الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال ذو النون سبحان من جعل الأرواح جنودا مجندة ، فأرواح العارفين جلالية قدسية ، فلذلك اشتاقوا إلى الله تعالى ، وأرواح المؤمنين روحانية ، فلذلك حنوا إلى الجنة .

وأرواح الغافلين هوائية ، فلذلك مالوا إلى الدنيا وقال بعض المشايخ : رأيت في جبل اللكام رجلا أسمر اللون ضعيف البدن ، وهو يقفز من حجر إلى حجر ويقول : الشوق والهوى صيراني كما ترى ، ويقال : الشوق نار الله ، أشعلها في قلوب أوليائه حتى يحرق بها ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات والعوارض والحاجات فهذا القدر كاف في شرح المحبة والأنس والشوق والرضا ، فلنقتصر عليه ، والله الموفق للصواب .

تم كتاب المحبة والشوق والأنس يتلوه كتاب النية والإخلاص والصدق .

التالي السابق


(وقال ذو النون) المصري -رحمه الله تعالى-: (سبحان من جعل الأرواح جنودا مجندة، فأرواح العارفين جلالية قدسية، فلذلك اشتاقوا إلى الله تعالى، وأرواح المؤمنين روحانية، فلذلك حنوا إلى الجنة، وأرواح الغافلين هوائية، فلذلك مالوا إلى الدنيا) والأرواح البشرية لها مراتب خمسة؛ وهي: الروح الحساس، والروح الخيالي، والروح العقلي، والروح الفكري، والروح القدسي، والمرتبة الأخيرة هي المختصة بالعارفين، وفيها تتجلى لوائح الغيب، وأحكام الآخرة، وجملة مع معارف ملكوت السموات والأرض، بل من المعارف الربانية التي يقصر دونها الروح العقلي والفكري، وكل هذه الأرواح نورانية لا ظلمة فيها (وقال بعض المشايخ: رأيت في جبل اللكام) بالضم وتخفيف الكاف من جبال الشام، مأوى عباد الله الصالحين (رجلا أسمر اللون ضعيف البدن، وهو يقفز من حجر إلى حجر، وهو يقول: الشوق والهوى صيراني كما ترى، ويقال: الشوق نار الله تعالى، أشعلها في قلوب أحبائه حتى يحرق بها ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات والعوارض والحاجات) فلا يكون لها ممر بها أبدا (فهذا القدر كاف في شرح المحبة والأنس والشوق والرضا، فلنقتصر عليه، والله الموفق للصواب.)



ولنذكر ما يتعلق بهذه المقامات مما في الشعب للبيهقي، وقوت القلوب، وغيرهما. قال البيهقي في الشعب: قد روينا عن بلال بن أبي الدرداء عن أبيه مرفوعا قال: حبك الشيء يعمي ويصم. قال الحليمي: قد يفهم من هذا أن من أحب الله تعالى لم يعتقد المصائب التي يقضيها عليه إساءة منه إليه، ولم يستقل وظائف عبادته وتكاليفه المكتوبة عليه، كما أن من أحب أحدا من جنسه لم يكد يبصر منه إلا ما يستحسنه ويزيد إعجابا به، ولا يصدق من خبر المخبرين عنه إلا ما يتخذه سببا للولوع به والعلو في محبته. وعن عبد الله بن إبراهيم القرشي عن أبيه قال: لما نزل بالعباس بن عبد المطلب الموت قال لابنه: يا عبد الله، إني موصيك بحب الله -عز وجل- وحب طاعته، وخوف الله وخوف معصيته؛ فإنك إذا كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك، وإني مستوصيك الله يا بني. ثم استقبل القبلة فقال: لا إله إلا الله. ثم شخص ببصره ومات.

وعن مالك بن دينار قال: أوحى الله -عز وجل- إلى بني إسرائيل: إني لا أقبل قولكم، ولكن أقبل هممكم وهواكم، من كان همه وهواه في محبتي كان صمته عندي تقديسا وتسبيحا ووقارا. عن محمد بن سعيد الخوارزمي قال: سمعت ذا النون وسئل عن المحبة قال: أن تحب ما أحب الله، وتبغض ما أبغض الله، وتفعل الخير لله، وترفض كل ما شغلك عن الله، وأن لا تخاف في الله لومة لائم، مع العطف للمؤمنين، والغلظة على الكافرين، واتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدين. وعن أبي يزيد حين سئل عن علامة من يحب الله -عز وجل- وعلامة [ ص: 685 ] من يحبه الله -عز وجل- فقال: من يحب الله فهو مشغول بعبادته ساجدا أو راكعا، فإن عجز عن ذلك استروح إلى ذكر اللسان والثناء، فإن عجز استروح إلى ذكر القلب والتفكر، فأما من يحبه الله -عز وجل- أعطاه سخاء كسخاء الحبر، وشفقة كشفقة الشمس، وتواضعا كتواضع الأرض.

