنعة صنع متقن؛ لأنك إذا عبت صنعة أحد وذممتها سرى ذلك إلى الصانع; لأنه كذلك صنعها وعن حكمة أظهرها إذ كانت الصنعة مجهولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها في خلقها .

وقد كان الورعون لا يعيبون صنعة عبد كراهة الغيبة له: وذلك أن الراضي عن الله تعالى بمثابة المتأدب بين يديه يستحي أن يعارضه في داره أو يعترض عليه في حكمه، فصاحب الدار يصنع في داره بحكمه ما يشاء ويأمر في خلقه كيف يشاء، والحاكم يحكم بأمره والعبد راض بصنع سيده مسلم لحكم حاكمه .

وقال أيضا في آخر مقام التوكل: لو تمنى أهل النهى من أولي الألباب الذين كشف عن قلوبهم الحجاب نهاية الأماني فكونت أمانيهم على ما تمنوا لكان رضاهم عن الله عز وجل في تدبيره ومعرفتهم بحسن تقديره خيرا لهم من كون أمانيهم على ما تمنوا وأفضل من قبل، إن الله أحكم الحاكمين، وقد قال تعالى موبخا للإنسان مجهلا للتمني لقلة الإيقان: أم للإنسان ما تمنى * فلله الآخرة والأولى أن يحكم فيهما بترك الأماني; لأنه قال: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن هذا لسوء عملهم بالتدبير وقوة جهلهم بعواقب المصير واختلاف أهوائهم في معاني التقدير، فالمتوكل محب لله تعالى فهو به مسرور وفرح له بملكه مستسلم له في جميع أموره، فإن له الآخرة والأولى يحكم فيها بما يشاء كيف شاء إنه على كل شيء قدير، فعال لما يريد، والعبد جاهل عاجز لا يقدر على شيء .

وهذا أول مقام من المحبة وأوسط حال في التوكل فقد كفى الخلائق هذا كله حسن تدبير الخلاق العليم الخبير البصير، وإنما يحتاجون إلى معرفة بالحكمة ومشاهدة للحكم والقدرة إلى بصيرة ويقين بالرحمة والنعمة يقع بهما في القلوب تسكين .

ولا يختلف هذا الذي ذكرناه عند الموقنين اليوم بعد كشف حجاب العقل وسقوط سلطان النفس، وسيطلع العموم على سر هذا من لطيف التدبير وباطن التقدير وهو سر القدرة ولطيفة القدر عند كشف الغطاء ومعاينة ما وراءه من عجائب الخبء في السموات والأرض، وقد أطلع الله على ذلك العلماء به في الدنيا قبل الآخرة وهو محمود مشكور، له الحمد في الأولى على ما أظهر وله الشكر في الأخرى على ما أخفى وستر، ففي كل واحد منهما نعمة سابقة ورحمة واسعة وحكمة بالغة، ولكن قد خلق العلماء بأخلاقه فليس يكشفون من سره إلا بقدر ما كشف، ولا يعرفون من وصفه إلا من حيث عرف. انتهى .

وقال الشيخ ابن عطاء الله قدس سره في "لطائف المنن": وناهيك به جلالة قدر أن التقي السبكي كان يفتخر بحضوره في حلقة وعظه ذكر فيه ما نصه:

اعلم أن الله تعالى لم يأمر العباد بشيء وجوبا أو ندبا إلا والمصلحة لهم في فعل ذلك الأمر، ولم يقتض منهم ترك شيء تحريما أو كراهة إلا والمصلحة لهم في تركه، ولسنا نقول كما قال من عدل به عن طريق الهدى أنه يجب على الله رعاية مصالح عباده، بل على سبيل التفضيل فليت شعري إذ قالوا: يجب على الله رعاية مصالح عباده، فمن هو الموجب عليه. انتهى، وهذا عين ما فهم من كلام المصنف وقررناه به .



فصل

في نبذة أحاديث وآثار مناسبة لما تقدم روى أبو نعيم في الحلية

وابن أبي الدنيا في كتاب [ ص: 440 ] الأولياء من حديث

أنس يقول الله تعالى: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وأنا أغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد. الحديث .

وفيه: وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، فأكفه عنه أن لا يدخل عجب فيفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير.

وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس: يقول الله تعالى ربما سألني وليي المؤمن الغنى فأصرفه من الغنى إلى الفقر ولو صرفته إلى الغنى لكان شرا له، وربما سألني وليي المؤمن الفقر فأصرفه إلى الغنى ولو صرفته إلى الفقر لكان شرا له.

وروى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة: قال موسى يا رب أعطيت الدنيا أعداءك ومنعتها أولياءك فما الحكمة في ذلك، فأوحى الله إليه: أعطيتها أعدائي ليتمرغوا ومنعتها أوليائي ليتضرعوا، وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث كليب الجهني: قال الله: لولا أن الذنب خير لعبدي المؤمن من العجب ما خليت بين عبدي المؤمن وبين الذنب، وروى الديلمي من حديث أبي هريرة: لولا أن المؤمن يعجب بعمله لعصم من الذنب حتى لا يهم به، ولكن الذنب خير له من العجب.

وروى البخاري في تاريخه من حديث أنس: عجبا للمؤمن إن الله لم يقض له قضاء إلا خيرا له، وروى ابن جرير في التفسير عن ابن عباس قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك فإنه ثبت في كتاب الله قلت: يا رسول الله فأين؟ قال: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

فهذه الأحاديث كلها شاهدة لسياق المصنف .

وأما الآثار فعن سعيد بن جبير قال: قالت بنو إسرائيل: يا موسى يخلق ربك خلقا لم يعذبهم فأوحى الله إليه: أن ازرع، فزرع، ثم قال: احصد، فحصد، ثم قال: ذره فذراه فاجتمع القشر، فقال لأي شيء يصلح هذا؟ قال: للنار، قال: فكذلك لا أعذب من خلقي إلا من استأهل النار. رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح، وسئل ابن عباس عن القدر فقال: وجدت أصوب الناس فيه حديثا أعلمهم به، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس لما ازداد فيه نظرا ازداد تحيرا. رواه الطبراني .

وقال وهب بن منبه: يقول الله تعالى: إن من عبادي المؤمنين من يسألني الشيء من العبادة فأحبسها عنه مخافة أن يدخل عليه الإعجاب فيفسد عليه عمله، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح له إلا الغنى ولو صرفته إلى الفقر لكان شرا له، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح له الفقر ولو صرفته إلى الغنى لهلك. رواه أحمد في الزهد .

وعن أبي حازم قال: إن الرجل ليذنب الذنب وما عمل قط حسنة أنفع له منه ويعمل الحسنة وما عمل سيئة قط أضر عليه منها. رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وقال وهب بن منبه قرأت في بعض الكتب فوجدت الله يقول يا ابن آدم إن أحب ما تكون إلي وأقرب ما تكون مني إذا كنت راضيا بما قسمت لك، وأبغض ما تكون إلي وأبعد ما تكون مني إذا كنت ساخطا لاهيا عما قسمت لك، يا ابن آدم أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك إني عالم بخلقي، رواه أبو نعيم في الحلية، وغير ذلك من الآثار التي في ذكرها تطويل وفيما ذكرناه كفاية للمستفيد وإغاظة للمستريب .



فصل

وهذه المسألة التي نحن في سياقها بإيراد الشواهد عليها شهيرة بين العلماء وهي في بادئ النظر سهلة، ولكن عند التأمل عقدة تعب في حلها كثير من الشيوخ، واختلفت آراؤهم وكثر نزاعهم وتشعبوا فرقا وسلكوا فيها طرقا، فمنهم من رد على المصنف ذلك ونسبه إلى رأي الفلاسفة والاعتزال، ومنهم من انتصر له وحاول عنه النضال، ومنهم من زعم أنها مدسوسة عليه وقوى ذلك الاحتمال، وقد سبق مني وعد في مقدمة كتاب العلم حين ذكرت ترجمة المصنف واستطردت فيها إلى ذكر مصنفاته ومقالاته والرد على الطاعنين في مؤلفاته وكلماته أن إذا وفقني الله تعالى ووصلت إلى كتاب التوكل الذي هذه المسألة مرسومة فيه أتكلم عليها بما يسر الله لفهمي من مجموع كلام الأئمة تسليما وردا ونقدا وها قد من الله تعالى علي وله الحمد المستقصى حتى يرضى أن وصلت إلى هذا المقام بعد أن فات من ميقات الوعد إلى اليوم عشرة أعوام، وقد أعطيت بمنة الله تعالى [ ص: 441 ] لعبارة المصنف استحقاقها شرحا وكشفا بما له من الأدلة والشواهد، وفي أثنائها فوائد زوائد، وقد عن لي الآن أن أجمع كلام أولئك الفرق وأتكلم معهم بالإنصاف تاركا سبيل الاعتساف، فما كان صوابا فمن الله تعالى وما كان خطأ فمن سوء فهمي وبلادة قريحتي، والمطالع يسامحني ويغض عن إساءتي فإني مقر بقلة بضاعتي وقلوص ظل حصاني .

ولنقدم قبل نقل كلامهم وصية تعرف ما على من نظر في كلام الناس في تصانيفهم كيف يكون نظره فيها واقتباسه منها فذلك أوكد عليه أن يتعلمه إن لم يعلمه وأولى ما يلزم العمل به إذا علمه فما أتي على أكثرهم إلا أنهم أتوا البيوت من ظهورها فشردوا عنها، وغلقت في وجوههم، وأسدل دونهم الحجاب، ولو أتوها من أبوابها للقوا بالرحب وولجوا على الرضا والحب، وكشف لهم كثير من حجب الغيب .

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في أول الإملاء: أيها الطالب للعلوم والناظر في التصانيف والمتشرف على كلام الناس، ليكن نظرك فيما تنظر فيه بالله ولله وفي الله; لأنه إن لم يكن نظرك به وكلك إلى نفسك أو إلى من جعلت نظرك به إذا كان غير من فهم أو علم أو خط أو إمام متبع أو صحة ميزان أو ما شاكل ذلك، وكذلك إن لم يكن نظرك له فقد صار عملك لغيره ونكصت على عقبيك وخسرت في الدارين صفقتك وعاد كل ما هو لك فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وإن لم يكن نظرك فيه فقد أثبت معه غيره ولاحظت بالحقيقة سواه، وإذا نظرت في كلام أحد من الناس ممن قد شهر بعلم فلا تنظره بازدراء كمن يستغني عنه في الظاهر وله إليه كبير حاجة في الباطن، ولا يقف به حيث وقف به كلامه فالمعاني أوسع من العبارات، والصدور أفسح من الكتب المؤلفات .

واطمح بنظر قلبك في كلامه إلى غاية ما يحتمل فذلك يعرفك وجه قدره ويفتح لك باب قصده ولا تقطع له بصحة ولا تحكم عليه بفساد وليكن تحسين الظن أغلب عليك فيه حتى يزول الإشكال عنك مما تتيقن من معانيه، فإذا رأيت حسنة وسيئة فانشر الحسنة واطلب المعاذير للسيئة ولا تكن كالذبابة تنزل على أقذر ما تجده، ولا تعجل على أحد بالتخطئة ولا تبادر بالتجهيل فربما عاد عليك ذلك وأنت لا تشعر، فلكل عالم عور وله في بعض ما يأتي به احتجاب وناهيك بما جرى بين ولي الله تعالى الخضر وموسى - عليهما السلام - .

وإذا عرض لك من كلام عالم إشكال يؤذن في الظاهر بمحال واختلال فخذ ما ظهر لك عمله ودع ما اعتاص عليك فهمه وكل العلم فيه إلى الله - عز وجل - فهذه وصيتي لك فاحفظها وتذكيري إياك فلا تذهل عنه، وأزيدك زيادة تقتضي التعريف بأصناف العلماء لكي تعرف أن الحقيقة من غيرهم، فلك في ذلك أكبر منفعة ولي في وصفهم أبلغ غرض .

قال بعض علمائنا: العلماء ثلاثة: حجة وحجاج ومحجوج، فالحجة والحجاج عالمان بالله وبأمره وبآياته علامتهما الخشية لله والورع والزهد والإيثار، لكن الحجة محفوظ من المراء والجدال فهو خبير عليم على صراط الله المستقيم، والحجاج مدفوع إلى إقامة الحجة وإطفاء نار البدعة فقد أخرس المتكلمين وأفحم المتخرصين، برهانه ساطع وبيانه قاطع وبواضح برهانه ودلائله وضح الحق المبين، فهو رباني علم على صراط الله المستقيم، والمحجوج عالم بالله وبأمره وبآياته ولكنه فقد الخشية لله برؤيته لنفسه وحجبه عن الورع والزهد وبعده عن بركات علمه، ومحبته العلو والشرف وخوف السقوط، فهو عبد لعبيد الدنيا خادم لخدمها مفتون بعد علمه، مغتر بعد معرفته مخذول بعد تقربه، شأنه الاحتقار لنعم الله تعالى والإزراء بأوليائه وفخره بلقاء أميره وصلة سلطانه، قد أهلك نفسه حين لا ينتفع بعلمه وأهلك من اتبعه واقتدى به فويل لمن صحبه وويل لمن تبعه في دينه .

وهذا هو آكل بدينه غير منصف لله في نفسه ولا ناصح له في عباده، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، فالصنفان الأولان من العلماء قد ذهبوا وإن كان قد بقي منهم فهو غير محسوس للناس ولا مدرك بالمخاطبة، وذلك لما ظهر في القضاء من ظهور الفساد وعدم أهل الصلاح والرشاد، وأعز شيء في الغالب على وجه الأرض ما يقع عليه في الحقيقة اسم علم عند شخص مشهور به، وإنما الموجود اليوم أهل سخافة، ودعوى، وحماقة، واجتراء، وعجب بغير فضيلة، ورياء يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا وهم أكثر من هم الأرض، وصيروا أنفسهم أوتاد البلاد وأرسان العوام، وهم خلفاء إبليس وأعداء الحقائق وأخدان العوائد السوء، وعنهم يرد عيب الحكم الشرعية وانتقاص أهل الإرادة والدين، فاحذرهم [ ص: 442 ] قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون .

هذا كله كلام المصنف في خطبة الإملاء وقد اختصرته في بعض المواضع، ولنأخذ في ذكر ما وعدنا به وأستوهب الله نفوذ البصيرة وحسن السريرة وغفران الجريرة، فهو ربي ورب كل شيء وإليه المصير .

