الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها : أن يكون مستهترا بذكر الله تعالى : لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه فمن أحب شيئا أكثر بالضرورة من ذكره وذكر ما يتعلق به ؛ فعلامة حب الله حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب كل من ينسب إليه : فإن من يحب إنسانا يحب كلب محلته فالمحبة إذا قويت تعدت من المحبوب إلى كل ما يكتنف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه ، وذلك ليس شركة في الحب فإن من أحب رسول المحبوب ؛ لأنه رسوله وكلامه ؛ لأنه كلامه فلم يجاوز حبه إلى غيره ، بل هو دليل على كمال حبه ، ومن غلب حب الله على قلبه أحب جميع خلق الله ؛ لأنهم خلقه فكيف لا يحب القرآن والرسول وعباد الله الصالحين ؟! وقد ذكرنا تحقيق هذا في كتاب الأخوة والصحبة ؛ ولذلك قال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم : أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لله تعالى وقال سفيان : من أحب من يحب الله تعالى فإنما أحب الله ومن أكرم من يكرم الله تعالى فإنما ، يكرم الله .

وحكي عن بعض المريدين قال : كنت قد وجدت حلاوة المناجاة في سن الإرادة : فأدمنت : قراءة القرآن ليلا ونهارا ثم لحقتني فترة : فانقطعت عن التلاوة ، قال : فسمعت قائلا يقول في المنام : إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي ؟! أما تدبرت ما فيه من لطيف عتابي ؟! قال فانتبهت : وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالي .

وقال ابن مسعود لا ينبغي أن يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن ، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله : عز وجل : وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله .

وقال : سهل رحمة الله تعالى عليه : علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب الله وحب القرآن حب النبي : صلى الله عليه وسلم ، وعلامة حب النبي : صلى الله عليه وسلم : حب السنة ، وعلامة حب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زادا وبلغة إلى الآخرة .

التالي السابق


(ومنها) أي: من علامات حب العبد لله تعالى (أن يكون مستهترا بذكر الله تعالى) أي: مولعا به (لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه) بل يكون القلب موافقا للسانه في حال الذكر (فمن أحب شيئا أكثر بالضرورة من ذكره) كما ورد في الخبر: من أحب شيئا أكثر من ذكره. رواه صاحب الحلية من حديث عائشة، وقد تقدم، وكثرة الذكر دليل محبة المذكور للذاكر، وهو من أفضل منته على خلقه، وفي الخبر: إن لله تعالى في كل يوم صدقة يمن بها على خلقه، وما تصدق على عبد بصدقة أفضل من أن يلهمه ذكره. وروى سفيان عن مالك بن مغول، قيل: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: اجتناب المحارم، ولا يزال فوك رطبا من ذكر الله. ويروى: أكثروا من الذكر، حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون. وفي حديث أبي سلمة عن أبيه عن جده: ومن أكثر ذكر الله أحبه الله (و) كذلك من أحب شيئا أكثر من (ذكر ما يتعلق به؛ فعلامة حب الله حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه) وتكريره على الأسماع والقلوب (وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم-) الذي هو حبيبه وصفيه، وكذا حب سائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام؛ لأن الفضائل المتواترة عنهم موجبة للمحبة، ويجب حب الملائكة لشرفهم في ذواتهم ولما أصلح الله بهم الأنبياء ونفع بهم العباد، ويستحب حب الطاعة التي هي خدمة، ويتأكد الاستحباب للأولياء الذين هم خاصة، وكذا للمؤمنين على حسب درجاتهم؛ قال تعالى: يحبون من هاجر إليهم (و) كذا (حب كل من ينسب إليه) أي: إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالولادة، وكذا إليهم بالنسب الظاهر، أو الباطن (فإن من يحب إنسانا يحب) كل ما يتعلق به حتى يحب (كلب محلته) وقصة مجنون بني عامر مع كلب وقع بصره عليه فأحبه، وجوابه لمن سأله عن ذلك بأنه رآه مرة في حي ليلى، وقوله:

أحب لحبها سود الكلاب

مشهورة؛ فهذا الذي ذكره كله مما يتعلق بحب الله تعالى [ ص: 622 ] (فالمحبة إذا قويت تعدت من المحبوب إلى كل ما يكتنف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه، وذلك ليس شركة في المحبة) وكمال المحبة يقتضي رفع الاشتراك (فإن من أحب رسول المحبوب؛ لأنه رسوله و) أحب (كلامه؛ لأنه كلامه فلم يجاوز حبه إلى غيره، بل هو دليل على كمال حبه، ومن غلب حب الله على قلبه) وغمره بكليته (أحب جميع خلق الله؛ لأنهم خلقه) وتصنيفه وإبداعه (فكيف لا يحب القرآن والرسول وعباد الله الصالحين؟!) إلا أن المحبة في بعض الأفراد المذكورة بالوجوب كالقرآن والرسول وسائر الأنبياء والملائكة، وفي بعضها بالاستحباب كجميع المؤمنين على درجاتهم والطاعة، وفي بعضها يتأكد الاستحباب كحب خواص العباد من الأولياء والصالحين (وقد ذكرنا تحقيق هذا في كتاب الأخوة والصحبة؛ ولذلك قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) فإن قلت: فلم لا كانت محبة الطاعة واجبة وكذا محبة الأولياء؟ فأقول: الوجوب مبني على أصل الإيمان لا على كمال الإيمان، ولا تتقوى المحبة حتى تتعدى إلى ما يتعلق بالمحبوب إلا بكمال الإيمان، وذلك لو وقعت الطاعة بباعث الخوف أو الرجاء قام الإجماع على صحتها وقبولها، وفيما ذكرناه نظر لتجاذب المسألة بين ما قلناه وبين أن الطاعة فرع المحبة، والمحبة واجبة، وعسى الله أن يكشف عن الحق في ذلك، فإن قلت: هذا يدل على أن بعض المؤمنين ليس بحرام، فأقول: نفس البغض مكروه وبعضه أشد كراهة من بعض على حسب درجة الولي لكن للبغض آثار باطنة وآثار ظاهرة، فلو طلب زوال النعمة عنه بسبب بغضه حرم عليه ذلك، ولو تكلم بما ينقصه أو يقدح في عرضه حرم عليه ذلك، وبعض هذه المهلكات أقبح من بعض (وقال -صلى الله عليه وسلم-: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لله تعالى) رواه الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ: وأحبوني لله، وأحبوا أهل بيتي لحبي. وقد تقدم (وقال سفيان: من أحب بالله تعالى فإنما أحب الله، ومن أكرم بكرم الله تعالى فإنما يكرم الله تعالى) نقله صاحب القوت إلا أنه قال: وقال سفيان وغيره: من أحب الله تعالى فإنما أحب الله .. إلخ (وحكي عن بعض المريدين قال: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة في سن الإرادة) أي: في أول السلوك ونشاطه (فأدمنت) أي: داومت على (قراءة القرآن ليلا ونهارا ثم لحقتني فترة) أي: سكون (فانقطعت عن التلاوة، قال: فسمعت قائلا يقول في المنام: إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي؟! أما تدبرت) ولفظ القوت: أما ترى (ما فيه من لطيف عتابي؟! قال: فانتهيت، وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حال) الأولى من الإدمان على التلاوة. نقله صاحب القوت، زاد: وقال بعض العارفين: لا يكون العبد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد (وقال ابن مسعود) -رضي الله عنه-: (لا ينبغي أن يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله -عز وجل- وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله. وقال: سهل) التستري (رحمة الله تعالى عليه: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب الله وحب القرآن حب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلامة حب النبي -صلى الله عليه وسلم- حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زادا وبلغة إلى الآخرة) نقله صاحب القوت .




الخدمات العلمية