وعن يحيى بن معاذ الرازي قال: المحبة لا تصح إلا من جهة المحبوب، وليس من أحب يحبه. وعن إبراهيم بن علي المديدي قال: من المحال أن تعرفه ولا تحبه، ومن المحال أن تحبه ثم لا تذكره، ومن المحال أن تذكره ثم لا يوجد طعم ذكره، ومن المحال أن يوجدك طعم ذكره ولا يشغلك به عمن سواه. وعن سعيد بن عثمان قال: سمعت ذا النون يقول: من علامة المحب ترك ما يشغله عن الله حتى يكون الشغل كله بالله وحده. وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحب أن لا يرى شيئا سوى محبوبه، ولا ترى سواه لك ناصرا ولا معينا، ولا تستغني بغيره عنه .

وعن وهب بن أبي حفاظ الليثي قال: قال لي راهب من الرهبان: إذا استقرت المحبة في القلب ذهل عن الأهل والولد. وعن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت راهبا في دير خالد يقول للحسن بن شوذب: لا يكون المحب لله محبا حتى يحبه بكل الكل. فصاح الحسن بن شوذب. وعن محمد بن أحمد المهدي قال: سمعت علي بن الموفق ما لا أحصيه وهو يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فعذبني بها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حبا مني لجنتك وشوقا إليها فاحرمنيها، وإن كنت تعلم أنما أعبد حبا مني لك وشوقا إلى وجهك الكريم فأبحنيه مرة واصنع بي ما شئت. وقال ضيغم الجلاب: إن حبه شغل قلوب مريديه عن التلذذ بمحبة غيره، فليس لهم في الدنيا مع حبه لذة، ولا يأملون في الآخرة من كرامة الثواب أكثر عندهم من النظر إلى وجهه. وعن عبد الرحمن بن عبد ربه، عن ذي النون قال: من قتلته عبادته فديته جنته، ومن قتله الشوق فديته النظر إليه. وعن عبد الله بن سهل قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: كم بين من يريد الوليمة للوليمة؟ وكم بين من يريد حضور الوليمة ليلقى الحبيب في الوليمة؟! ودخل سفيان الثوري على رابعة فقالت له: يا سفيان، ما تعدون السخاء فيكم؟ قال: أما عند أبناء الدنيا فالذي يجود بماله، وأما عند أبناء الآخرة فهو الذي يجود بنفسه. فقالت: يا سفيان، أخطأتم فيها. فقال: فما السخاء عندك رحمك الله؟ فقالت: أن تعبدوه حبا له، لا لطلب جزاء ولا مكافأة، ثم أنشأت تقول -:

لولاك ما طابت الجنان ولا طاب نعيم بجنة الخلد قوم أرادوك للجنان فنا
لوها وقلبي سواك لم يرد

وعن إبراهيم بن الجنيد، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي وكان من العباد قال: لقيني بهلول المجنون يوما فقال لي: أسألك؟ قال: قلت: سل. قال: أي شيء السخاء؟ قلت: البذل والعطاء. قال: هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في الدين؟ قلت: المسارعة في طاعة السيد. قال: فتريد منه الجزاء؟ قلت: نعم، بالواحد عشرة. قال: هذا في الدين قبيح، ولكن المسارعة إلى طاعة سيدك أن لا يطلع على قلبك وأنت تريد منه شيئا سواه. وعن جامع بن أحمد قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: العارفون رجلان؛ رجل مسرور بأنه عبده، ورجل مسرور بأنه ربه؛ فالأول يفرح بالله من نفسه لنفسه، والآخر يفرح بالله من الله لله. وقال: هذا سرور الخبر، فكيف سرور النظر؟!



وعن علي بن محمد بن حاتم قال: سمعت الجنيد يقول: بت ليلة عند السري، فلما كان في بعض الليل قال: يا جنيد، أنت نائم؟ قلت: لا. قال: الساعة أوقفني الله بين يديه وقال: يا سري، تدري لم خلقت الخلق؟ قلت: لا. قال: خلقت الخلق فادعوا كلهم في وادعوا محبتي، فخلقت الدنيا فاشتغل بها من عشرة آلاف تسعة آلاف، وبقي ألف، فخلقت الجنة فاشتغل من الألف تسعمائة بالجنة وبقيت مائة، فسلطت عليهم شيئا من البلايا، فاشتغل عني بالبلاء من المائة تسعون وبقيت عشرة، فقلت لهم: ما أنتم؟ لا الدنيا أردتم، ولا في الجنة رغبتم، ولا من البلاء هربتم. فقالوا: فإنك لتعلم ما تريد. فقال: إني أنزل بكم من البلاء ما لا تطيقه الجبال الرواسي فتثبتون لذلك؟ قالوا: ألست الفاعل بنا؟ قد رضينا. قلت: فأنتم عبيدي حقا. وسئل يحيى بن معاذ عن أشهى المجالس وألذها قال: الجلوس في ميدان التوحيد؛ يشم من رائحته المعرفة، ويسقى من كأس المحبة، سبحان الله! ما ألذه من مجلس! وأعذبه من شراب! قيل: فأي الطعام أشهى؟ قال: لقمة من ذكر الله -عز وجل- في فم الصبي بتوحيد الله رفعها من مائدة الرضا عن الله عند النظر لكرامة الله تعالى. قيل: فما عيد المؤمن؟ قال: [ ص: 686 ] السرور بالإيمان، والنزهة بالقرآن، قال -عز وجل-: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون وقال السري: السرور بالله هو السرور، والسرور بغير الله هو الغرور. وعن أويس الأعور قال: رأيت ريحانة المجنونة ليلة تدعو وتقول في دعائها: أعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك، وعميت عينان لا يبكيان شوقا إليك، وجفت كفان لا يبتهلان بالتضرع إليك. ثم أنشأت تقول:

يا حبيب القلوب أنت حبيبي لم تزل أنت منيتي وسروري



وقال يوسف بن الحسين: سمعت ذا النون يقول: كنت في الطواف، فرأيت ولهان المجنون وهو يقول: حبك قتلني، وشوقك أتلفني، والاتصال بك أسقمني، فبعدت قلوب تحب غيرك، وثكلت خواطر أنست بسواك. وقال ذو النون: الأنس بالله نور ساطع، والأنس بالناس سم قاطع. وقال صالح المري: رأيت ريحانة المجنونة كتبت من وراء جيبها -:

أنت أنسي ومنيتي وسروري قد أبى القلب أن يحب سواكا
يا عزيزي ومنيتي واشتياقي طال شوقي متى يكون لقاكا
ليس سؤلي من الجنان نعيما غير أني أريدها لأراكا

وإذا على صدر جيبها مكتوب -:

حسب المحب من المحب بعلمه أن الحبيب ببابه مطروح
والقلب منه إن تنفس في الدجى بسهام لوعات الهوى مجروح

وعن علي بن سهل قال: الأنس بالله أن يستوحش من الخلق إلا من أهل ولاية الله، فإن الأنس بهم هو الأنس بالله تعالى. وقال الفضيل: كفى بالله محبا، وبالقرآن مؤنسا، وبالموت واعظا، وكفى بخشية الله علما، وبالاغترار بالله جهلا .

وعن إبراهيم الخواص قال: لا تطمع في لين القلب مع فضول الكلام، ولا تطمع في حب الله مع حب المال والشوق، ولا تطمع في الأنس بالله مع الأنس بالمخلوق. وقال منصور بن عبد الله الأصبهاني: سئل الشبلي ما علامة صحة المعرفة؟ قال: نسيان كل شيء سوى معروفه. فقيل: ما علامة صحة المحبة؟ فقال: العمى عن كل شيء سوى محبوبه. وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت علي بن قتادة، سمعت علي بن عبد الرحيم وسئل عن الفرق بين الحب والعشق فقال: الحب لذة تعمي عن رؤية غير المحبوب، فإذا تناهى سمي عشقا. وقال يوسف بن الحسين: سمعت ذا النون يقول: الشوق أعلى الدرجات وأعلى المقامات، إذا بلغها الإنسان استبطأ الموت شوقا إلى ربه وحبا للقائه والنظر إليه. وقال أبو عثمان في قوله تعالى: فإن أجل الله لآت هذه تعزية للمشتاقين، معناه: إني أعلم أن اشتياقكم إلى غالب، وإني أجلت للقائكم أجلا، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون .

وعن عبيد الله بن مسلم قال: قال مالك بن دينار: خرجت يوما إلى المقابر، فإذا شابان جالسان يكتبان شيئا، فقلت لهما: نشدتكما بالله، أنا ممن كتبتما؟ فقالا: لا. فسقط مالك مغشيا عليه ثم أفاق، فقال: نشدتكما بالله ما كتبتماني في أسفل سطر مالك بن دينار، طفيلي يحب المحبين لله؟ فلما كان الليل أتيت في منامي فقال: قد كتبت فيهم؛ المرء مع من أحب. وقال أبو علي الجوزجاني: ثلاثة أشياء من عقد التوحيد: الخوف، والرجاء، والمحبة. فزيادة الخوف في ترك الذنوب لرؤية المحبوب، وزيادة الرجاء في اكتساب الخير لرؤية الوعد، وزيادة المحبة في كثرة الذكر لرؤية المنة، فالخائف لا يستريح من الهرب، والراجي لا يستريح من الطلب، والمحب لا يستريح من ذكر المحبوب، فالخوف نار منور، والرجاء نور منور، والمحبة نور الأنوار. قال أبو الحسن الوراق: المحبة شعبة من الإيمان بالله، وهو أصل لجميع مراتب الأولياء. وقال: تتشعب المحبة من دوام ذكر إحسان الله، فمن ذكر على الدوام إحسان الله إليه تنسم ريح المحبة عن قريب .

وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول في معنى الحديث: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. فقال: كيف لا يحبه وما انفكت من تواتر نعمته قط، ولا تنفك أبدا، ولكن ضعف اليقين وكدورة المعرفة ونقص الإيمان حجبك عن محبته والميل إليه. وقال أبو سعيد الخراز في هذا الحديث: واعجبا ممن لم ير محسنا غير الله كيف لا يميل بكليته إليه؟! وقال أبو عمرو الزجاجي: سألت الجنيد عن المحبة قال: تريد الإشارة؟ قلت: لا. قال: [ ص: 687 ] تريد الدعوى؟ قلت: لا. قال: فأيش تريد؟ قلت: عين المحبة. قال: أن تحب ما يحب الله في عباده، وتكره ما يكره الله في عباده. وعن بشر بن السري قال: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك. وقال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان الداراني: بم نال أهل الجنة المحبة من الله -عز وجل-؟ قال: بالعفاف، وأخذ الكفاف .

وقال أبو عبد الله النباجي: سأل رجل الفضيل متى يبلغ الرجل غاية حب الله؟ قال: إذا كان عطاؤه إياك ومنعه سواء. وقال عبد الواحد بن زيد: ما أحسب أن شيئا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا، ولا أعلم درجة أشرف ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة. وقال بعض القراء: رأيت عتبة الغلام ذات ليلة، فما زال يقول حتى أصبح: إن تعذبني فإني محب لك، وإن ترحمني فإني محب لك. وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحبة التي لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفوة. وقال الجنيد: سمعت الحارث المحاسبي وسئل عن المحبة فقال: ميلك إلى الشيء بكليتك محبة له، ثم إيثارك له على نفسك ومالك، ثم موافقتك له سرا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبك. وفيما قرأت على أبي عبد الرحمن السلمي قال: وقال قوم: المحبة موافقة الحبيب في المشهد والمغيب. قال: وسئل رويم عن المحبة فقال: الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد

ولو قال لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا



سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سئل الحسن البوشنجي عن الحب فقال: بذل المجهود مع معرفتك بالمحبوب، والمحبوب مع بذل مجهودك يفعل ما يشاء. وقال أبو عبد الله المغربي: تفكر إبراهيم -عليه السلام- ليلة من الليالي في شأن آدم -عليه السلام- فقال: يا رب، خلقته بيديك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس حتى يقولوا: وعصى آدم ربه؟! فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم، أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديد؟! وقال وهيب: أوحى الله تعالى إلى داود -عليه السلام-: يا داود، ارفع رأسك، فقد غفرت لك، غير أنه ليس لك عندي ذلك الود الذي كان. وقال سعيد بن عثمان بن عباس: سمعت ذا النون، وقد قيل له: متى يأنس العبد بربه؟ فقال: إذا خاف أنس بربه، أما علمتم أنه من واصل الذنوب نحي عن باب المحبوب؟! وقال أيضا: ما رجع من رجع إلا من الطريق، ولو وصلوا إليه ما رجعوا، فازهد في الدنيا ترى العجب. وقال أيضا: وجدت صخرة ببيت المقدس عليها أسطر مكتوبة، فجئت إلى من ترجمها، فإذا هو: كل عاص مستوحش، وكل مطيع مستأنس، وكل خائف هارب، وكل راج طالب، وكل قانع غني، وكل محب ذليل. ففكرت في هذه، فإذا هي أصول لكل ما استعبد الله الخلق به .



وقال أحمد بن عيسى الكلابي: سمعت يحيى بن معاذ الرازي ينشد:

إن المليك قد اصطفى خداما متوددين مواصلين كراما رزقوا المحبة والخشوع لربهم
فترى دموعهم تسيح سجاما يحيون ليلهم بطول صلاتهم
لا يسأمون إذا الخلي ناما قوم إذا رقد العيون رأيتهم
صفوا لشدة خوفهم إقداما وتخالهم من طول سجودهم
يخشون من نار الإله ضراما شغفوا بحب الله طول حياتهم
فتجنبوا لوداده الآثاما

وقال الجنيد: قال رجل للسري: كيف أنت؟ فأنشأ يقول:

من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد

وقال محمد بن العباس الضبي: سمعت أبا بكر بن أبي عثمان يقول: وقام في مجلسه رجل من أهل بغداد فقال: يا أبا عثمان، متى يكون الرجل صادقا في حب مولاه؟ قال: إذا خلا عن خلافه كان صادقا في حبه. قال: فوضع الرجل التراب على رأسه وصاح فقال: كيف أدعي حبه ولم أخل طرفة عين من خلافه؟ قال: فبكى أبو عثمان وأهل المجلس. قال: فجعل أبو عثمان يبكي وهو يقول: صادق في حبه، مقصر في حقه. اهـ. سياق الشعب، وقد تركت منه كثيرا مما أوردته في أثناء كلام المصنف، وفي كتاب مصارع العشاق لأبي محمد السراج في مصارع محبي الله -عز وجل- أنبأنا أبو القاسم الأزجي سنة 440، أنبأنا أبو الحسن علي بن جعفر السيرواني بمكة قال: حكي عن الجنيد أنه قال: أعرف من قتلته المحبة ولم يعرف المحبة. فقلنا يقول: الشيخ، فقال: قتله ما خبئ فيه. أخبرنا أبو القاسم الأزجي، أخبرنا أبو الحسين علي بن الحسن بن جهضم بمكة سنة 396، سمعت أحمد بن محمد يقول: كان سهل يقول: الناس ثلاثة صنوف؛ صنف منهم [ ص: 688 ] مضروب بسوط المحبة مقتول بسيف الشوق مضطجع على بابه ينتظر الكرامة، وصنف منهم مضروب بسوط التوبة مقتول بسيف الندامة مضطجع على بابه ينتظر العفو، وصنف منهم مضروب بسوط الغفلة مقتول بسيف الشهوة مضطجع على بابه ينتظر العقوبة .

حدثنا أبو القاسم الأزجي، حدثنا علي بن عبد الله بن الحسن الهمداني بمكة، حدثنا محمد بن عبد الله الشكلي، حدثني محمد بن جعفر القنطري، قال ذو النون: بينا أنا أسير على ساحل البحر؛ إذ بصرت بجارية عليها أطمار شعر، وإذا هي ناحلة ذابلة، فدنوت منها لأسمع ما تقول، فرأيتها متصلة الأحزان بالأشجان، وعصفت الرياح واضطربت الأمواج، وظهرت الحيتان فصرخت ثم سقطت إلى الأرض، فلما أفاقت بحت ثم قالت: سيدي، بك تقرب المتقربون في الخلوات، ولعظمتك سبحت الحيتان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات، أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار، والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، والنجم الزهار، وكل شيء عندك بمقدار؛ لأنك الله العلي القهار:


يا مؤنس الأبرار في خلواتهم يا خير من حلت به النزال
من ذاق حبك لا يزال متيما فرح الفؤاد متيما بالبال
من ذاق حبك لا يرى متبسما في طول حزن في الحشا إشعال

فقلت لها: زيدينا من هذا. فقالت: إليك عني. ثم رفعت طرفها إلى السماء وقالت:


أحبك حبين حب الوداد وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الوداد فحب شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراكا
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

ثم شهقت شهقة، فإذا هي قد فارقت الدنيا، فبقيت أتعجب ما رأيت منها، فإذا بنسوة قد أقبلن، عليهم مدارع الشعر، فاحتملنها فغيبنها عن عيني، فغسلنها ثم أقبلن بها في أكفانها، فقلن لي: تقدم فصل عليها. فتقدمت وصليت عليها وهن خلفي، ثم احتملنها ومضين .

وأنشد محمد بن عبد الله ليحيى بن معاذ:

أموت بدائي لا أصيب مداويا ولا فرجا مما أرى من بلائيا
إذا كان داء العبد حب مليكه فمن دونه يرجو طبيبا مداويا
مع الله يمضي دهره متلذذا مطيعا تراه كان أو كان عاصيا
يقولون يحيى جن من بعد صحة وما بي جنون، بي خليلي ما بيا



أخبرنا القاضي أبو الحسن التوزي، أخبرنا ابن يحيى، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن الحسين، حدثني أبو معمر صاحب عبد الوارث قال: نظرت رابعة إلى رباح القيسي، وهو يقبل صبيا من أهله ويضمه إليه فقالت: أتحبه يا رباح؟ قال: نعم. قالت: ما كنت أحسب أن في قلبك موضعا فارغا لمحبة غيره. قال: فصاح رباح وسقط مغشيا عليه. ومن طريق أبي القاسم بن مروان، سمعت أحمد بن عيسى الخراز يقول: دعتني امرأة إلى غسل ولدها ذكرت أنه أوصى بذلك، فلما كشفت عنه الثوب قبض على يدي، فقلت: يا سبحان الله! حياة بعد موت؟! فقال: إن المحبين لله تعالى أحياء وإن قبروا. ومن طريق الحسن بن علي بن يحيى بن سلام قال: قيل ليحيى بن معاذ: نروي عن رجل من أهل الخير قد كان أدرك الأوزاعي وسفيان أنه سئل: متى تقع الفراسة على الغائب؟ قال: إذا كان محبا لما أحب الله، مبغضا لما أبغض. وقصت فراسته على الغائب فقال يحيى:

كل محبوب سوى الله سرف وهموم وغموم وأسف
كل محبوب فعنه خلف ما خلا الرحمن ما منه خلف
إن للحب دلالات إذا ظهرت من صاحب الحب عرف
صاحب الحب حزين قلبه دائم الغصة محزون دنف
[ ص: 689 ] أشعث الرأس خمص بطنه أصفر الوجه والطرف ذرف
دائم التذكير من حب الذي حبه غاية غايات الشرف
فإذا أمعن في الحب له وعلاه الشوق من داء كنف
باشر المحراب يشكو بثه وأمام الله مولاه وقف
قائما قدامه منتصبا لهجا يتلو بآيات الصحف
راكعا طورا وطورا ساجدا باكيا والدمع في الأرض يكف
أورد القلب على الحب الذي فيه حب الله حقا فعرف
ثم جالت كفه في شجر ينبت الحب فسمى واقتطف
إن ذا الحب لمن يعني له لا لدار ذات لهو وطرف
لا ولا الفردوس لا يألفها لا ولا الحوراء من فوق غرف



أخبرنا أبو الحسين النوري، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي، حدثني علي بن أحمد بن جعفر قال: أنشدنا ابن فراس لسمنون المحب:

وكان فؤادي خاليا قبل حبكم وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت ببين منك إن كنت كاذبا وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
فإن شئت واصلني وإن شئت لم تصل فلست أرى قلبي لغيرك يصلح



أخبرنا أبو بكر الخطيب، حدثنا الحسن بن أبي بكر قال: ذكر أبو عمر الزاهد أن سمنون المحب أنشد:

يا من فؤادي عليه موقوف وكل همي إليه مصروف
يا حسرتي حسرة أموت بها إن لم يكن إليك معروف



أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو نعيم، أنشدني عثمان بن محمد العثماني، أنشدني أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي لسمنون:

ولو قيل طا في الناس أعلم أنه رضا لك أو مدن لنا من وصالكا
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها سرورا لأني قد خطرت ببالكا

أخبرنا أبو بكر الأردستاني، أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: قال منصور بن عبد الله: دخل قوم على الشبلي في مرضه الذي مات فيه فقالوا: كيف تجدك يا أبا بكر؟ فأنشأ يقول:

إن سلطان حبه قال لا أقبل الرشا
فسلوه فديته لم بقتلي تحرشا



أخبرنا عبد العزيز بن علي، أخبرنا علي بن عبد الله الهمداني بمكة، حدثني محمد بن إبراهيم الأصبهاني بطرسوس، سمعت أبا طالب يقول: كنت مع سمنون، وهو يتكلم في شيء من المحبة وقناديل معلقة، فرأيت القناديل تشقق بعضها بعضا حتى تكسرت. وقال جعفر الخلدي: حدثنا أحمد بن مسروق، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا عبد الله بن الفرج العابد قال: قلت لأبي إسماعيل الموصلي، وكان نصرانيا قد أسلم على يدي فتح الموصلي وحسن حاله: أخبرني ببعض أمر فتح. فبكى ثم قال: أخبرك عنه، كان والله كهيئة الروحانيين معلق القلب هناك، ليست له في الدنيا راحة. قلت: علي علي ذلك، قال: شهدت العيد ذات يوم بالموصل، ورجع بعدما تفرق الناس، ورجعت معه، فنظر إلى الدخان يفور من نواحي المدينة فبكى ثم قال: لقد قرب الناس قربانهم، فليت شعري ما فعلت في قرباني عندك أيها المحبوب؟ ثم سقط مغشيا. فجئت بماء فمسحت به وجهه فأفاق ثم مضى حتى دخل بعض أزقة المدينة، فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: قد علمت طول غمي وحزني، وتردادي في أزقة الدنيا، فحتى متى تحبسني أيها المحبوب؟ ثم سقط مغشيا عليه. فجئت بماء فمسحت به وجهه فأفاق، فما هش بعد ذلك إلا أياما حتى مات -رحمه الله تعالى- اهـ .



وقال القشيري في رسالته في باب المحبة: فأما أقاويل الشيوخ فيه فقال بعضهم: المحبة هي الميل الدائم بالقلب الهائم. وقيل: إيثار المحبوب على جميع [ ص: 690 ] المصحوب. وقيل: مواطأة القلب لمرادات الرب. وقيل: خوف ترك الحرمة مع إقامة الخدمة. وقال أبو يزيد: المحبة استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك. وقال سهل: الحب معانقة الطاعة، ومباينة المخالفة. وسئل الجنيد عن المحبة فقال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب. أشار بهذا إلى استيلاء ذكر المحبوب حتى لا يكون الغالب على قلب المحب إلا ذكر صفات المحبوب، والتغافل بالكلية عن صفات نفسه والإحساس بها. وقال أبو علي الروذباري: المحبة الموافقة. وقال أبو عبد الله القرشي: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء. وقال الشبلي: سميت المحبة محبة لأنها تمحو عن القلب ما سوى المحبوب. وقال ابن عطاء: المحبة إقامة العتاب على الدوام .

سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك. وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول وقد سئل عن المحبة فقال: أغصان تغرس في القلب فتثمر على قدر العقول. وسمعته يقول: سمعت النصرباذي يقول: محبة توجب حقن الدماء، ومحبة توجب سفك الدماء. وسمعته يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت جعفرا يقول: سمعت سمنون يقول: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: المرء مع من أحب. فهم مع الله تعالى. وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء، ولا يزيد بالبر. وقال: ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده. وقال الجنيد: إذا صحت المحبة سقط شروط الأدب. وفي معناه سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق ينشد:

إذا صفت المودة بين قوم ودام ولاؤهم سمح الثناء

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا سعيد الأرجاني يقول: سمعت بندار بن الحسين يقول: رئي مجنون بني عامر في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وجعلني حجة على المحبين. سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: قيل للنصرباذي: ليس لك من المحبة شيء. فقال: صدقوا، ولكن لي حسراتهم فهو داء أحترق فيه. وسمعته يقول: قال النصرباذي: المحبة في مجانبة السلو على كل حال، ثم أنشد

ومن كان في طور الهوى ذاق سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء تلقه من وصالها أماني لم تصدق كلمحة بارق



وقال محمد بن الفضل: المحبة سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب. ويقال: المحبة تشويش في القلب يقع من المحبوب. ويقال: المحبة فتنة تقع في الفؤاد من المراد. وأنشد ابن عطاء:

غرست لأهل الحب غصنا من الهوى ولم يك يدري ما الهوى أحد قبلي
فأورق أغصانا وأينع ضوءه وأعقب لي مرا من الثمر المحلي
فكل جميع العاشقين هواهم إذا نسبوه كان من ذلك الأصل



وقيل: الحب أوله ختل، وآخره قتل. سمعت أبا علي الدقاق يقول في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: حبك للشيء يعمي ويصم. فقال: يعمي عن الغير غيرة، وعن المحبوب هيبة، ثم أنشد:

إذا ما بدا لي تعاظمته فأصدر في حال من لم يرد

سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارث المحاسبي يقول: المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبه. وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: لا تصح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: أنا. وقيل: المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب. وقيل: المحبة بذلك المجهود، والحبيب يفعل ما يشاء. وقال النوري: المحبة هتك الأستار وكشف الأسرار. وقال أبو يعقوب السوسي: لا تصح المحبة إلا بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب بفناء علم المحبة. ووجدت بخط الأستاذ أبي علي أن في بعض الكتب المنزلة: إن الله يقول: عبدي، أنا وحقك لك محب، فبحقي عليك كن لي محبا .



وقال ابن المبارك: من أعطي شيئا من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع. [ ص: 691 ] وقيل: المحبة ما يمحق أثرك. وقيل: المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذي يحصل عند الشهود لا يوصف. وأنشدوا:

فأسكر القوم دور كاس وكان سكري من المدير

وكان الأستاذ أبو علي ينشد كثيرا:

لي سكرتان وللندمان واحدة شيء خصصت به من بينهم وحدي



وقال ابن عطاء: المحبة إقامة العتاب على الدوام. وكان للأستاذ أبي علي جارية تسمى فيروز، وكان يحبها إذ كانت تخدمه كثيرا، فسمعته يوما يقول: كانت فيروز تؤذيني يوما وتستطيل علي بلسانها، فقال أبو الحسن القاري: لم تؤذين هذا الشيخ؟ فقالت: لأني أحبه. وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب. وحكي أن بعضهم عشق جارية فرحلت الجارية فخرج الرجل في وداعها، فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى، فغمض التي لم تدمع أربعا وثمانين سنة لم يفتحها عقوبة لأنها لم تبك على فراق حبيبته. وفي معناه أنشدوا:

بكت عيني غداة البين دمعا وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت بدمع بأن أغمضتها يوم التقينا

وقال بعضهم: كنا عند ذي النون المصري، فتذاكرنا المحبة، فقال: كفوا عني هذه المسألة، لا تسمعها النفوس فتدعيها، ثم أنشأ يقول:

الخوف أولى بالمسيء إذا ناله والحزن
والحب يحمل بالتقي وبالنقي من الدرن



وقال يحيى بن معاذ: من نشر المحبة عند غير أهلها فهو في دعواه دعي. وقيل: ادعى رجل الاستهلاك في محبة شاب. فقال له الشاب: كيف هذا، وهذا أخي أحسن مني وجها وأتم جمالا؟! فرفع الرجل رأسه يلتفت وكانا على سطح فألقاه من السطح وقال: هذا جزاء من يدعي هوانا وينظر إلى سوانا. وقال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا له: هات ما عندك يا عراقي. فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب على نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبة، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله. فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين. وقال: أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود، إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيري. أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي، أخبرنا محمد بن أحمد بن القاسم، حدثنا هشيم بن همام، حدثنا إبراهيم بن الحارث، حدثني عبد الرحمن بن عفان، حدثني محمد بن أيوب، حدثني أبو العباس خادم الفضيل قال: احتبس بول الفضيل فرفع يده وقال: اللهم بحبي لك إلا أطلقته عني. قال: فما برحنا حتى شفي. وقيل: قالت رابعة في مناجاتها: إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك؟ فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل هكذا، فلا تظني بنا ظن السوء .