فاعلم أن الطائفة الأولى وهم الذين ردوا على المصنف هذه الجملة ولم يقبلوها وقابلوها على كلام أهل السنة فوجدوها غير دائرة عليه، واستشكلوا فيها أمرين: الأول: قوله: ليس في الإمكان أبدع مما أوجده الله، والثاني: قوله: في إقامة الدليل عليه; لأنه لو كان وادخره مع القدر لكان بخيلا يناقض الجود الإلهي وظلما يناقض العدل أو لا مع القدرة كان عجزا يناقض القدرة الإلهية فقرر بهذا الدليل أنه محال غير ممكن حتى يدخل تحت القدرة .

ومحل التوقف في هذا الدليل قوله: وظلما يناقض العدل، فإن الناس قد توقفوا فيه وقالوا إنما يناسب أصول المعتزلة القائلين بوجوب الأصلح على الله، وإلا فعلى أصول أهل السنة أنه لا يجب عليه فعل الأصلح ولا يكون مناقضا للعدل; لأن فعل الأصلح عندهم من باب الفضل، هذا الذي فهم من مجموع كلام المعترضين مع سعته وتشعب أرجائه، ولكن الحاصل ما ذكرته .

فمن هذه الطائفة الإمام أبو بكر بن العربي شارح الترمذي وتلميذ المصنف، فإنه وفد عليه بالعراق وأخذ عنه علما جاء كما ذكره في العواصم والقواصم، قال أبو عبد الله القرطبي في شرح أسماء الله الحسنى: قال أبو بكر بن العربي: قال شيخنا أبو حامد الغزالي قولا عظيما انتقده عليه أهل العراق وهو شهادة الله موضع انتقاد قال: ليس في القدرة أبدع من هذا العالم في الإتقان والحكمة ولو كان في القدرة أبدع منه وادخره لكان ذلك منافيا للجود، وأخذ ابن العربي في الرد عليه إلى أن قال: ونحن وإن كنا قطرة في بحر فإنا لا نرد عليه إلا بقوله، ثم قال: فسبحان من أكمل بشيخنا هذا فواضل الحقائق ثم صرف به عن هذه الواضحة في الطرائق .

وممن تلاه في الرد الإمام أبو عبد الله المازري والإمام أبو الوليد الطرطوشي وهما لم يخصا بالرد عليه في هذه المسألة وغيرها في مواضع من كتاب الإحياء تبع فيها الفلاسفة، فالمازري لما سئل عن كتاب الإحياء ومصنفه قال في الجواب: هذا الرجل وإن لم أكن قرأت كتابه فقد رأيت تلامذته وأصحابه فكل منهم يحكي لي نوعا من حاله وطريقته فأتلوح بها مذهبه وسيرته ما قام لي مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حال الرجل وحال كتابه، ثم ذكر أنه أكسبته قراءته الفلسفة جراءة على المعاني وتسهيلا للهجوم على الحقائق، وعرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، ثم ذكر ابن سينا وأنه يعول عليه في أكثر ما يشير إليه من الفلسفة .

وقد أجاب عنهما التاج السبكي بما مر أكثره في مقدمة كتاب العلم، حاصله أن ابن سينا عنده من الهالكين فكيف يعتمد عليه وليس في كتاب الإحياء للفلاسفة مدخل ولم يصنفه إلا بعد ما ازدرى علومهم ونهى عن النظر في كتبهم، وقد أشار هو إلى ذلك في مواضع من الإحياء، وأما هذه الجملة التي وقع فيها النزاع والخصام ومكابرة الألداء الطغام، فلا شك أن فلسفية أوجبت للمازري ولأمثاله اعتقاد هذه الأمور الردية، والخلاص منها الحكم بأنها مدسوسة عليه معزوة كذبا وبهتانا إليه قبح الله واضعها وعازيها إليه وصانعها. اهـ .

ومن المعترضين عليه أبو العباس ناصر الدين ابن المنير الإسكندري المالكي صنف في ذلك رسالة سماها الضياء المتلألئ في تعقب الإحياء للغزالي وقال: المسألة المذكورة لا تتمشى إلا على قواعد الفلاسفة والمعتزلة، ومع رده على المصنف قد أساء القول فيه جدا إذ تنقص من مقامه وغض من رتبته وهذا لا يوافقه فيه أحد، فإن المصنف إمام الدنيا والدين وقطب العلم والحال والمقام وإمام المسلمين، وإني لم أقف على كتابه المذكور وإنما اطلعت على نقول منه بالوساطة .

وممن نقل عنه الإنكار إما عموما أو خصوصا التقي ابن الصلاح ويوسف الدمشقي وابن الجوزي والتقي السبكي وابن قيم الجوزية والحافظ الذهبي وقد ذكر في تاريخ الإسلام الإنكار عليه عن جماعة من الأئمة، وممن جاء بعد هذه الطبقة الإمام بدر الدين الزركشي فقد قال في تذكرته حين ساق هذه العبارة: هذه من الكلمات العقم التي لا ينبغي إطلاق مثلها في حق الصانع، هكذا نقله غير واحد وله في توجيه الكلام أجوبة سيأتي ذكرها بعد، وممن جاء بعد هذه الطبقة بكثير فتعصب عليه وطعن البرهان إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي الشافعي أحد تلامذة [ ص: 443 ] الحافظ ابن حجر فقد صنف ثلاث رسائل في الرد عليه: إحداها المقصد العالي في ترجمة الإمام الغزالي مدحه في أوله وأطال فيه ثم تعرض للرد عليه في هذه المسألة .

والثانية: تهديم الأركان من " ليس في الإمكان أبدع مما كان "، والثالثة: دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان، وكل من الثلاثة عندي، قال في الثانية: وبعد هذا كتاب سميته تهديم الأركان من " ليس في الإمكان أبدع مما كان" أرد فيه كلام بعض الفلاسفة القائلين بالوحدة المطلقة بهذه العبارة التي عنوانها إن الله جلت قدرته لا يمكنه أن يوجد شيئا أبدع من هذا الذي كان من هذا الكون الذي نشاهد ما نشاهده منه ونعلم ما غاب عنا بإعلام الرسل - عليهم السلام - لأن ذلك على زعمهم من قبيل المحال فلا تتعلق به القدرة لانصراف الإرادة عنه; لأن من شأنها أن لا تتعلق بالمحال، وهذا يشبه أن يكون قول من يقول إن الإله يفعل بالذات لا بالاختيار، وهو قول باطل يلزم عليه قدم العالم بالزمان، أو أنه قول من يقول بقدم العالم بالذات حتى لا يكون شيء سوى هذا الوجود المشهود، إنما هو على زعمه أرحام تدفع وأرض تبلع، وهو قول أهل الطبيعة القائلين بأن حوادث هذا العالم علتها امتزاج هذه العناصر بعضها من بعض وهو أبطل من الأول، أو قول من يقول بأن الله تعالى يجب عليه رعاية الأصلح .

وقد تظافر أهل السنة على رده واغتر بقولهم هذا بعض الناس وأكد غرورهم بهذه المقالة أن أخذها الإمام حجة الإسلام وأودعها بعض كتبه وهو الإمام الذي لا مطعن في دينه ولا علمه ولم يقصد بها إن صحت عنه إلا خيرا غير أنه ليس بمعصوم وهي زلة منه، وقد رد عليه صناديد العلماء في أشياء كثيرة من أحاديث موضوعة وأقوال مرذولة .

أما نقله لهذه العبارة فقال في كتابه المسمى بالجواهر والأربعين في أصول الدين، وفي الإحياء ثم ساق عبارة الأخيرين ولم يسق عبارة الجواهر كأنه لم يطلع عليه، وقد سقناه نحن آنفا، وهذه العبارة في موضعين منه ثم قال: وهو من المواضع التي اعترض عليه فيها في حياته فأجاب كما عزي إليه إن صح ذلك عنه في كتاب اسمه الإملاء على الإحياء فقال ما نصه: فساقه. إلخ. كما سنذكره بعد ثم قال: انتهى جميع ما وقفت عليه من كلامه على هذا المعنى حسبما عزي إليه، والله أعلم بحقيقة الحال هل هو كلامه أو مدسوس عليه كما ظننت قبل اطلاعي على هذه النقول، كما دس عليه بعض المجرمين كتبا كاملة كانية على ذلك، ليتصل ذلك المفسد بذلك إلى تمشية فساده إما بالطعن في هذا الأستاذ وإما بتمشية ما في تلك الكتب من فاسد الاعتقاد .

هذا وما تضمنته هذه النقول هو كما ترى ظاهر جدا في نسبة الله إلى العجز عن أن يبدع عالما أكمل من هذا العالم، وفي أنه يعد إبداع ما هو أكمل من هذا محالا حتى يصير مما ليس في شأن القدرة أن تتعلق به، وليس ذلك كذلك قطعا ولا يثبت كون الشيء محالا بمجرد الدعوى، بل نقول إنه ممكن فهو مقدور عليه وادخاره لا يلزم منه بخل ولا عجز كما لا يلزم ذلك من خلق شخص من الأشخاص الآدميين على غاية البشاعة في صورته ومعناه خلقا وخلقا مع علمنا بالقدرة على جعله من أكمل الخلق حتى يكون على صورة من هو أكمل منه سواء بسواء لا شبهة في ذلك ولا شبهة في أنه كان قادرا على أن يدع الخلق على ما كانوا عليه أمة واحدة مؤمنين على قلب رجل واحد لا تحاسد بينهم ولا تباغض بوجه، ولو شاء الله ما اختلفوا ولو شاء ما اقتتلوا، ولا شك أن ذلك أبدع مما نحن فيه من هذا التخالف والتدابر والتباغض والتنافر ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولو شاء لأعطى كل نفس هداها، ولو شاء لحفظ الأرض من الفساد بعد إصلاحها .



ثم ذكر نقولا من كتاب الإحياء مما توافق مقصوده، فمن ذلك عبارته في الصبر والشكر الذي يقول فيها: إن كل مصيبة ومرض فيتصور أن يكون أكثر منهما إذ مقدورات الله لا تتناهى. إلخ. قال: فهذا نص في أن الله تعالى لو أراد أن يخلق عالما أعظم من هذا وأبدع كان عليه هينا، ولا يلزم من ذلك محال ومن ادعى لزوم محال أو عجز أو بخل فليبينه حال كونه مستحضرا لقوله تعالى: لا يسأل عما يفعل الذي من مفهومه أنه لو فعل ما ينافي ما نسميه حكمة كان له ذلك ولم يلزمنا منه محال مع أنا لا ندعي أنه يفعل ما ينافي الحكمة فكيف لو فعل ما هو أحكم مما فعله أولا وكان قد ادخره لما لا نعلمه من الحكم .

ومنها عبارته في كتاب المحبة نقلا عن سهل: لله عباد في هذه البلدة لو سألوا الله أن لا يقيم الساعة لم يقمها، قال المصنف: وهذه أمور ممكنه في أنفسها فإن القدرة واسعة والفضل عظيم وعجائب الملك والملكوت [ ص: 444 ] كثيرة ومقدورات الله لا نهاية لها، وفضله على عباده الذين اصطفى لا غاية له. اهـ .

قال وهذا نص آخر منه على أنه، خلق عالم أبدع من هذا العالم ممكن فإنه من جملة المقدورات التي قال وهو الحق أنه لا نهاية لها، والفضل الذي نص على أنه لا غاية له وجوز عدم قيام الساعة; لأنه ممكن مع أنه محط الحكمة ولولا هو لكان خلق هذا العالم صورته صورة العبث، وقد قرر هو أن ترتيب الدنيا على الآخرة من جملة ما هو في نهاية الإبداع، وقد قدم في تلك الكلمات المعترضة أن المسببات رتبت على الأسباب على أكمل الوجوه وأحسنها وليس في الإمكان أحسن منها وأكمل .

ومن جملة المسببات التي دخلت تحت هذا النص يوم القيامة الذي رتبت على تظالم الناس في الدنيا ليظهر فيه العدل وتزاحمهم ليظهر الفضل وقد جوز أن لا يكون، فإن كان تركه أحسن من فعله وأبدع انتقد قوله على أكمل الوجوه وأحسنها، وإن كان تركه أقل حسنا من وجوده وهو كذلك بل لا شيء من الحسن في تركه انتقض قوله في الإملاء، فليس في الإمكان أن يفعل إلا نهاية ما تقتضيه الحكمة، فكان له أن يفعل ما هو حكمة وليس هو النهاية مما تقتضيه الحكمة وهذا هو الحق وهو لا يسأل عما يفعل، وهو المختار في أفعاله ولا حد لحكمته كما أنه لا حد له هو - تعالى جده وتقدس مجده - .

ثم ذكر أن لا ريب في أن الله تعالى قادر على أن يجعل الجبال كلها ذهبا وعلى أن ينقل جبل قاسيون الذي حجب عن دمشق الريح الطيب من مكانه ويبدل به أشجارا وأنهارا، وذكر أشياء من هذا النمط مما لو عرض على أدنى الطلبة لا يشك في صلاحية القدرة له، فضلا عن عالم، فضلا عن مثل حجة الإسلام .

ثم قال: غاية القول في هذا أن قائله ظن أن وجود الإبداع محال غير داخل تحت القدرة وهو غالط في ذلك، هذا حاصل ما ذكره في تهديم الأركان .

وقد رد عليه الحافظ السيوطي فأحسن وأجاد، حاصله ما قدمنا أن النفي في كلامه ليس منصبا على إمكان وجود شيء غير الموجود، إنما هو منصب على كونه أبدع من الموجود، فنفى حجة الإسلام كون شيء مما يمكن وجوده أبدع مما وجد مع قطعه بصلاحية القدرة لإيجاده .

فقوله: إن في القدرة جعل الكافرين كلهم مؤمنين على الفطرة مسلم لا شك في صلاحية القدرة لذلك، كيف وقد قال تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا لكن المنفي كون ذلك لو وقع أبدع، والمدعى أن ما صنعه الله من جعل الناس قسمين مؤمنين وكفارا أبدع من حيث الحكمة، وكذلك انقسامهم إلى طائعين وعصاة أبدع من جعلهم طائعين، وهذا هو سر القدرة الذي ورد النهي عن كشف سره، وقد لحظ فيه من حيث الحكمة أنه لولا الكفر لم يعرف مقدار الإيمان، ولولا المعصية لم يعرف مقدار الطاعة، ولولا النار لم يعرف مقدار الجنة، فهذا بعض أسرار كونه أبدع .

وقول المعترض في قدرة الله أن يجعل الجبال ذهبا مسلم، ذلك وأكثر منه، وقد عرض على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلك لكن الأبدع ما صنعه ولو كانت الجبال كلها ذهبا لتعطل الوجود وترك الناس الزراعة وسائر وجوه المعيشة، فيؤدي إلى هلاكهم، وهذا هو السر في انقسام الناس إلى زاهد وحريص، ووضع الأمل والرغبة في الدنيا، ولو كان الناس كلهم زهادا ولا آمال لهم لتركوا المعايش والمتاجر والأسفار وجلب الأمتعة من البلاد القاصية فلم ينتظم للناس أمر المعيشة، فكان صنع الله أبدع .

