الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها : أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه فيواظب على التهجد ويغتنم هدء الليل : وصفاء الوقت بانقطاع العوائق : وأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب والتنعم بمناجاته ، فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته قيل ؟! لإبراهيم بن أدهم وقد نزل من الجبل : من أين أقبلت .

؟ فقال : من الأنس بالله وفي أخبار داود عليه السلام لا تستأنس إلى أحد من خلقي ؛ فإني إنما أقطع عني رجلين رجلا : استبطأ ثوابي فانقطع ، ورجلا نسيني فرضي بحاله ، وعلامة ذلك أن أكله إلى نفسه وأن أدعه في الدنيا حيران ومهما أنس بغير الله كان بقدر أنسه بغير الله مستوحشا من الله تعالى ساقطا عن درجة محبته وفي قصة برخ وهو العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام إن برخا نعم العبد هو لي إلا أن فيه عيبا ، قال يا رب ، وما عيبه فقال : يعجبه نسيم الأسحار فيسكن إليه ، ومن أحبني لم يسكن إلى شيء وروي أن عابدا عبد الله تعالى في غيضة دهرا طويلا : فنظر إلى طائر ، وقد عشش في شجرة : يأوي إليها : ويصفر عندها : فقال : لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر ، قال : ففعل : فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان : قل لفلان العابد : استأنست بمخلوق ؟! لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبدا .

فإذا علامة المحبة كمال الأنس بمناجاة المحبوب ، وكمال التنعم بالخلوة به وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقا بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته ، وهو في الصلاة فلم يشعر به ومهما غلب عليه الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم بل يستغرق الأنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مرارا مثل العاشق الولهان ؛ فإنه يكلم الناس بلسانه ، وأنسه في الباطن بذكر حبيبه .

فالمحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه وقال قتادة في قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب قال : هشت إليه واستأنست به وقال الصديق : رضي الله تعالى عنه : من ذاق من خالص محبة الله شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر .

وقال مطرف بن أبي بكر المحب لا يسأم من حديث حبيبه ، وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : قد كذب من ادعى محبتي ، إذا جنه الليل نام عني ، أليس كل محب يحب لقاء حبيبه ؟! فها أنا ذا موجود لمن طلبني وقال موسى عليه السلام : يا رب أين أنت فأقصدك ؟ فقال : إذا قصدت فقد وصلت ، وقال يحيى بن معاذ من أحب الله أبغض نفسه ، وقال أيضا : من لم تكن فيه ثلاث خصال فليس بمحب : يؤثر كلام الله تعالى على كلام الخلق ، ولقاء الله تعالى على لقاء الخلق ، والعبادة على خدمة الخلق .