وأيضا فلو كانت الجبال كلها ذهبا لاقتتلوا عن آخرهم كما يقع لهم حين يحسر الفرات عن كنز من ذهب كما في الحديث. ولما كان ذلك الأمر في ذلك الوقت أبدع لاقتراب الساعة أوجده الله حينئذ .

وقول المعترض: إن في قدرة الله إزالة جبل قاسيون. إلخ. هذا مسلم، كيف وذلك كائن لا محالة قرب الساعة، كما قال تعالى: ويوم نسير الجبال لكن إثباته الآن أبدع من إزالته، وإن كان حاجبا للريح الطيب عن دمشق فلفعل الباري سبحانه، علم بحكمته أن الأصلح لهذه البلدة حجب الريح الطيب عنها، ولا يستنكر ذلك فرب أمزجة لا يصلح لها شم الريح الطيب، وقد قال الأطباء: إن الأمكنة الرديئة تصح في الأزمنة الوبيئة، فتصح عند فساد الهواء وتفسد عند طيب الهواء، فقد تكون دمشق في علم الله كذلك فعلم أن الأصلح لها حجب الريح الطيب عنها وقد تكون الحكمة في ذلك راجعة إلى الإرساء; لأن الجبال لما خلقت لإرساء الأرض حين مادت فوضع كل جبل في مستقره لحكمة، فلعله لو أزيل عن مكانه أخل بحكمة الإرساء، فإن الأبدع وضعه هنا وإن [ ص: 445 ] أدى إلى ضرر آخر من حبس الريح; لأن مراعاة الأشد ضررا مقدمة على الأخف، والحسن يترك لما هو أحسن منه والضرر يرتكب لما هو أشد ضررا منه .

وقول المعترض إن الله تعالى لا يجب عليه الأصلح هذا مسلم، ومن ادعى أنه واجب إنما نقول إنه تعالى فعل الأبدع في مصنوعاته فضلا منه ومنا لا وجوبا تعالى عن ذلك، كما نقطع بأن يدخل أهل طاعته الجنة فضلا منه لا وجوبا عليه، ولو شاء لأدخلهم النار لكنه لا يفعل كرما منه، فالحاصل أنا نقول: إن كل موجود على وجه يمكن إيجاده على عدة أوجه أخرى وإن القدرة صالحة لذلك غير أن الوجه الذي أوجده الله عليه أبدعها لعلم الله تعالى بوجه الحكمة فيه وإيجاده عليه، ولا ننفي أن يوجد بعده ضده، ونقول: إنه إذا وجد ضده في الزمن الثاني كان ذلك الضد في ذلك الزمان الثاني أبدع من الضد الأول، فكل موجود أبدع في وقته من خلافه .

والمعترض فهم من الكلام أنه إذا حكم على موجود أنه أبدع استمر ذلك الحكم فيه إلى يوم القيامة واقتضى إيجاد ضد أحسن منه بعد ذلك، فألزم عليه الإشكال، وهذا غلط محض بل المقصود أن كل ما أوجده الله في وقت هو فيه أبدع من غيره ولو أنه يوجد غيره في وقت بعده، ويكون ذلك الغير في ذلك الوقت أبدع من الأمر الأول وهلم جرا، فقد يوجد في اليوم الواحد أضداد كثيرة على سبيل التعاقب في كل ساعة منه ضد وكل واحد أوجد في ساعة أبدع فيها من غيره، والذي أوجد في الساعة الثانية أبدع فيها من الذي أوجد في الأولى وهكذا، وكل هذا مناطه اعتبارا بحكمة الله في أفعال الله، وعلى هذا لا إشكال البتة .

ولا يحتاج كلام حجة الإسلام إلى تأويل ولا صرف عن ظاهره، ونحن نرى أناسا أقامهم الله في أسباب وهم يظنون أن غيرها أحسن حالا منها فلا يزالون حتى ينقلوا منها إلى غيرها فلا ينتظم لهم فيها أمر البتة، ويعودون إلى شر ما كانوا عليه ويئول أمرهم إلى العود إلى السبب الأول، وبهذا يعرف كل ذي بصيرة أن الأبدع والأصلح في حق كل أحد ما أقامه الله فيه .

فإن قلت: قد انتهى الكلام على الحكمة في أجزاء العالم دون حكمه كله كاشتماله على الضدية مثلا من حيوان وجماد ومتحرك وساكن بحيث يمتنع إيجاد غيره على غيرها، قلت: قد تولى الله تعالى تبيين حكمة ذلك في كتابه العزيز حيث قال: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون قال المفسرون: هذه إشارة إلى المتضادات المتقابلات من الأشياء كالليل والنهار والسماء والأرض والسواد والبياض والصحة والمرض والكفر والإيمان والهدى والضلالة والشقوة والسعادة ونحو هذا، وفي ذلك دلالتان: الأولى على أنه تعالى فرد لا ضد له ولا شبيه ولا عدل ولا مثل، والثانية على القدرة حيث أوجدت الضدين بخلاف ما يفعل بطبعه واحدا كالتسخين والتبريد هذه عبارة السبكي في تفسير هذه الآية نقلا عن مجاهد والطبراني .

هذا كله سياق الحافظ السيوطي - رحمه الله تعالى - وسيأتي إيراد اعتراضاته على كلام المصنف في الإحياء وفي الجواهر والأربعين عند ذكر سياق جواب الإملاء .



فصل

ومن المعترضين المتعصبين على المصنف شيخ بعض شيوخنا العلامة سيدي أحمد بن مبارك بن محمد بن علي بن مبارك السجلماسي اللمطي المتولد سنة 1090 فإنه صنف كتابا سماه الذهب "الإبريز" جمع فيه ما استفاده من شيخه الولي الصالح القطب العارف بالله تعالى سيدي الشريف عبد العزيز بن مسعود الحسني الإدريسي الشهير بالدباغ - قدس سره - ونفعنا به قال فيه:

وسألته - رضي الله عنه - عما نسب لحجة الإسلام من قوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان، فقال - رضي الله عنه - القدرة الإلهية لا تحصر والرب سبحانه لا يعجزه شيء، ثم قال قلت: وهذا الكلام في غاية الإتقان والعرفان وقد استخرت الله تعالى غير مرة في أن أكتب شيئا في هذه المسألة محبة للخير ونصيحة للغير فإنها عقيدة، ومع ذلك فإنها من الضروريات، ولكنه لما كثر فيه القيل والقال واختفت فيه أجوبة الرجال كادت تلتحق بذلك بأدق النظريات، فنقول مستعينا بالله وحوله، ثم ساق عدة آيات وأخبار تناسب معه المقدورات وقد ساق تلك الآيات بعينها البقاعي في رسالته، ثم قال: وإذا تأملت هذه الآيات والأحاديث علمت منه الحق الواضح والطريق المستقيم الرابح، وقد اعتنين بسؤال العامة عن هذه المسألة الذين قلوبهم خالية عن الشبهات وما يمنع من وصول الحق إليهم، فأقول لهم هل يقدر ربنا على إيجاد أحسن من هذا [ ص: 446 ] العالم؟ فيقولون: ومن يتوقف في هذا؟ وربنا على كل شيء قدير وقدرته نافذة لا يعجزها شيء من الأشياء. اهـ .

قلت: ومفهومه أن حجة الإسلام يتوقف في ذلك وينكر سعة القدرة وهذا من أعجب العجائب ولو سئل عنها حجة الإسلام ماذا كان جوابه، وهل يستدل بكلام العامة على الخاصة ؟ ثم قال وقلت: مرة لبعضهم هل يقدر ربنا على إيجاد أفضل من هذا العالم؟ فقال لي: ألا تسمع إلى قوله تعالى: إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ولم يقيد الجديد بكونه دوننا فجاز أن يكون أفضل منا أو مساويا لنا فأعجبني والله فهمه. اهـ .

قلت: وهذا ظاهر لا يشك فيه عاقل، فإن في سعة قدرته ما يقتضي ذلك، ولكنه لم يشأ بذهابنا، فكان وجودنا هو الأبدع، وليس في عبارة الحجة أن الأبدع لا يدخل تحت القدرة، هذا لا يخطر ببال أحد ولا الكفار .

ثم قال: وقلت لبعض الفقهاء: ما قولك في قول أبي حامد: ليس في الإمكان أبدع مما كان؟ فقال: قد تكلم عليه الشعراني وغيره، فقلت: إنما أسألك عما عندك فيه فقال: وأي شيء عندي فيه؟ فقلت: ويحك إنها عقيدة أرأيت إن قال لك قائل: هل يقدر ربنا على إيجاد أفضل من هذا الخلق؟ فقال: أقول له إن مقدورات الله تعالى لا تتناهى فيقدر على إيجاد أفضل من هذا الخلق بألف درجة وأفضل من هذا الأفضل، وهكذا إلى ما لا نهاية له، فقلت له: وقوله " ليس في الإمكان أبدع مما كان" ينافي ذلك، فتفطن عند ذلك لمعنى العبارة، وهكذا وقع لي مع كثير من الفقهاء، فإذا سألتهم عن عبارة أبي حامد استشعروا جلالته فتوقفوا، فإذا بدلت العبارة وعبرت بما سبق في سؤالنا للعامة جزموا بعموم القدرة وعدم نهاية المقدورات. اهـ .

قلت: لو تأمل السائل والمسئول حق التأمل لعرف أن العبارة المذكورة ليس فيها تعرض لنفي القدرة أصلا، كيف وقد صرح بإثباتها في الدليل، حيث قال: ولو لم يكن قادرا كان عجزا يناقض الإلهية فكيف يقال عليه مع ذلك أنه نفى الدخول تحت القدرة وتبديل العبارة بسياق آخر غير مناسب خصوصا للعامة، فإن التصرف في العبارات بغير المعاني، ولو علموا أن مراد المصنف من سياق هذه العبارة في آخر مقام التوكل حيث العبد على الثقة بمولاه والرضا بما قضاه الله حتى لا يأسى على شر أصابه ولا خير فاته لاستراحوا من القال القيل، ثم هذه المسألة لها طرفان فطرفها الخارج في علم الكلام الذي هو من توابع علوم المعاملة إن صحت فيه النية، وطرفها الخارج في علم الكلام الذي هو من توابع علوم المعاملة إن صحت فيه النية، وطرفها الداخل متصل بعلم كمال الإيمان الذي هو داخل في جمله علوم المكاشفة ومن ورائه سر القدر المنهي عن إفشائه كما أشار إليه المصنف في آخر السياق .

فالعلم بها من عالم الملكوت ولا يفهمها إلا من اطلع على هذا العالم، ثم إن هذا المعترض لو تأمل ما أوردناه من الوصية المرضية لرجع إلى نفسه بالسكوت وتأدب مع الله تعالى ومع أهله وخاصته، ومن العجب أن مثل حجة الإسلام يخاطب بمثل هذه العبارات، ويقال له: إنك تنكر قدرة الباري وتنسب إليها العجز وتنسبه إلى البخل وتقول بوجوب الأصلح عليه أو تقول إنه قائم بقدم الزمان، وما أشبه ذلك، أتعلم أمك البضاع ودايتك الرضاع، ولو سلموا لأهل التسليم سلموا .

ثم قال سيدي أحمد بن مبارك: وكذا وقع له مثل هذه العبارة في مقاصد الفلاسفة وقد اختلف العلماء فيها على ثلاث طوائف، فطائفة أنكرتها وردتها، وطائفة أولتها، وطائفة كذبت النسبة إليه ونزهت مقامه عنها .

ثم ساق كلام ابن العربي شارح الترمذي الذي سقناه أولا ثم ذكر ابن المنير واعتراضه ثم ذكر كلام ابن أبي شريف في شرح المسايرة بعد أن ذكر أن في مقدورات الله تعالى ما هو أبدع من هذا العالم ما نصه: ثم إن في بعض كتب الإحياء ككتاب التوكل مما يدل على خلاف ذلك والله أعلم صدر عن ذهول عن ابتنائه على طريق الفلاسفة، وقد أنكره الأئمة في عصره. اهـ .

قلت: كيف يكون هذا ذهولا من أبي حامد وقد ذكره في عدة كتبه كما تقدم تصريحا وتلويحا ومن شأن الذاهل أنه إذا نبه عليه في ذهوله يتنبه ويرجع إلى الحق من غير تلعثم إذا كان منصفا قوالا بالحق، كما وقع له في مسألة الدور، فإنه لما ظهر له الحق رجع وصنف رسالة في الرد على نفسه وأنصف، وهذه المسألة قد أجاب عنها بنفسه وصمم عليها، والمسألة كما ذكرنا من علم سر القدر ومن علوم المكاشفة، ولا يمنعه توافق بعض عبارات الفلاسفة معها فينبغي التسليم له في أنه أعرف بها ممن أتى بعده، وكل من تكلم فيها فإنما هو من جهله بحقائق عالم الملكوت فإن تطبيق ما بين العالمين في الحقائق والقواعد صعب وهو قد أشار إلى ذلك بأنه قد غرق [ ص: 447 ] فيه طوائف من القاصرين، وكل متوغل في عالم الملك غير مطلع على أسرار ما بعده فهو من القاصرين فينبغي أن يقف على ساحل هذا البحر ولا يتوغل فيه وإلا فيغرق مع الغارقين وله الويل إن لم يكن من الناجين .



فصل

والطائفة الثانية قالت: إن هذه المسألة قد دست في كتبه، قال البقاعي في الرسالة الأولى قد ألحقها في كتابه: من لم يراقب الله تعالى، والدليل على ذلك أنها مناقضة لكلامه في جميع عقائده المشهورة، وأنه نقلها عن الفلاسفة في كتابه الذي سماه مقاصد الفلاسفة، وردها هو في كتابه " تهافت الفلاسفة" وأخذها أهل البدع منهم ونقلوها عنهم وأجمع الأمة على أنها لا تطلق على الله تعالى لاجتماعهم على أن ما يوهم نقصا لا يقال عليه، وهذه إن لم تكن تفهمه فهي توهمه .

وممن صرح بها بالخصوص البدر الزركشي ما تقدم النقل عنه ثم ساق النقول، وقال في الرسالة الثالثة: وإذا تأمل حق التأمل مع تحكيم الشرع والخلو عن حظ النفس علم أن ما خالفه الغزالي مما عزي إليه وهو شديد الشبه بكلام المعتزلة والفلاسفة كذب عليه لا تصح نسبته على هذا الوجه إليه; لأنه إن لم يكن عين ما نقل عن المعتزلة فهو شديد القرب منه عبارة ومعنى، وانظر إلى عبارة الإحياء والإملاء واعرضهما على كلامه في غيرهما تراها نازعة إلى ما يوهم نقصا في حق الله البتة، فإن رأيتها أو كثيرا من جملها عين كلام المعتزلة الآخذين له عن الفلاسفة أو قريبة إليه جدا فانفها إلى الغزالي لبعدها عما مضى من كلامه فإن ذلك ممكن; لأن الحساد كثير ولهم مكر كبير وكيد تكاد منه الجبال تسير، وقد كذبوا على غيره ليمشوا باطلهم المقعد بحسن سيره وذلك أقعد في تنزيهه عنها وتبريته منها .

وإن رأيت أن تثبتها على وجهها وسياقها له من غير أن تجور فيها تحريفا أو دسا يوجب زيفا أو لبسا ثم تؤول وترتكب وعرا صعبا حزنا وتعاسيف خشنا عليها تعول فافعل إن استطعت ذلك. إلى أن قال: ولا تستوحش من قولي إن ذلك مدسوس عليه لأجل كثرة الكلام وطوله مع أن الإحياء شهير النسبة إليه، فإني لم أعن بذلك الجميع بل هو دون خمسين كلمة وهي قوله في الجواهر: ليس ليكون الكلام إثباتا لإمكان الأبدع، وقوله: ولو كان إلى القدرة، وقوله: الواجب، وقوله: ليس في الإمكان إلى قوله: الإلهية، إذا حذفت هذه الكلمات استقام الكلام ولم يبق فيه شيء إلا صيغة أفعل وقد جرت العادة بالإتيان بها في سياق الإثبات على قصد المبالغة في المدح وإرادة معنى من، والذي دلنا على إرادته المبالغة مع استلزام الحقيقة المحال وهو تناهي المقدورات، قوله عقب ذلك في الدلالة عليه وأشار إلى وجه إثباتهما، أي: العلم والقدرة، أي: أنه قادر على إبدائهم وإبداء ما هو أعظم خلقا وأعجب صنعا، فهذا هو العذر عن الإحياء وعن الجواهر وأما الإملاء فليس مشهورا عنه فالظاهر أن الذي دس في الجواهر والإحياء أتقن دسه بما ذكره في الإملاء. اهـ .

وممن جوز الدس عليه واعتمده التقي السبكي واستحسنه ولده التاج، كما تقدم عنه في الكلام مع المازري، وقال سيدي أحمد بن مبارك: وأما الذين كذبوا نسبة هذه المسألة إليه فمستندهم أنهم عرضوها على كلامه في كتبه فوجدوها معه على طرفي النقيض، والعاقل لا يعتقد النقيضين فضلا عن أبي حامد، فلذلك حكمنا ببطلان نسبتها إليه، ثم ساق عن المستصفى والاقتصاد ثم قال: وأنت إذا تأملت ما وقع للإمام أبي حامد في الاقتصاد وفي مواضع من الإحياء أيقنت أنها تناقض ما نسب إليه في المسألة المتكلم فيها، فإنه قضى فيها بأن ادخار الأبدع مع القدرة عليه ظلم وبخل، وقضى هنا بأن صب العذاب والآلام والأوصاب على الخلائق عدل لا ظلم فيه، والتناقض بينهما ظاهر لا يخفى، فإن ادخار الأبدع إذا كان ظلما يناقض العدل كان صب العذاب والآلام والأوصاب ظلما يناقض العدل بالأولى والأحرى، وقد حكم عليه هنا بأنه عدل لا ظلم فيه، وقد صرح في المسألة بأنه ظلم يناقض العدل فيتهافت الكلامان، وهذا المكان في الوضوح لا يخفى .

فإن قلت: كيف تكون المسألة مكذوبة عليه وقد وقعت في عدة من كتبه ولاسيما في الإملاء، فإن ذلك يقتضي أنه وقف على إشكالها واشتغل بالجواب عنها، ولو كانت مكذوبة عليه لبادر إلى إنكارها وتبرأ من قبحها وعوارها .

قلت: لا مانع من أن يقع الكذب عليه مرتين مرة في نسبة المسألة إليه ومرة في نسبة الجواب عنها، وقد قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه " الانتصار" ما معناه أن وجود مسألة في كتاب أو في ألف كتاب منسوبة إلى إمام لا يدل على أنه قالها حتى تنقل عنه نقلا متواترا [ ص: 448 ] ليستوي فيه الطرفان والواسطة وذلك مفقود في مسألتنا قطعا فلذلك قطعنا بأنه لم يقلها حيث وجدنا مخالفة لعقيدة أهل السنة ولكلام الغزالي في سائر كتبه. اهـ .

قلت: هذا الذي ذكره بعيد ولو كان ذلك في كتاب واحد كان الأمر سهلا، وما كان الغزالي من الموصوفين بالبلادة حتى يمشي عليه الدس في كتابه ويسكت عليه ولا يتفطن له مع رسوخ قدمه في علم الكلام وسائر العلوم، وهبه أنه فطن له ونبهوه عليه واستشكلوه ما كان مقتضى ورعه وعلمه أن يتبرأ منها ويفصح بأن هذا ليس من كلامي، بل اشتغل بتحرير الكلام وقدمه بمقدمة في معرفة اصطلاح القوم ووصية جامعة تقدم ذكرها، ومن جملتها إذا نظرت في كلام أحد من الناس فلا تقف به حيث وقف به كلامه، فالمعنى أوسع من العبارات وإذا عرض لك فيه إشكال يؤذن في الظاهر بمحال واختلاف فخذ ما ظهر لك علمه ودع ما اعتاص عنك فهمه إلى آخر ما قال .

وهذه المسألة المتنازع فيها كذلك، فإن ظاهرها يؤدي إلى اختلال، وقد اعتاص عنها فهم العلماء الأبطال فينبغي تسليمها لأهل فهمها والاشتغال عنها بما هو أهم في الحال، وادعاء الدس في سائر كتبه حتى في الإملاء أبعد من الأول وما نقله عن القاضي أبي بكر الباقلاني فيه تضييق شديد، فإن الشرط الذي ذكره فيه مفقود في غالب كتب الإسلام من الفقه والحديث التي عليها عمل الناس اليوم في الأحكام فضلا عن كتب الكلام والرقائق والتصوف، ولإن سلمناه فإنه يجر إلى فتح باب للطعن على كثير من مؤلفات الأئمة الأعلام فتنبه لذلك .



فصل

في ذكر الطائفة الثالثة وهم المنتصرون للمصنف فأولهم على الإطلاق وأعلمهم وأولاهم بالتقديم المصنف نفسه فإنه سئل عنها في حياته وأجاب، وهذا نصه في الإملاء: قال السائل: وما معنى أن ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ولا أحسن ترتيبا ولا أكمل صنعا، ولو كان وادخره مع القدرة على خلقه لكان ذلك بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة الإلهية؟

فقال في الجواب: معنى أن ليس في الإمكان أبدع من صورة هذا العالم ولا أحسن ترتيبا ولا أكمل صنعا، ولو كان وادخره مع القدرة عليه كان ذلك بخلا يناقض الجود الإلهي، وإن لم يكن قادرا عليه كان ذلك عجزا يناقض الإلهية، وكيف يقضى عليه بالعجز فيما لم يخلقه اختيارا ولم ينسب إليه ذلك قبل خلق العالم، ويقال: ادخار إخراج هذا العالم من العدم إلى الوجود عجز مثل ما قيل فيما ذكرنا، وما الفرق بينهما وذلك لأن تأخيره بالعالم قبل خلقه عن أن يخرجه من العدم إلى الوجود يقع تحت الاختيار الممكن من حيث إن للفاعل المختار أن يفعل وأن لا يفعل، فإذا فعل فليس في الإمكان أن يفعل إلا نهاية ما تقتضيه الحكمة التي عرفنا أنها حكمة، ولم يعرفنا بذلك إلا لنعلم مجاري أفعاله ومصادر أموره، وليتحقق أن كل ما قضاه ويقضيه من خلقه بعلمه وإرادته وقدرته وأن ذلك على غاية الحكمة ونهاية الإتقان ومبلغ جود الصنع ليجعل كمال ما خلق دليلا قاطعا وبرهانا واضحا على كمال في صفات جلاله الموجبة لإجلاله، فلو كان كل ما خلق ناقصا بالإضافة إلى غيره مما يقدر على خلقه ولم يخلقه لكان يظهر النقصان المدعى على هذا الوجود من خلقه كما ظهر من خلقه ناقصا في أشخاص معينة ليدل بها على كمال ما خلقه من غير ذلك، ويكون الجميع من باب الاستدلال على ما صنع من النقصان قطعا، وما يحمل عليه من القدرة على أكمل منه ظنا إذ خلق للخلق عقولا وجعل لهم فهوما وعرفهم ما أكن وكشف لهم عما حجب وأجن، فيكون من حيث عرفهم بكماله دلهم على نقصه ومن حيث أعلمهم بقدرته بصرهم بعجزه فتعالى الله رب العالمين الملك الحق المبين .

وأيضا فلا يعترض بهذا ولا نشير به إلى من لا يعرف مخلوقاته ولم يصرف الفكر الصحيح في منشآته ومخترعاته ولم يعلم مقدار الدنيا وترتيب الآخرة عليها ولا عرف خواصها ولا تنزه في عجائبها ولا لاحظ الملكوت ببصر قلبه ولا جاوز التخوم إلى أسفل من ذلك بسره ولبه، ولا فهم أن الجنة أغنى النعيم وأن النار أقصى العذاب الأليم، وإن النظر إليه منتهى الكرامات وإن رضاه وسخطه غاية الدرجات والدركات، وإن منح المعارف والعلوم أسمى الهبات، ويرى أن العالم بأسره أخرجه من العدم الذي هو نفي محض إلى الوجود الذي هو إثبات صحيح وقدرة منازل وجعله طبقات فمن حي وميت ومتحرك وساكن وعالم وجاهل وشقي وسعيد وقريب وبعيد وجليل وحقير وصغير وكبير وغني وفقير [ ص: 449 ] ومأمور وأمير ومؤمن وكافر وجاحد وشاكر ومن ذكر وأنثى وأرض وسماء ودنيا وأخرى وغير ذلك مما لا يحصى، والكل قائم به وموجود بقدرته وباق بعلمه ومنته إلى أجله ومصرف بمشيئته ودال على بالغ حكمته .

فما أكمل من حدثه إلا قدمه ولا من تصرفه إلا استبداده ولا من ملكه إلا ملكه، فيعود المحدث قديما والمربوب ربا والمملوك مالكا، فيعود المخلوق من خلقه كهو، تعالى الله عن جهل الجاهلين وتخييل المعتوهين وزيغ الزائغين علوا كبيرا .

هذا آخر ما نص عليه في الجواب وقد نقض البقاعي عبارة الأربعين والإحياء والإملاء فقال في الرسالة الثانية: وأما التفصيل فقوله في الأربعين: إن الأسباب رتبت على المسببات على أكمل الوجوه وأحسنها وليس في الإمكان أحسن منها وأكمل يلزم عليه أن ندع كل أحد على ما هو عليه فإن الذي هو عليه مرتب على سبب من الأسباب على الوجه الذي ادعى أنه لا يكون أحسن منه، فيلزم من ذلك أن يجب علينا أن ندع الكافر على كفره والعاصي على عصيانه إلى غير ذلك مما أمرنا الله بخلافه .

وقوله ليس في الإمكان أحسن منها من مفهومه أن هداية الكفار لا تمكن; لأنه دون ما تقتضيه نهاية الحكمة، وهذا أمر يناقض صرائح آيات كثيرة وهو نقض للشريعة ولا سيما إذا قرنت هذا الكلام بما عقبه به من قوله: ولو كان أي غير ذلك ممكنا لكان أي إيجاده لذلك الواقع مع ادخاره ذلك الأكمل بخلا لا جودا أو عجزا يناقض القدرة، فإن ذلك يوضح غاية الإيضاح ما قلت، ويفهم قوله: " وليس في الإمكان أحسن منها " إذا كانت غاية ما يمكن القدرة أن تصل إليه فيناقض حينئذ قول الحجة نفسه أن المقدورات لا نهاية لها، وأن كماله سبحانه لا حد له، كما تقدم، ويلزم عليه أن يكون سبحانه غير مختار في أفعاله وأن يكون مسه النصب في إيجاد كل شيء، فإن من بذل غاية وسعه في عمل شيء تعب، ولا يكون في العادة ولا يدخل في العقل غير ذلك، وهذا يناقض قوله سبحانه وما مسنا من لغوب .

ويزيد هذا الذي فهمته مما ذكره في الأربعين وضوحا قوله في الإحياء: ما قسم الله بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي وكما ينبغي وبالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلا أحسن منه ولا أتم ولا أكمل، فهذا يدلك قطعا على أن ذلك الذي وجد من كل شخص بكل شخص قام به غاية ما تصل القدرة إليه وهو واجب الوجود على ما هو عليه لا يمكن شيء غيره ولا أن يكون على حالة غير حالته التي وجد عليها، أو أنه إن تحول من حالة كان على دونها في الحسن فيلزم عليه أن يكون كفر الكافر أحسن من إيمانه، ويزيده وضوحا ما بعده من قوله ولو كان أي في الإمكان أحسن منه وادخره مع القدرة ولم يفعله لكان بخلا يناقض الجود وظلما يناقض العدل .

ولا شك أن هذا إنما يكون كذلك ممن يتوجب عليه الحكم ليكون ثم من يوجب عليه أن يفعل غاية وسعه، فإن قصر عن ذلك مع القدرة عد بخيلا وجائرا وظالما، وأما من تم ملكه وكمل ملكه فإنه لا يجب عليه شيء ولا ينسب إلى ظلم وقد أطبق أهل السنة على هدم أصل المعتزلة في وجوب رعاية الأصلح الذي هذا الكلام شديد النزع إليه بل لا شك أنه عين القول به .



وقوله ولو لم يكن قادرا لكان عاجزا يناقض الأهلية هذا صحيح ولكنا نحيل هذا المدعي ونقول هو قادر على كل ممكن وهذا من جملة الممكنات; لأنه لا دليل على استحالته، وقوله: إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار.... إلى آخره، كلام صحيح في نفسه بالنسبة إلى ما أوجده سبحانه الآن، وأما أنه تعالى لا يقدر على التعريف بغير ذلك فلا والله، بل هو تعالى قادر أن يعرفنا جميع الأشياء المتضادة قبل كونها .