التالي السابق


(ومنها) أي: ومن علامات المحبة (أن يكون أنس بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه فيواظب على التهجد) وهو قيام الليل (ويغتنم هدء الليل) أي: سكونه (وصفاء الوقت بانقطاع العلائق) أي: الموانع (وأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب والتنعم بمناجاته، فمن كان النوم والاشتغال بالحديث الذي عنده أطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته؟!) وفي الحديث القدسي: [ ص: 623 ] كذب من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني. إلا أن بعضهم جعل سهر الليل في مقام بعينه، فذكر له هذا الخبر، فقال: ذاك إذا أقامه مقام الشوق، فأما إذا أنزل عليه السكينة وآواه بالأنس في القرب استوى نومه وسهره، ثم قال: رأيت جماعة من المحبين نومهم بالليل أكثر من سهرهم، وأما المحبوبون وسيد المحبوبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان ينام مثل ما يقوم، وقد يكون نومه أكثر من قيامه ولم تكن تأتي عليه ليلة حتى ينام فيها (قيل لإبراهيم بن أدهم) -رحمه الله تعالى- (وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت؟ فقال: من الأنس بالله) يشير إلى أنه كان في خلوته مع الله تعالى ومناجاته به، وقال أحمد بن أبي الحواري: دخلت على أبي سليمان الداراني فرأيته يبكي، فقلت: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: ويحك يا أحمد! إذا جن هذا الليل وافترش أهل المحبة أقدامهم وجدت دموعهم على خدودهم أشرف الجليل الجبار جل جلاله عليهم، فقال: بعيني من تلذذ بكلامي واستراح إلى مناجاتي، وإني مطلع عليهم في خلواتهم أسمع أنينهم وأرى مكانهم، يا جبريل ناد فيهم: ما هذا البكاء الذي أراه فيكم؟! هل خبركم عني مخبر أن حبيبا يعذب أحبابه بالنار؟ بل كيف يجمل بي أن أرهب قوما بالعذاب إذا جنهم الليل تملقوا بي، فبي حلفت إذا وردوا القيامة أن أسفر لهم عن وجهي وأبيحهم رياض قدسي (و) يروى (فى أخبار داود عليه السلام) قال الله تعالى: يا داود (لا تأنس إلى أحد من خلقي؛ فإني إنما أقطع عني رجلين: رجلا استبطأ ثوابي فانقطع، ورجلا نسيني فرضي بحاله، وعلامة ذلك أن أكله إلى نفسه وأن أدعه في الدنيا حيران) نقله صاحب القوت (ومهما أنس بغير الله كان بقدر أنسه بغير الله متوحشا من الله تعالى ساقطا عن درجة محبته) وقالوا: الاستيحاش من الخلق علامة الأنس بالخالق، وقال سهل -رحمه الله تعالى-: جناية المحب عند الله أشد من معصية العامة، وهو أن يسكن إلى غير الله ويستأنس بسواه (و) يروى (فى قصة برخ) بضم الموحدة وسكون الراء وآخره خاء معجمة، وهو اسم سرياني (وهو العبد الأسود الذي استقى به موسى -عليه السلام- أن الله تعالى قال لموسى) -عليه السلام- (إن برخ نعم العبد) و (هو لي إلا أن فيه عيبا، قال) موسى (يا رب، وما عيبه؟ قال: يعجبه نسيم الأسحار فيسكن إليه، ومن أحبني لم يسكن إلى شيء) نقله صاحب القوت، وقال: فالسكون في هذا الموضع الاستراحة إلى الشيء والأنس به، والسكون في غير هذا الموضع النظر إلى الشيء والإدلال به والطمأنينة والقطع به، قال: وذكرت هذه الحكاية لبعض أهل المعرفة، فقال: لم يرد بهذا برخ إنما أراد به موسى؛ لأنه أقامه مقام المحبة فاستحيا أن يواجهه بذلك، أي وهو قد سمح لبرخ بذلك؛ إذ لم يوافقه عليه، فعرض عليه ببرخ، أي؛ لأنه عالم، وكان هذا جوابا منه، ثم إني سألته: لم أخبر موسى بعيبه، وهو يجيبه دون أن يخبره هو بعيب نفسه؟ فأجاب بهذا قال: فالمقربون من المحبين إنما نعيمهم بالله وروحهم وراحتهم إليه من حيث كان بلاؤهم منه، فإذا وجدوا ذلك في سواه كانت ذنوبا لهم عن غفلة أدخلت عليهم ليتوبوا منها إليه فيغفر لهم (ويروى أن عابدا عبد الله تعالى في غيضة دهرا طويلا) أي: زمانا، والغيضة المكان الملتف شجره (فنظر إلى طائر، وقد عشش في شجرة) أي: اتخذ عليها عشا (يأوي إليها) أي: إلى تلك الشجرة (ويصفر عندها) أي: يصوت بالصفير (فقال: لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر، قال: ففعل) أي: حول مسجده إليها (فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان: قل لفلان العابد: استأنست بمخلوق؟! لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبدا) نقله صاحب القوت، ورواه البيهقي في الشعب عن أحمد بن أبي الحواري، قال: سمعت أخي يقول: تعبد رجل من بني إسرائيل في غيضة في جزيرة في البحر أربعمائة سنة فطال شعره، حتى إذا كان في الغيضة تعلق بأغصانها بعض شعره، فبينما هو ذات يوم يدور إذا مر بشجرة فيها وكر طائر، فنقل موضع مصلاه إلى قريب منها، قال: فنودي: أنست بغيري؟! وعزتي وجلالي لأحطنك مما كنت فيه درجتين (فإذا علامة المحبة) الصادقة الخالصة (كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعم به بالخلوة به) والانقطاع إليه بوجود نسيم الأنس به ومصادقة الاستراحة والروح منه بمحادثة في المجالسة ومناجاة في الخلوة وتملق في السريرة (وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة) ثم ذوق حلاوة النعيم في ترك المخالفة لغلبة حب الموافقة ثم الطمأنينة وعكوف الهم على القريب ودوام النظر [ ص: 624 ] إلى الرقيب، فمن عرفه أحبه، ومن أحبه نظر إليه، ومن نظر إليه عكف عليه؛ دل على ذلك قوله تعالى: وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا (وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقا بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه) ويناغيه (وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به) تقدم في كتاب الصلاة (وقطعت بعضهم بسبب علة) الأكلة (أصابته، وهو في الصلاة فلم يشعر به) وهو عروة بن الزبير، وقد تقدم أيضا (ومهما غلب عليه الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عين) له (تدفع جميع الهموم) فلا يشعر بشيء يرد عليه (بل يستغرق الأنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تتكرر على سمعه مرارا فيظن الناس به بلها وغفلة مثل العاشق الولهان؛ فإنه يكلم الناس بلسانه، وأنسه في الباطن بذكر حبيبه) وما يتعلق به (فالمحب) الصادق (من لا يطمئن إلا بمحبوبه) ولا يستأنس إلا بذكره (وقال قتادة) بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري التابعي (في قوله تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب قال: هشت إليه واستأنست به) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وقال مجاهد: ألا بذكر الله تطمئن القلوب بمحمد وأصحابه. رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وفي حديث أنس: هل تدرون ما معنى ألا بذكر الله تطمئن القلوب ؟ قال: ذلك من أحب الله ورسوله وأحب أصحابي. رواه أبو الشيخ، وفي حديث علي قال: ذلك من أحب الله ورسوله وأحب أهل بيتي صادقا غير كاذب، وأحب المؤمنين شاهدا وغائبا، ألا بذكر الله يتحابون (وقال) أبو بكر (الصديق -رضي الله عنه-: من ذاق خالص محبة الله شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر) قد تقدم (وقال مطرف بن أبي بكر) هكذا في سائر نسخ الكتاب، والصواب: مطرف أبو بكر، وهو مطرف بن طريف الحارثي، كنيته أبو بكر من أهل الكوفة، قال أحمد وأبو حاتم ثقة مات سنة 143 روى له الجماعة (المحب لا يسأم من حديث حبيبه، وأوحى الله إلى داود -عليه السلام-: قد كذب من ادعى محبتي، إذا جنه الليل نام عني، أليس كل محب يحب لقاء حبيبه؟! فها أنا ذا موجود لمن طلبني) وكذلك رواه كعب الأحبار من التوراة، ويروى عن أبي الدرداء رفعه: يقول الله تعالى: من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني. وقد تقدم (وقال موسى -عليه السلام-: يا رب أين أنت فأقصدك؟) ولفظ القوت: فأقصد قصدك (فقال:) ولفظ القوت: فأوحى الله إليه (إذا قصدت فقد وصلت، وقال يحيى بن معاذ) الرازي -رحمه الله تعالى-: (من أحب الله أبغض نفسه، وقال أيضا: من لم تكن فيه ثلاث خصال فليس بمحب: يؤثر كلام الله تعالى على كلام الخلق، ولقاء الله تعالى على لقاء الخلق، والعبادة على خدمة الخلق) .




الخدمات العلمية