ثم ساق حديث أبي هريرة في نظر جبريل - عليه السلام - إلى الجنة وكيف حفها بالمكاره، وإلى النار وكيف حفها بالشهوات، ثم قال: ففي هذا أمران: أحدهما: أنه خلق كلا من الجنة والنار على أنقص مما هي عليه الآن فعلم بطلان قوله أنه إذا فعل ليس في الإمكان أن يفعل إلا نهاية ما تقتضيه الحكمة، وهذا كما خلق الأرض دون الرواسي ثم أنهاها إلى الحد الذي أراده وهو قادر على أعلى من ذلك، ولم يكن تأخيره لما أخر من بخل ولا عجز - تعالى الله عن ذلك - الثاني: أنه يمكن معرفة الشيء قبل إيجاده ومن ثم تعرف بطلان قوله: ولو لم يخلق الناقص لم يعرف الكامل، ولولا قوله: إن ذلك عدل فلا شك فيه، والفضل أوسع ولو جعل الأمر على غير ذلك لكان عدلا; لأنه لا يسأل عما يفعل، وأما كونه حقا لا لعب فيه بأن يجعل بدل الكفر الإيمان وبدل [ ص: 450 ] المعصية الطاعة ونحو ذلك، ولو جعل بدل إيمان المؤمن كفرا لكان ذلك حقا لا عيب فيه، ولو جعل بدل تنعيم الطائع عذابا لكان عدلا لا جور فيه، هذا دين الإسلام الذي لا ريب فيه، وإن كنا نعلم أنه لا يفعل ذلك; لأنه أخبر بخلافه وهو لا يبدل القول لديه .

وأما قوله في الإملاء: ليس في الإمكان أبدع صوره إلى. إلخ. فقد تقدم ما فيه، وقوله: وكيف يقضى عليه بالعجز فيما لم يخلقه اختيارا؟ ولم لم ينسب إليه ذلك قبل خلق العالم؟ ويقال: ادخار إخراج العالم من العدم إلى الوجود عجز مثل ما قيل فيما ذكرناه وما الفرق بينهما معناه أن قوله لو ادخره مع القدرة لزم عليه العجز يلزم عليه ذلك بعينه قبل إبداع هذا العالم، فإن اعتقاد المسلمين أن العالم حادث ولا شك أنه قبل إحداثه كان مؤخرا لإيجاده له مع القدرة عليه .

فإن قلت: إن كل تأخير يلزم عليك العجز لزمك وصفه بذلك في الأزل قبل خلق العالم وإلا فابن لقولك وجها، فأجاب بأن ذلك التأخير كان واقعا تحت الاختيار الممكن حيث إن للفاعل المختار أن يفعل وأن لا يفعل، يعني وتأخيره لأحسن منه ليس داخلا تحت القدرة; لأنه من قسم المحال الذي ليس من شأن القدرة أن تتعلق به وذلك لا يلزم عليه عجز; لأنه ليس من شأن القدرة أن تتعلق به ولا يلزم عليه بخل; لأنه لم يدخره مع القدرة عليه، هذا تقرير كلامه وهو ناقص; لأنه لو سلم لكان مخلا بما ألزم به من البخل وهو لازم في الأزل قطعا لو صحت دعواه وليس عنده جواب .

فإن سلم أن هذا العالم كان تحت الاختيار الممكن، وكان قد ادعى أن الادخار مع القدرة محال وإسقاط الشق الذي لا جواب عنه يرجح عندي أن هذا الكلام مدسوس عليه وليس من كلامه هذا لا يلزم لو سلم كلامه لكنه غير مسلم بل خلق عالم أبدع من هذا العالم ممكن ولا يثبت المحال بمجرد الدعوى بل على من يدعي البيان، وقوله: فإذا فعل ليس في الإمكان أن يفعل إلا نهاية ما تقتضيه الحكمة التي عرفنا أنها حكمة كلام يناقض الفعل بالاختيار فهو قطعا قول لم يقل إن الفعل ذاتي لا اختياري أو قول من يقول إن الفاعل الطبيعة لا الواحد القهار المتصرف المختار، وهم فريق من الفلاسفة، والأول قول القائلين منهم بقدم العالم بالزمان لا بالذات، ويكفي في رده أن الله تعالى خلق الأرض أولا دون الجبال فلما مادت أرساها بالجبال فسكنت، فلم يخلقها أولا على نهاية ما تقتضيه الحكمة، ولقد كان تعالى عالما بأنها تضطرب إذ خلقها ولكنه أخر ذلك لحكمة عظيمة منها تعليمنا أن لا نهتم بشيء من أمر الدنيا قبل الحاجة إليه بالفعل .

ومنها الرد على قائل هذه المقالة حتى لا تبقى شبهة في أن فعله بالاختيار يخلق الناقص والكامل ولا يسأل عما يفعل. هذا آخر ما نقض به البقاعي على الكتب الثلاثة .

وقد نحا نحوه الشيخ سيدي أحمد بن مبارك حيث قال في الرد على جواب الإملاء خاصة: إذا ثبت له الاختيار قبل الفعل فيثبت له حين الفعل وبعد الفعل سبحانه لا إله إلا هو، فإذا كان الاختيار هو السبب في تأخير وجود العالم فيجب أن يكون هو السبب في تأخير وجود الأبدع والإعراض عنه، وحينئذ فقوله: فليس في الإمكان إلا نهاية ما تقتضيه الحكمة يقتضي أن الاختيار مسلوب عند الفعل، وأنه تعالى عليه فعل ما تقتضيه الحكمة، وحينئذ فيقال لأبي حامد: فإذا كان الأبدع عدم تأخير وجود العالم فلم عدل عنه؟ فيقول: لا محالة، فيقال: إنما عدل عنه ليثبت له الاختيار، فيقال له: وكذا بعد الفعل إنما لم يجب فعل الأبدع ليثبت له الاختيار، فإن قال عند الفعل فيسلب عنه وقبله فيثبت له لزمه نفي وصف الاختيار الثابت له أزلا، وما ثبت قدمه استحال عدمه فهذه حجة واضحة على حجة الإسلام. اهـ .

قلت: كل منهما دندن حول الحمى ولم يحط بمراد المصنف ولا حام على ما هو بصدده، وقوله مأخوذ من قول الفقهاء: إن الأحكام تتبع المصالح الراجحة فجعل سائر الأفعال كذلك واقعة بحسب المصالح الراجحة من غير تعرض لنفي القدرة أصلا ولا لنفي الاختيار عند الفعل، فكل فعل أوجده الله تعالى دل إيجاده له على أن المصلحة في إيجاده أرجح منها في عدم إيجاده مع صلاحية القدرة قطعا عدم إيجابه، وكل ما لم يوجد دل عدم إيجاده له على أن المصلحة في عدم إيجاده أرجح منها في إيجاده مع قدرته قطعا على إيجاده .

هذا معنى كلامه في الإحياء وفي الإملاء، ومقصوده بذلك حث العبد على منتهى مقام التوكل الذي هذه المسألة مذكورة فيه، وعلى الرضا بكل قضاء الله تعالى كما دل عليه سياق صاحب القوت، ومساق كلامهما يدل على ما ذكرت حتى لا يأسى على شر أصابه ولا خير فاته، ومن ذا الذي يقول في شر أصابه أن القدرة لا تصلح لعدم إيجاده أو في خير فاته أنها لا تصلح [ ص: 451 ] لإيجاد هذا لا يقوله عاقل ولا مسلم ولا كافر، فإن أهل الملل اتفقوا على إثبات القدرة لله تعالى ولو تأملوا فيما ذكرناه أولا أن النفي في كلامه ليس منصبا على إمكان الوجود بل على قوله أبدع، لم يتوقفوا في فهم كلامه ولا جلبوا هذه العبارات التي لا طائل تحت أكثرها فإن النفي حينئذ وصف في صفات الممكن لا القدرة البتة .

ألا ترى أنك لو قلت: هذا الفعل ليس بحسن هل يكون في نفيك الحسن عنه قدح في القدرة أو تعرض لها بوجه من الوجوه لا فكذلك إذا قلت: هذا الممكن ليس بأبدع وها أنتم قد ادعيتم في الوجود أنه ليس بأبدع مما وجد فإن كان في قول المصنف قد تعرض للقدرة فهو في قولكم أيضا ويلزمكم ما يلزمه، وليس الأمر كذلك لا في قولكم ولا في قوله ما ينافى القدرة أصلا، وإنما النفي منصب على وصف من صفات الوجود أو الممكن لا تعرض فيه للقدرة أصلا .

ومن المعترضين من ادعى أنه ليس الكلام في أفراد ما يوجد في هذا العالم بل الكلام إنما هو في إمكان عالم آخر غير هذا العالم وهو ممنوع، بل الكلام إنما هو في الأول كما هو مساق كلام المصنف تعم كلام الفلاسفة في الثاني وليس هو مراد المصنف، ومن هنا جاء الغلط عليه فظنوا لاشتباه المقالتين أنهما تواردا على محل واحد وليس ذلك لا محلا ولا تصويرا ولا حكما .

وأما الجواب عن عدم ذكره في السؤال الذي تكلم عليه في الإملاء كلمة العدل واقتصاره على جملة الجود خاصة إما لكونه أبان لهم عن مراده بها حال التدريس أو عرفهم ذلك لكونهم من أهل الفطنة الزائدة والخبرة بمقاصد المصنفين والمناظرين فاستغنوا عن السؤال عنها، وإنما أوردوا عليه لزوم مثل ذلك من قبل إيجاد العالم فقط وطلبوا الفرق، فبين لهم فرق ما بين الحالين وأما إطلاق لفظ البخل الواقعة في حيز الامتناع فإنما أراد بها المصنف المبالغة في تقريب الدليل إلى الأذهان، فكأنه قال: لا شك في أن الباري تعالى جواد لا يبخل وهو منزه عن البخل، والجواد لا يخص بعطائه أحدا دون أحد إلا لحكمة. وقد قتر على أناس كما وسع على آخرين، فلو لم يكن تقتيره على أولئك لحكمة وأنه هو الأصلح في حقهم; لكان منافيا للجود والفضل وهو في حقه تعالى محال تنزه عما ينافي صفة الجود والإفضال، وأنت إذا تأملت ما قاله بعض العلماء في قوله تعالى: وما ربك بظلام للعبيد أن النكتة في العدول عن فاعل إلى فعال أن أدنى الظلم لو فرض صدوره من الباري تعالى لكان عظيما بالإضافة إلى جنابه، كما يقال: زلة العالم كبيرة، وجاء النفي بحسب ذلك، وتأملت قول المتنبي يخاطب بعض الكرام:

ما من إذا وهب الدنيا فقد بخلا

يريد أن ممدوحه تناهى في الكرم بحيث لو وهب جميع ما حوته الدنيا كان بالإضافة إلى ما يقتضيه مقامه بخلا، انحل عندك الإشكال في إطلاق هذه اللفظة .



فصل

ومن المنتصرين الإمام العارف المحقق الملقب بالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي - قدس سره - أورده في الفتوحات المكية وفي الفصوص وفي كتاب الشريعة، ولفظه في الفتوحات على ما نقله الشعراني في الأجوبة المرضية عن السادة الصوفية: أن كلام الغزالي في غاية التحقيق، فلا ينبغي الإنكار عليه; لأنه ما ثم إلا مرتبتان مرتبة قدم ومرتبة حدوث، فالمرتبة الأولى للحق تعالى وحده بإجماع جميع الملل، والمرتبة الثانية للخلق، فلو خلق تعالى ما خلق فلا يخرج عن رتبة الحدوث، فلا يقال هل يقدر الحق تعالى أن يخلق قديما يساويه في القدم; لأنه سؤال مهمل في غاية المحال. اهـ .

ووجدت بخط شيخنا المرحوم أبي المكارم محمد بن سالم بن أحمد الحفني - رحمه الله تعالى - ما نصه: قال سيدي عبد الوهاب الشعراني في الجواهر والدرر: سألت شيخنا - رضي الله عنه - عن قول الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان فإن بعض أئمة المغرب أفتى بكفر قائل ذلك، فقال - رضي الله عنه -: بلغنا عن الشيخ محيي الدين أنه كان يقول: من كفر الغزالي بذلك فهو غير مصيب، والجواب عن ذلك سهل وأنه ما ثم في الوجود إلا مرتبتان فالحق تعالى في مرتبة القدم، والخلق كلهم في مرتبة الحدوث، فلو خلق تعالى ما خلق فلا يخرج عن مرتبة الحدوث، فمراد الغزالي بنفي الأبدعية التحاق الحادث برتبة القديم وهذا غير ممكن. اهـ .

وقد نقضه الشيخ سيدي أحمد بن مبارك فقال: وهذا ليس من الجواب في شيء ولا نسبة بينه وبين مسألتنا بوجه ولا بحال، وإنما يصح أن يكون جوابا لو كان مدعى الغزالي أنه ليس في الإمكان أبدع من القديم ومدعى المنكرين عليه أن في الإمكان [ ص: 452 ] ما هو أبدع من القديم، فيكون الجواب عليه: أن الحديث لا يبلغ القديم أبدا، أما حيث كانت دعواه في مراتب الحدوث وأن ما وجد من الحوادث لا يمكن أن يوجد حادث أبدع منه، ودعوى المنكرين أنه يمكن أن يوجد ما هو أبدع منه وإلا لزم تناهي المقدورات، وذلك يستلزم القصور في القدرة المفضي للعجز فأنى يلاقيها ذلك الجواب اهـ .

قلت: جواب الشيخ الأكبر منتزع من عبارة المصنف في آخر جوابه في الإملاء وهو قوله: فما أكمل من حدث إلا قدمه. إلخ. فالأبدعية للقديم وليس في الإمكان أن يخلق أبدع منه; لأنه محال، والقدرة لا تتعلق إلا بالممكن ولو كان ممكنا وخلق لالتحقت المرتبة الثانية بالأولى ولزم منه صيرورة الحادث قديما، هذا الذي فهمته من عبارته، والفهوم تختلف .

وقد ذكر الشيخ في الفتوحات في السؤال التسعين عبارة أخرى تشبه سياق المصنف قال: المخلوق لا يعرف كماله ولا ما ينقصه; لأنه مخلوق لغيره لا لنفسه فالذي خلقه ما أعطاه إلا ما يصلح أن يكون له تعالى، والعبد يريد أن يكون لنفسه لا لربه، فلو علم أنه مخلوق لربه لعلم أن الله خلق الخلق على أكمل صورة تصلح لربه، وهذه المسألة مما أغفلها أصحابنا مع معرفة أكابرهم لها، وهي ما يحتاج إليها في المعرفة المبتدى والمنتهى والمتوسط، فلم يبق في الإمكان أبدع من هذا العالم ولا أكمل فما بقي في الإمكان إلا مثاله إلى ما لا نهاية له. اهـ .

وفيها أيضا في السؤال السادس والمائة: ما الرداء؟ الجواب: العبد الكامل المخلوق على الصورة الجامع للحقائق الإمكانية والإلهية، وهو المظهر الأكمل الذي لا أكمل منه الذي قال فيه أبو حامد ما في الإمكان أبدع من هذا العالم لكمال وجود الحقائق كلها فيه، وهو العبد الذي ينبغي أن يسمى خليفة ونائبا وله الأثر الكامل في جميع الممكنات وله المشيئة التامة وهو أكمل المظاهر. اهـ .

وفي حكمة الإشراق للسهروردي المقتول: ولا يتصور الوجود إلا كما هو عليه إذ لو تصور الوجود وأمكن أن يكون أحسن مما هو عليه لو وجد من الموجب لذاته لعدم البخل، قال الشارح وهو القطب الشيرازي: وهذا ما ذكره الغزالي في بعض كتبه ونقل عنه الشيخ الكامل محيي الدين في الفتوحات واستحسنه. اهـ .

وقد تعلق المعترضون بهذا أن كلام المصنف مبناه على كلام الفلاسفة وهو غلط، فإن مساق كلام المصنف غير مساق كلامهم ولاشتباه المقاتلين ظن الشارح المذكور أن الغزالي اقتبسه من كلامهم، ولا يتصور ذلك ولا يحكم عليه به، فتأمل .

وقال الشيخ الأكبر في الفصوص في الفص الأيوبي: فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم; لأنه على صورة الرحمن. اهـ. وقد اعترض عليه وأنه منتزع من كلام الفلاسفة، وليس ذلك بل هو منتزع من الكتاب والسنة، والمراد بالعالم الإنسان، قال الله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وفي الخبر المتقدم بذكره أن الله خلق آدم على صورته، والآية نص قاطع في أن الصورة التي خلق عليها الإنسان لا أبدع منها لما فيها من المحاسن والحكم .



فصل

ومن المنتصرين ابن القريسيني، قال البدر الزركشي في تذكرته أنه رأى له جزأ أفرده في الكلام على هذه العقدة، وقال معناه: تناهت القدرة في خلق هذا البشر أي: أن هذا البشر الذي هو زبدة المخلوقات غاية في إظهار كمال القدرة والتعبير عنها، وأراد بالبشر محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإنه الفاتح الخاتم، أي: روحه فإن أول ما خلق الله روح محمد ومنه تستمد الأرواح .



فصل

ومن المنتصرين العلامة بدر الدين محمد الزركشي من كبار أئمة الشافعية، قال السيوطي: بلغني أنه تكلم على هذه الكلمة في تذكرته فطلبته حتى وقفت عليه، فقال فائدة، قال الغزالي: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم; لأنه لو كان ممكنا ولم يفعله كان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة، وهذا من الكلمات العقم التي لا ينبغي إطلاق مثلها في حق الصانع، لكن الظن به أنه إنما أراد بها تعظيم صنعة الصانع، لا يصنع أحد صنعته ولا تنكر في بواطن الإبداع حكمته، فقد أوجد ما لا يمكن العقل إنكاره فليس في الإمكان ممكن أبدع من الإنسان لاشتماله على أحكام أنواع الوجود فهو في غاية الحكمة بالنسبة إلى إدراك العقول النيرة لا بالنسبة إلى عالم السر والخفية، الكامل المطلق الذي لا تنتهي أحكامه ولا تنفد عجائبه، فمراده ليس في الإمكان باعتبار ما تقتضيه العقول لا باعتبار ما في غيب الله تعالى، ولهذا قال تعالى: ويخلق ما لا تعلمون فحكم العارف على قدر إدراكه لا على قدر أحكام ربه، فإن الرب تعالى محيط بكل شيء وليس لأحد إحاطته بنوع من أنواعه من كل [ ص: 453 ] وجه، فإن لكل نوع أحكاما متعددة منها ما أطلع الله عليها خواص خلقه ومنها ما هو راجع له .

قال: ومنهم من قال معنى قوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان، إبداعه عين وجوده فليس غير ذلك يعني أنه ليس في الإمكان أبدع من وجوده، فإنه ممكن في نفسه وما استفاد إلا الوجود فلا أبدع في الإمكان من الوجود، وقد حصل فإنه ما يحصل للممكن من الحق سوى الوجود. اهـ .

وقد تعرض الشيخ سيدي أحمد بن مبارك لجوابه الأول الذي يقول فيه: ولعله إنما أراد تعظيم صنعة الصانع ما نصه: وذلك لأن الإله الحق سبحانه ثبت له الاختيار المطلق واستحال في حقه الظلم والبخل والعجز، فقوله في دليله السابق: " إذ لو كان أبدع من هذا العالم وادخره مع القدرة عليه لكان بخلا وظلما" مخالف لذلك، فعلى هذا فإذا كان هناك أبدع من هذا العالم ولم يفعله فذلك لكمال اختياره وتعاليه في عظمته وسلطانه لا لما قاله هنا من أن ذلك بخل وعجز وظلم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

قال: وفي قوله بالنسبة إلى إدراك العقول النيرة... إلخ، فيه نظر، فإن العقول النيرة تدرك في بداية نظرها جواز وجود ممكن أبدع، ولا تحتاج في ذلك إلى فكر وروية; لأن ذلك راجع إلى العلم بجواز الجائزات التي قيل: إنها نفس العقل، وقوله: فحكم العارف على قدر إدراكه، أقول: إن ذلك يدق ويخفى على غالب العقول، وأما الظاهر المبذول الضروري فلا فرق فيه بين عارف وغيره فمن وافقه وافق الصواب، ومن لا فلا .



فصل

ومن المنتصرين الشيخ عبد الكريم الجيلي صاحب "الإنسان الكامل" فإنه أجاب بأن كل واقع في الوجود قد سبق به العلم القديم فلا يصح أن يرقى عن رتبته في العلم الإلهي، ولا ينزل عنها، فصح قول الإمام: ليس في الإمكان أبدع مما كان، هكذا ذكره الشعراني في كتاب "الأجوبة المرضية" ووجدت بخط شيخنا المرحوم الشمس الحنفي - رحمه الله تعالى - هذا الجواب له أبسط مما هنا، وذلك أنه قال: سئل عن هذا القول فأجاب أنه قول صحيح; لأن ما كان قد تعلق به العلم القديم بلا شك، وما تعلق به العلم القديم لا يقبل زيادة أبدا إذ لو قبل الزيادة لقبلها العلم القديم ولا قائل به، فصح أنه ليس في علم الحق تعالى أبدع من هذا العالم. انتهى .

وهذا هو نص الشعراني في الجوهر والدرر، قال: وذكر الشيخ محيي الدين في الباب الثاني والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات نحو ذلك فقال في حديث: إن الله جميل يحب الجمال أي: إن الله صانع العالم كله في غاية الجمال ما فيه شيء من القبح قد جمع الله له الحسن كله والجمال، فليس في الإمكان أبدع ولا أحسن من هذا العالم، ولو أوجد تعالى ما أوجد إلى ما لا يتناهى فهو مثل لما أوجد; لأن الحسن الإلهي والجمال قد حازه وظهر به، فإنه تعالى أعطى كل شيء خلقه وهو جماله، إذ لو نقص شيء منه لنزل عن درجة كمال خلقه فكان قبيحا. اهـ .

وقد تعرض الشيخ سيدي أحمد بن مبارك لجواب الجيلي وهو النص الأول الذي أوردته أولا فقال: وهذا أيضا ليس بجواب لأنا نسلم أن كل واقع في الوجود لا يرقى عن رتبته في العلم ولا ينزل عنها، وذلك لا يستلزم أنه لا يمكن وجود أبدع منه وإنما يصح أن يكون جوابا لو كان كلام الغزالي هكذا: ليس في الإمكان أن يرقى الحادث عن مرتبته في العلم أو ينزل عنها. اهـ .

قلت: والذي فهمت من سياق عبارة الجيلي الثانية أن مراده إثبات الإبداعية لهذا العالم بسبب تعلق العلم الإلهي به الذي لا يتعلق إلا بالأجمل والأبدع، وهو لا يقبل الزيادة، فلا أبدع منه حينئذ بهذا الاعتبار فتأمل .



فصل

ومن المنتصرين الشريف المحدث نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله الحسني السمهودي الشافعي نزيل المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ومولده سنة 844 فإنه صنف رسالة سماها " إيضاح البيان لمن أراد الحجة على ليس في الإمكان أبدع مما كان" ناقض بها رسالة ابن المنير الإسكندري السابق ذكرها ولم أطلع عليها إلا أن الشيخ سيدي أحمد بن مبارك قد ظفر بها، قال: قد أطال نفسه فيها وكتب نحو ثلاثة وثلاثين ورقة بخط مضموم، وقد تصفحتها غاية وأعطيتها ما تستحقه من الإنصاف والتأمل فوجدتها دائرة على ثلاثة أمور: أحدها: المصادرة عن المطلوب، والثاني: ما وقع له من الغلط في القبح والحسن العقليين وهو أشد ما في رسالته شبهة، والثالث: عدم فهمه لكثير من كلام ابن المنير على الوجه الذي ينبغي، ثم ساق إيضاح هذه الأمور الثلاثة تركتها لطولها وكثرة الكلام عليها، وقد قال في آخر كلامه، وأما كونه لم يفهم مقاصد ابن المنير فإني لا أتعرض له لطول الكلام [ ص: 454 ] فيه إلا أني أقول قولا مقتصرا وهو أن غالب ما ذكره ابن المنير صحيح حق لا شك فيه وردوداته على عبارة الأحياء مستقيمة لا اعوجاج فيها وأجوبة السيد عنها غير تامة إلا حرفا واحدا فإني أخالف فيه ابن المنير وهو تنقصه من مقام أبي حامد وغضه من رتبته، فإني لا أوافق على ذلك، فإن أبا حامد إمام الدين والدنيا، وعالم الإسلام والمسلمين، والعبارة المنسوبة إليه في الإحياء مدسوسة عليه ومكذوبة، فإن كلامه في كتبه يردها من كل وجه .



فصل

ومن المنتصرين الشيخ الصالح العارف أبو عبد الله محمد بن عمر المغربي نزيل مصر وهو شيخ كل من الحافظ جلال الدين السيوطي وأبي النجا بن خالف اللقوي وعبد القادر بن حسين الشاذلي في التصوف، فإنه قال حين سئل عن هذه المقالة: إن معناه ليس في الإمكان أبدع حكمة من هذا العالم يحكم بها عقلنا بخلاف ما استأثر الحق تعالى بعلمه وإدراكه، وأبدعيته خاصة به تعالى، فإن ذلك أكمل وأبدع حسنا من هذا العالم الذي أظهر لنا، إذ لو كان هذا العالم يدخله نقص لتعدي ذلك إلى خالقه فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

وقد أجمع أهل الملل كلها على أنه لا يصدر عن الكامل قال تعالى: والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومعلوم أن الامتنان والامتداح لا يكون إلا فيما هو كامل الأوصاف وإلا فكيف يمتن الحق تعالى ويمتدح عند خلقه بمفضول. هذا نص الجواب في كتاب "الأجوبة المرضية" للشعراني، وذكره في "الجواهر والدرر" إلا أنه قال: فإن ذلك أكمل وأبدع حسنا من هذا العالم بالنسبة إليه تعالى وحده، فلو كان هذا العالم يدخله نقص ما قال تعالى: والسماء بنيناها بأيد الآية، في مقام الامتداح، واعلم أن الامتداح لا يكون إلا فيما هو غاية ونهاية لا في المفضول. اهـ .

وقد ساقه الشيخ سيدي أحمد بن مبارك كما سقناه أولا حرفا بحرف واعترضه فقال: وهذا إن سلم من التصحيف فليس بجواب أيضا .

أما أولا: فإنه متدافع، إذ أوله يقتضي نفي إمكانه مطلقا إذ لو ثبت إمكان الأبدع لكان هذا الموجود ناقصا بالنسبة إليه فيسري النقص إلى خالقه تعالى، وحينئذ فتحنا بما اقتضاه أول الجواب ونمنع ما اقتضاه آخره ولا نسلم لزوم النقص في الخالق سبحانه إذ لا يلزم من ثبوت النقص في المفعول ثبوته في الفاعل كما لا يخفى، وإلا فالحادث كله نقص لاحتياجه وافتقاره إلى خالقه، فلو كان نقص الفعل يسري إلى الفاعل لزم امتناع وجود الأبدع أيضا لنقصه بالحدوث .

وأما ثانيا: فالإجماع الذي عول عليه لا يعتمد في هذا الباب عليه; لأن المسألة راجعة إلى القدرة التي هي إحدى مصححات الفعل التي لا يمكن إثباتها بالإجماع كما لا يخفى .

وأما ثالثا: فالإجماع الذي هو حجة ومعتصم هو إجماع هذه الأمة الشريفة بالخصوص ولا عبرة بإجماع غيرها من الملل وهذه الأمة التي أثبتت لربها الاختيار وأن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد. اهـ .

قلت: وإن تأملت هذه الردودات وجدتها في معرض السقوط، أما أولا: فإن المجيب أشار بأول جوابه إلى مقام المعرفة لمعاني الصفات الذي هو من جملة مقامات الرضا، وهو مشاهدة الصانع في جميع الصنعة والنظر إلى إتقان الصنع والحكمة، وإن لم يخرج ذلك على معيار العقول والعادة فلا ينظر شيئا بعين النقص والاحتقار فإنه بمنزلة الغيبة لصانعه; لأنه صنعته ونتاج حكمته ونفاد عمله وحكم تدبيره له في كل شيء حكمة بالغة، لأنك إذا عبت صنعة أحد أو ذممتها سرى ذلك إلى الصانع; لأنه كذلك صنعها وعن حكمة أظهرها إذ كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها في خلقها، فهذا معنى قوله: لتعدى إلى خالقه، وهو كلام صحيح وقد مر تفسيره نقلا عن أبي طالب المكي وغيره .

فهذا مقام المحب الراضي عن الله متأدب بين يديه يستحي أن يعارضه أو يعترض عليه بنسبة النقص إلى ما صنعه، فانظر أين هذا المقام من قول المعترض، إذ لا يلزم من ثبوت النقص في الفاعل، فالمجيب في واد والمعترض في واد، وبين الواديين كما بين السماء والأرض، وأهل مشاهدة هذا المقام إنما ينظرون إلى ما أعطاهم الكشف الصحيح المطابق بمعيار عن اليقين، وإن لم يخرج على معيار العقول والعادة، وحينئذ ظهر لك أن لا تدافع في كلام المجيب، وقوله وإلا فالحادث كله ناقص. إلخ. هذا ممنوع بل كله كامل والكمال والنقصان من المتضايفات، فقد يكون الشيء كاملا من وجه ناقصا من وجه آخر، فهو بالنظر إلى أنه صنعة الحكيم القادر فإنه في غاية الإتقان والكمال ليس فيه نقص أبدا ويكفي في ثبوت كماله هذا القدر وبهذا الوجه، فبطل قوله [ ص: 455 ] فلو كان نقص الفعل يسري إلى الفاعل لزم امتناع وجود الإبداع وجود الإبداع لنقصه بالحدوث .

وأما ثانيا: فقول المعترض لأن المسألة راجعة إلى القدرة. إلخ .

قلت: بل المسألة راجعة إلى أول مقام المحبة الذي هو من مقامات الرضا، وأوسط حال في التوكل والتسليم والتفويض وكل منها من مقامات اليقين وأبواب الإيمان، ولا ذكر فيها للقدرة نفيا وإثباتا، فإن ادعيت أنها تفهم العجز في القدرة الإلهية فاقرأ صدر كلام المصنف يظهر لك إثباتها، فما من موحد لله تعالى معترف بربوبيته شاهد لوحدانيته إلا وهو معترف بكماله تعالى في ذاته وفي صنعه، مفوض إليه أمره مستسلم له .

فهذا هو الذي أراده المجيب بقوله: وقد أجمع أهل الملل على أن هذه الجملة ساقطة في سياق الجواهر والدرر كما قدمناه .

وأما ثالثا: فقوله وهذه الأمة أثبتت لربها الاختيار عن الفاعل المختار، بل يكون بالإيجاب بالذات كما تقوله الفلاسفة وليس كذلك، ومن أين يؤخذ لك منه، فالفاعل المختار كامل في ذاته وصفاته، وله الاختيار قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل، والكامل في ذاته وصفاته فاعل مختار وربك يخلق ما يشاء ويختار وصنعه الذي أظهره على وصف الكمال والتمام لا نقص فيه من حيث أنه صنعه، وهو القادر المطلق الصانع البديع المتقن لا إله إلا هو سبحانه وتعالى .



فصل

ومن المنتصرين الإمام المشهور شيخ الإسلام زكريا الأنصاري وهو ممن جمع الله له بين الفقه والتصوف، قال: لا يحل لأحد أن ينسب إلى أبي حامد القول بأنه تعالى عاجز عن إيجاد ما هو أبدع من هذا العالم، فإن هذا الفهم منشؤه توهم أن المراد بالإمكان في عبارته بمعنى القدرة، أي ليس في القدرة أبدع مما كان، وليس كذلك بل هو بمعناه المشهور المقابل للامتناع والإيجاب لكن بحذف مضاف أو بجعله بمعنى الممكن من باب إطلاق المصدر على اسم الفاعل، فمفاد عبارة حجة الإسلام أنه ليس في جانب الإمكان أو ليس في الممكن أبدع مما تعلقت به القدرة، وهو حق إذ الوجود خير من العدم، ومفاد عبارة المعتزلة ما صرحوا به من أنه تعالى لا يقدر على إيجاد أبدع مما فعله بكل أحد، وهو باطل عند حجة الإسلام كسائر أهل السنة لبنائه على وجوب الأصلح عليه تعالى وهو أصل باطل .

إلى أن قال: فعلم أن حجة الإسلام لم يرد بالإمكان في كلامه القدرة; لأنه لو أراد لرجع كلامه حينئذ إلى كلام المعتزلة، إلى أن قال: وبذلك علم أن اللفظ المذكور لا يحتاج إلى حمل وأنه لا ينبغي أن يقال دس عليه أو أنه زلة منه أو غير ذلك في هذا المقام فإنه من مزال الأقدام. اهـ .

وقد اعترضه الشيخ سيدي أحمد بن مبارك فقال: ولا يخفى ما فيه وما عول عليه في دفع المحال عن حجة الإسلام بحمل الإمكان على مقابل الوجوب، والامتناع لا يدفعه، فإن المحذور بحاله لأن المعنى حينئذ ليس في جانب الإمكان أو في الممكن أبدع مما كان فيلزم أن يكون الأبدع المفروض في جانب الامتناع لم تتعلق به القدرة، فيساوي قول من قال: لا يقدر على إيجاد الإبداع المفروض; لأن الإبداع إذا كان في جانب الامتناع فليس في القدرة إيجاده، فالمحال لازم على حمل الإمكان على معنى القدرة أو على معناه المشهور المقابل للإيجاب والامتناع وهو ظاهر، وقوله فمفاد عبارة حجة الإسلام أنه ليس في جانب الإمكان أبدع مما تعلقت به القدرة وهو حق إذ الوجود خير من العدم لا يدل على المدعى المذكور; لأنه ليس المدعى أن العدم أبدع من الوجود حيث يكون نفيه الذي هو كلام حجة الإسلام على ما أولته أيها المجيب، فإن الأبدع إذا لم يكن في جانب الإمكان ولزم أنه في جانب الامتناع لزم قطعا أن القدرة لا تتعلق بالممتنع فجاء المحذور اللازم، وقوله وبذلك علم. إلخ .

أقول إياك أن تغتر بهذا الكلام فإن غاية ما فيه أن الإمكان لا يحمل على القدرة بل على معناه المشهور، وقد علمت أن المحذور لازم عليهما، وقوله: بل هو الحق يجب اعتقاده على الوجه الذي قررته، أقول: حاش لله أن يعتقد أحد أن الأبدع لو كان مع القدرة عليه ولم يفعله لكان بخيلا، فإن هذا عين رعاية الصلاح، والأصلح الذي هو عين مذهب المعتزلة، وإنما الذي يجب اعتقاده أنه تعالى فاعل [ ص: 456 ] بالاختيار لا يسأل عما يفعل وربك يخلق ما يشاء ويختار ويخلق ما لا تعلمون ولا يحيطون به علما . اهـ .

قلت: كلام المجيب منتزع من الجواب الثاني الذي قرره الزركشي، وسبق بيانه وتوضيحه أن المراد بما تعلقت به القدرة هو العالم المشهود الموجود جميع أجزائه الروحانية والجسمانية والجوهرية والعرضية إذ بظهوره ظهرت آثار صفاته تعالى وأفعاله وأسمائه، ولذلك سموه صورة الحق وصورة الرحمن والإنسان الكبير، فكان بهذا المعنى أبدع ثم قال: وهو حق إذ الوجود خير من العدم، أي: لظهور المرجح وهو تعلق العلم والإرادة والقدرة به، وخلاف المعلوم وقوعه محال كما هو مقرر عندهم، وإبداع عالم غير هذا وإن كان ممكنا بالنظر إليه فليس بممكن بالنظر إلى علم الله تعالى لوقوع أحد الإمكانين وأحدية المشيئة فيه وما تعلقت المشيئة الإلهية بكونه فلا بد من كونه، وما لا بد من وقوعه لا يتصف بالإمكان بالنظر إلى هذه الحقيقة الحيثية .

وكلام صاحب الفتوحات نص في أن المرجح لا يفارق كلا من الوجود والعدم حيث قال في الباب السابع والأربعين وثلاثمائة أن الأشياء لما كان الإمكان لا يفارقها طرفة عين ولا يصح خروجها منه لم يزل المرجح منها لأنه لا بد أن يتصف بأحد الممكنين من وجود وعدم. اهـ .

يوضحه قوله تعالى: إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز أي ولا ينتفي الامتناع إلا عند إمكان الذهاب والإتيان بخلق جديد، لكنهما لم يقعا، بل الواقع الترجيح للوجود إلى الأجل المسمى مع النص أن الإمكان ما فارقه .

وكذلك قوله تعالى: إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا فإن المقدورية فرع الإمكان مع أن الواقع ترجيح الإبقاء. فتأمل .



فصل

ومن المنتصرين الحافظ الكبير جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي - رحمه الله تعالى - فإنه صنف كتابا في هذه المسألة وسماه "تشييد الأركان من: ليس في الإمكان أبدع مما كان" رد به على البرهان البقاعي تأليفه المتقدم ذكره، قال فيه: وبعد فقد نقل عن الإمام حجة الإسلام ولي الله تعالى أبي حامد الغزالي - رضي الله عنه - أنه قال: ليس في الإمكان أبدع مما كان، وقد استنكر ذلك بعض العلماء الموجودين وادعي أن ذلك إما مدسوس في كتابه أو زلة صدرت من عالم، وإن هذا الكلام يلزم منه استعجاز القدرة الإلهية واستقصارها كما يقول الفلاسفة أو وجوب الأصلح على الله كما يقوله المعتزلة، وألف في ذلك كتابا سماه "تهديم الأركان من: ليس في الإمكان أبدع مما كان" وذكر فيه أشياء مما لو عرض على أجهل السوقة لم يشك في صلاحية القدرة له فضلا عن طالب علم فضلا عن عالم فضلا عن مثل حجة الإسلام، ولما رأيت هذا الكلام من المنكر صادرا عن عدم الوقوف على مقصد حجة الإسلام تعجبت من ذلك كل العجب، وقد وقع الإلحاح علي في الكتابة بالرد عليه، وأنا أرى أن الأولى السكوت ولزوم البيوت حتى شرح الله صدري لا بأنه مقصد هذا الإمام بالطريق القويم رجاء الهداية إلى الصراط المستقيم، فرقمت هذه الأحرف وسميتها "تشييد الأركان من: ليس في الإمكان أبدع مما كان" .

ثم ذكر فيه أشياء نفيسة وتحقيقات بديعة، واستدل على المطلوب بكلام الأئمة وأحاديث وآثار وأحسن فيه غاية الإحسان، وقد أدرجت غالب ما أورده في أثناء ما تقدم من السياق على حسب المناسبة .

ومن جملة ما ذكر فيه: وكنت قد توقفت فيما استشكلوه من كلامه أياما حتى من الله علي بحله بعد التضرع إليه، فألهمني وله الحمد: أن حجة الإسلام - رضي الله عنه - إنما أراد تقرير الدليل على مذهب الفريقين معا ليتم له دعوى عدم الإمكان على المذهبين، فكأنه قال: هو محال إجماعا من الفريقين، أما على مذهب أهل السنة فلأن ادخاره مناف للفضل، وهو الذي عبر به عنه بالجود الإلهي وأما على مذهب المعتزلة فلأن ادخاره عندهم ظلم ينافي العدل فأتى بكل جملة لفريق وليس مراده بالجملتين التقرير على مذهب واحد، ونظير ذلك ما لو سئل الشافعي عن رجل توضأ ولم ينو ومسح القليل من رأسه فقال: وضوء باطل; لأنه لم ينو ولم يمسح ربع رأسه قاصدا بذلك بطلان وضوئه إجماعا، ولو اقتصر على قوله; لأنه لم ينو لكان كافيا لكنه لا ينتهض دليلا على الإبطال إلا على مذهبه فقط لا على مذهب الحنفي، فضم إليه ما يقرر إبطاله على مذهب غيره أيضا، ويؤيد أن هذا الذي فهمته هو مراد الغزالي أنه لم يذكر الجملتين إلا في الإحياء فقط، ولم يذكر في الجواهر جملة العدل بل اقتصر على جملة الفضل والجود التي يتم بها الدليل على مذهب أهل [ ص: 457 ] السنة إما اكتفاء بذلك وعدم الالتفات إلى مذاهب المبتدعة، وإما إرادة الإيجاز وإما إزالة للإيهام الذي توهمه عبارة الإحياء. اهـ .

وقد تعرض له الشيخ سيدي أحمد بن مبارك فقال: لو عبر حجة الإسلام كذلك لقرب الحال ولكنه قال: لو ادخره مع القدرة لكان بخلا يناقض الجود، وأهل السنة ينزهون ربهم عن وصفه بالبخل، فقد بان أن العبارة الأولى لا تأتى على مذهب أهل السنة، قال ابن التلمساني في شرح المعالم بعد ذكره مذاهب البغداديين من المعتزلة في وجوب رعاية الأصلح: وهؤلاء أخذوا مذاهبهم من الفلاسفة، وهو أن الله تعالى جواد وأن الواقع في الجود هو أقصى الإمكان ولو لم يكن جوادا، وقال ابن الهمام في المسايرة: إن المعتزلة يقولون: إن ترك مراعاة الأصلح بخل يجب تنزيه الباري عنه، فكما أن الشق الثاني مفرع على أصول المعتزلة كذلك الشق الأول. اهـ .

قلت: جواب السيوطي - رحمه الله تعالى - في غاية التحرير والإتقان وليس فيه إلا الذي أشار إليه المعترض من ذكر لفظ البخل، وهو قد أجاب عنه في كتابه المذكور ولو اطلع عليه المعترض لهدرت شقشقته وذلك فيما أوردته سابقا وهو قوله: وأما إطلاق لفظة البخل الواقعة في حيز الامتناع فإنما أراد بها الغزالي المبالغة في تقريب الدليل إلى الأذهان، فكأنه قال: لا شك أن الباري تعالى جواد وهو منزه عن البخل، والجواد لا يخص بعطائه أحدا دون أحد إلا لحكمة، وقد قتر على أناس كما وسع على آخرين، فلو لم يكن تقتيره على أولئك لحكمة وأنه هو الأصلح في حقهم لكان منافيا للجود والفضل وهو في حقه تعالى محال تنزه عما ينافي صفة الجود والإفضال .

وبقية هذا الكلام أسلفناها فاطلبها فيما تقدم، ثم قال: والعجب كل العجب ممن اتهم حجة الإسلام بأنه في هذه المسألة نازع إلى مذاهب المعتزلة، وهو قد صرح في كلامه بما يناقض مذهبهم حيث قال في صدر كلامه: وما خلق الله من إيمان وكفر وطاعة ومعصية. إلخ .

فانظر كيف نسب خلق الكفر والمعصية إلى الله تعالى كما هو مذهب أهل السنة، والمعتزلة لا يقولون بذلك بل يزعمون أنهما من خلق العبد كما هو معروف عنهم .



فصل

ومن المنتصرين ولي الله العارف به سيدي عبد الوهاب الشعراني - رحمه الله تعالى - قد نقلنا عنه فيما سبق جواب الشيخ محيي الدين والشيخ عبد الكريم الجيلي، ومحمد المغربي نقل ذلك في كل من كتابيه "الجواهر والدرر" و"الأجوبة المرضية" وقال في الكتاب الأخير بعد نقل الأجوبة ما لفظه: وقد ألف الشيخ برهان الدين البقاعي في هذه المسألة مؤلفا، وحاصله أنه بمعزل عن مراد الإمام الغزالي بكل وجه كما بينته في رسالة " الفتح بالأجوبة عن أهل الشطح" ، وفي كتابنا المسمى " بطهارة الجسم والفؤاد من سوء الظن بالله تعالى وبالعباد" وهو في مجلدين ضخمين. اهـ. ولم أطلع على الكتابين المذكورين حتى أنقل منهما شيئا .



فصل

ومن المنتصرين البرهان إبراهيم بن أبي شريف المقدسي وهو أخو الكمال وأصغر منه سنا، وعاش بعده زمنا طويلا قال ما نصه: وليس في مقالة حجة الإسلام إيجاب شيء ولا تحجر على القدرة ولا نفي لقدرته تعالى عن غير هذا العالم، بل هو قادر على إبراز عوالم لا نهاية لها، ولكن لتعلق العلم القديم ووقوع اختياره وإرادته لإيجاد ما اتصف بالإبداع لكونه دالا على ما اقتضته صفاته، وقوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان أي: ليس فيما تعلقت القدرة به وسبق به العلم والإرادة من الممكنات أبدع مما وجد لما قررناه. اهـ .

قال الشيخ سيدي أحمد بن مبارك: وفيه نظر من وجهين: أحدهما أنه جعل سبق العلم والإرادة دليلا على أن ما وجد هو الأبدع وهو لا يدل على ذلك، وإنما يدل على أن ما وجد وجد على علم وإرادة، وهل هو أبدع أو لا يبقى ما هو أعم، ثانيها: أنك قد علمت أن الأبدع لا نهاية لأفراده لكونه مقدورا، والمقدور لا نهاية له، وإذا كان الأبدع لا نهاية لأفراده لكونه مقدورا والمقدور لا نهاية له، وإذا كان الأبدع لا نهاية له فعلى تقدير أن تتعلق الأوصاف القديمة بوجود فرد في دائرة الإمكان ما لا يتناهى من أفراده، والمجيب ظن أن الأبدع جزء شخص لا تعدد فيه، فإذا فرض تعلق العلم والمشيئة بوجوده استحال غيره، وإلا كان العلم جهلا وحيث كان الأبدع كليا لا نهاية لأفراده لم يلزم من وجود فرد منها انتفاء غيره عن دائرة الإمكان .



فصل

ومن المنتصرين الشيخ أبو المواهب التونسي الشاذلي قال: قوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان قلنا: إمكان الإلهية لا إمكان القدرة الربانية وهذا هو اللائق بكلام حجة الإسلام. اهـ. قال الشيخ سيدي [ ص: 458 ] أحمد بن مبارك: لا نسلم أنه لا يمكن ذلك في الحكمة الإلهية، فإذا كانت متعلقات القدرة لا نهاية لها كانت الحكمة الإلهية لا نهاية لها; لأنها تابعة لمتعلقات العلم، ومتعلقات العلم لا نهاية لها، فلزم قطعا أن الحكمة الإلهية لها، ومن الذي يتجرأ على حكمة الله تعالى ويقول: إنها محصورة ومقصورة؟



فصل

ومن المنتصرين الإمام جلال الدين أبو البقاء محمد البكري الشافعي، فإنه سئل عن هذه المقالة فأجاب بقوله: إن إيجاد عالم آخر أبدع من هذا العالم مستحيل; لأنه لم يرد به الكتاب ولا السنة المبينة عن الله تعالى، ولو كان جائزا لورد به الكتاب، قال الله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء ، فعلم أن ذلك مستحيل ولا نقص في القدرة. اهـ .

قال الشيخ سيدي أحمد بن مبارك وفيه نظر من وجوه: إحداها: أن الكتاب والسنة قد وردا بذلك، وقد سبق ذلك في صدر الكلام يعني به ما أورده من الآيات التي أوردها البقاعي في رسالته وكذلك أورد جملا من الأحاديث، ثانيها: أن الكتاب والسنة إنما يستدل بهما في الأمور النقلية التي لا دخل للعقل فيها، وأما أحكام العقل الصرفة التي قيل أنها نفس العقل التي هي العمل بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات فهي من الأمور الضرورية التي لا يحتاج فيها إلى دليل نقلي. ثالثها: أن ما ذكره معارض بكل علم بديهي كعلمنا بأن الأربعة زوج وأنها نصف الثمانية، وأن الواحد نصف الاثنين، فيقال: إن هذه العلوم لم يرد بها كتاب ولا سنة فتكون مستحيلة; لأن كل ما ليس في الكتاب ولا في السنة مستحيل على قاعدة جوابه .



فصل

ومن المنتصرين العارف بالله أبو العباس أحمد بن أحمد بن عيسى البرنسي الشهير بزروق، قال: فيشرح القواعد للإمام حجة الإسلام عند قوله، ولا موجود سواء، إلا وهو حادث بفعله وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعدلها، فقال: يعني كل بارز بالقدرة وتخصص بالإرادة وأتقن بالعلم الإلهي لا يصح أن يكون ناقصا في وجوده لكمال الأوصاف المنسوب إليها بقصدها وتقصيدها، ثم التقبيح والتحسين العقلي في محله، والعادي في محله، والشرعي في محله; لأن ما ذكر بحسب الحكمة وظهور النسب بالنسبة إلينا، وعلى ما ذكر هنا يتخرج ما نسب إليه من قوله: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، يريدان ما كان ويكون إلى الأبد متى حصل في حيز فلا أبدع منه; لأن العلم أتقنه، ولا نقص في إتقانه، والإرادة خصصته ولا نقص في تخصيصها، والقدرة أبرزته ولا نقص في إبرازها، فبروزه على أبدع الوجوه وأكملها، وعلى هذا تفهم هذه الكلمة وإلا لزمه القول بقصور القدرة وما معها من الأوصاف، وذلك باطل لا يقوله أحمق فضلا عن عاقل. اهـ .

قال الشيخ سيدي أحمد بن مبارك: ولا يخفى فيه لو كان نقص الأثر يستلزم نقص المؤثر وأوصافه لكان وجود غير الأبدع مستحيلا ولكان وجود الأبدع واجبا، ذلك يجر إلى التعليل وينفي الاختيار، فالصواب أن ذلك اللزوم ممنوع، ووجود الأبدع وغيره جائز والاختيار شامل والقدرة عامة ولا نهاية لمتعلقاتها، هذا إن أراد اللزوم في نفس الأمر، وإن أراد بحسب عقولنا وما تقتضيه الحكمة في نظرنا فقد سبق ما فيه من كلام الزركشي.



فصل

ومن المنتصرين عبد القادر بن مصطفى الصفوري الدمشقي الشامي المتوفى سنة 1081 كتب إلى الإمام المحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سالم الحنبلي من مدينة نابلس سنة 1179، قال: أخبرنا المحدث المعمر عبد الرحمن بن محيي الدين بن سليمان الدمشقي، أخبرنا الإمام المؤرخ أمين الدين محمد بن فضل الله بن محب الله بن القاضي محب الدين أبي الفضل محمد بن أبي بكر العلواني المحمدي الدمشقي قال: قال العلامة عبد القادر بن مصطفى الصفوري: اعلم أن المحال على قسمين: محال لذاته ومحال لغيره، فإن الممكن قد يصير محالا لغيره وواجبا لغيره، مثاله: بعث الموتى من قبورهم ممكن في حد ذاته; لأنه إذا خلى العقل ونفسه حكم بجوازه، ولكن لما أخبره سبحانه صار واجب الوقوع بالنظر إلى أن خبر الله لا يختلف وعدمه صار محالا لغيره بهذا الاعتبار، فإذا تقرر ذلك علمت أن ما قاله حجة الإسلام حق وإيضاحه أنما هو بعد أن تعلم أن علم الله قديم وأنه تعلق في الأزل بأن الممكن الذي وجد يوجد في أي زمان وفي أي مكان وعلى أي صفة، وحينئذ فوقوعه على خلاف ما تعلق به العلم محال لغيره; لأنه لو وقع على خلاف ذلك لزم انقلاب العلم جهلا وأنه محال في حق الحكيم الخبير العليم القدير، والإرادة والقدرة [ ص: 459 ] تعلقها بالممكن إنما يكون على وفق تعلق العلم القديم به، وحينئذ تعلم أن عدم إمكان أبدع مما كان ليس فيه نسبة من الجهل ولا نسبة العجز إلى الملك الديان، وكيف ذلك بحجة الإسلام الذي ملأت معلوماته الدنيا، بل عدم إمكانه إنما هو لعدم تعلق الإرادة والقدرة بما يلزم عليه من المحال فتدبر ذلك ليندفع عنك خيال أوهام من لم يعلموا مواقع الكلام ولم يذوقوا دقائق العلوم، فكل مطمح أنظارهم اعتراض أكابر العلماء والطعن على ورثة الأنبياء، كأنهم صاروا لهم ضدا فصرف الله أذهانهم عن الوصول إلى غوامض المعاني وتمسكوا بظواهر المباني، ومن أجاب بأن ما موصولة لم يصادف محلا; لأن المنقول عن الإمام أنه قال ليس في الإمكان. إلخ وليس هو إلا ليس. اهـ .

فهذا ما بلغني من كلام الأئمة في تحقيق هذه المقالة ردا وتسليما، ولم آل جهدي في جمعها وحسن ترتيبها مع الكلام في بعض المواضع منها، والكلام فيها كثير، وما غاب عني أكثر مما حضر لدي، ولكن قليل يوعي خير من كثير ينسي .

ولقد عن لي أن أنحو منحى الكرام وأدلي دلوي مع هؤلاء الأعلام، وإن كنت مزجي البضاعة سكيتا مخلفا عند أرباب هذه الصناعة فأقول ناظرا إلى سياق المصنف من أوله منتبها لسرائره في خصوص هذا المقام: اعلم أنه يستحيل انفكاكه عنه وأما الفلاسفة فإنهم قالوا: إيجاده للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته فيمتنع خلوه عنه فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور لاعتقادهم أنه نقصان، وأثبتوا له الإيجاب زعما منهم أنه الكمال التام، وأما كونه تعالى قادرا بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل فهو متفق عليه بين الفريقين، إلا أن الحكماء ذهبوا إلى أن مشيئة الفعل الذي هو الفيض والوجود لازمة لذاته كلزوم سائر الصفات الكمالية، فيستحيل الانفكاك بينهما فمقدم الشرطية الأولى واجب صدقه، ومقدم الثانية ممتنع الصدق، وكلتا الشرطيتين صادقتان في حق الباري سبحانه، وأما الصوفية - قدس الله أسرارهم - فيثبتون له تعالى إرادة ذاتية زائدة على الذات والعلم بالنظام الأكمل واختيارا في إيجاد العالم لكن لا على النحو المذكور من اختيار الخلق الذي هو تردد واقع بين أمرين كل منهم ممكن الوقوع عنده فيترجح عنده أحدهما بمزيد فائدة أو مصلحة يتوخاها .

فمثل هذا يستنكر في حقه سبحانه كما تقدم بيان ذلك في تقرير المصنف قبل هذه المقالة، فإنما معلوماته تعالى سواء قدر وجودها أو لم تقدر مرتسمة في عرصة الإمكان أزلا وأبدا ومرتبة ترتيبا لا أكمل منه في نفس الأمر، وإن خفي ذلك على الأكثرين فالأولية بين أمرين يتوهم وجود كل منهما إنما هو بالنسبة إلى المتوهم المتردد، أما في نفس الأمر فالواقع واجب وما عداه مستحيل الوجود وعلى هذا تخريج هذه المقالة، فتدبر، والله أعلم .



تنبيه

قال الشيخ سيدي أحمد بن مبارك في آخر كلامه على هذه المقالة: فالحاصل أن ما نسب إليه في المسألة إن كان دليله الظلم المناقض للعدل فقد نفاه في مواضع من كتابه الإحياء، وإن كان دليله البخل فقد نفاه في كتابه الاقتصاد، وإن كان دليله على أنه يخالف الحكمة فقد أبطله في الإحياء وفي الاقتصاد، وإن كان دليله الاستحسان العقلي ومراعاة الصلاح والأصلح فقد أبطله فيهما وفي القسطاس، وإن كان دليله الاستحسان المتفق عليه الذي عول عليه السيد السمهودي فقد أبطلناه فيما سبق، وإن كان دليله ما سبق في العلم والمشيئة كما عول عليه المذكور أيضا فقد ذكرنا أنه مصادرة على المطلوب، وإن كان دليله أن الناقص لا يصدر عن الكامل فقد بينا بطلانه فيما سبق. اهـ .

وقد فهم من كلامه أن المسألة باطلة بسائر وجوهها وليس لها موضع عند أهل العلم تحمل عليه، وأنه محكوم عليها بالفساد وهو أمر عجيب ولو فتحت له كوة إلى عالم الملكوت لشاهد ما شاهده الصالحون ويكشف له من أسراره ما كشف للعارفين، وقد فهموا قوله تعالى: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وعقلوا قول المبلغ - صلى الله عليه وسلم -: إن الله كره لكم البيان كل البيان. فحقيقة بيان البيان محرم عند ذوي الإيقان، ومقام الصالحين يقصر عن شهادة الشاهدين، وقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول: اللهم أرنا الدنيا كما تراها، فقال: لا تقل هكذا، فإن الله لا يرى الدنيا كما تراها، ولكن قل: اللهم أرني الدنيا كما يراها الصالح من عبادك، فالصالحون في الغرفات آمنون والشهداء عند ربهم والله غالب على أمره، لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يشك هو ولا نحن ولا من له نصيب من الإيمان أن الإمام أبا حامد الغزالي من [ ص: 460 ] أكابر أهل الباطن، وهذه المقالة قد نسبت إليه واعتاص في فهمها أهل الظاهر، فالأولى التسليم له إذ ليس أهل الظاهر حجة على أهل الباطن في شيء إلا وهم عليهم حجة في مثله .

والإيمان ظاهر وباطن والعلم محكم ومتشابه ولأن أهل الباطن أبعد عن الهوى وأقرب إلى التوفيق وأوفق لإصابة الحقيقة لزهدهم في الدنيا ولضعف شاهد غلبة النفس والهوى عليهم وهذا لا يفطن له الغافلون ولا يشهده العمون .

وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى يقول: إذا لاحظت الأشياء من فوق وجدت لها طعما آخر، وقال بعض العارفين: إذا رأيت الأشياء كلها كشيء واحد من معدن واحد بعين واحد رأيت ما لم تر قبل ذلك، وسمعت ما لم تسمع، وفهمت ما لم تفهم الخلق، وقال بعضهم: لا ترى العجب حتى لا ترى عجبا فإذا لم تر عجبا رأيت العجب .

وقد أفدناك بحمد الله تعالى من غرائب ما عندنا وإلى الله يرد العلم فيما دق وجل وظهر واستتر، وإنما ينطق اللسان بما أنطقه الله به وهو مستعمل بما استعمله الله به، إذ كل ميسر لما خلق له .

وقد انتهى الكلام على مقالة الإمام إنجازا لما وعدنا به آنفا، فأسأل الله تعالى أن يصرف عنا الكدورات ويحمينا من مضلات الأهواء في مجاري المقدورات، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد سيد البشر وعلى آله وصحبه أولي العزم والظفر، وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونسأله الصفح الجميل .




الخدمات العلمية