وقيل: الحب حرفان؛ حاء وباء، فالإشارة فيه أن من أحب فليخرج عن روحه وبدنه وبالإجماع عن إطلاقات القوم أن المحبة هي الموافقة، وأشد الموافقات الموافقة بالقلب، والمحبة توجب انتفاء المباينة، فإن المحب أبدا مع محبوبه. سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله الرازقي يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول: سمعت أبا حفص يقول: أكثر فساد الأحوال من ثلاثة أشياء؛ فسق العارفين، وخيانة المحبين، وكذب المريدين. قال أبو عثمان: فسق العارفين إطلاق الطرف واللسان والسمع إلى أسباب الدنيا ومنافعها، وخيانة المحبين اختيار هواهم على رضا الله تعالى فيما يستقبلهم، وكذب المريدين أن يكون ذكر الخلق ورؤيتهم يغلب عليهم على ذكر الله تعالى ورؤيته. هذا ما أورده في باب المحبة .

وقال في باب الشوق: سمعت الأستاذ أبا علي يفرق بين الشوق والاشتياق ويقول: الشوق يسكن باللقاء والرؤية، والاشتياق لا يزول باللقاء. وفي معناه أنشدوا:

ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته حتى يعود إليه الطرف مشتاقا

سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت النصرباذي يقول: للخلق كلهم مقام الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق، ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار. وقيل: جاء أحمد الأسود إلى ابن المبارك فقال: رأيت [ ص: 692 ] في المنام كأنك تموت إلى سنة فاستعد للخروج. فقال ابن المبارك: لقد أحلتنا على أمد بعيد، أعيش أنا إلى سنة؟! لقد كان لي أنس بهذا البيت الذي سمعته من هذا الثقفي -يعني أبا علي رحمه الله تعالى-:

يا من شكا شوقه من طول فرقته اصبر لعلك تلقى من تحب غدا

وقال يحيى بن معاذ: علامة الشوق فطام الجوارح من الشهوات. سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: خرج داود -عليه السلام- يوما إلى بعض الصحاري منفردا، فأوحى الله إليه: ما لي أراك وحدانيا؟! فقال: أستأثر الشوق إلى لقائك على قلبي، فحال بيني وبين صحبة الخلق. فأوحى الله إليه: ارجع إليهم، فإنك إن أتيتني بعبد آبق أتيتك في اللوح المحفوظ جهبذا. وقيل: كان عجوز قدم بعض أقاربها من السفر وأظهر قومها السرور، والعجوز تبكي، فقيل لها: وما يبكيك؟ قالت: ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله -عز وجل-



وسئل ابن عطاء عن الشوق فقال: احتراق الأحشاء، وتلهب القلوب، وتقطع الأكباد. وسئل أيضا: الشوق أعلى أم المحبة؟ فقال: المحبة؛ لأن الشوق منها يتولد. وقال بعضهم: للشوق لهيب ينشأ بين أثناء الحشا يسنح على الفرقة، فإذا وقع اللقاء طفئ، وإذا كان الغالب على الأسرار مشاهدة المحبوب لم يطرقها الشوق. وقال فارس: قلوب المشتاقين منورة بنور الله، فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض فيعرضهم الله تعالى على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إلي، أشهدكم أني إليهم أشوق. وسمعت الأستاذ أبا علي يقول في قوله -صلى الله عليه وسلم-: أسألك الشوق إلى لقائك. قال: كان الشوق مائة جزء؛ تسعة وتسعون له، وجزء متفرق بين الناس، فأراد أن يكون ذلك الجزء أيضا له، فغار أن يكون شظية من الشوق لغيره. وقيل: شوق أهل القرب أتم من شوق المحجوبين. ولهذا قيل:

وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام

وقيل: إن المشتاقين يحتسون حلاوة الموت عند وروده لما قد كشفت لهم من روح الوصول أحلى من الشهد. سمعت ابن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت جعفرا يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: الشوق أجل مقام العارف إذا تحقق فيه، وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه. وقيل: أوحى الله إلى داود -عليه السلام-: قل لشبان بني إسرائيل: لم تشغلون أنفسكم بغيري وأنا مشتاق إليكم؟ ما هذا الجفاء؟! سمعت الأستاذ أبا علي يقول: بكى شعيب -عليه السلام- حتى عمي، فرد الله بصره عليه، ثم بكى حتى عمي فرد الله بصره عليه، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فأوحى الله إليه: إن كان هذا البكاء لأجل الجنة فقد أبحتها لك، وإن كان لأجل النار فقد أعذتك منها. فقال: لا، بل شوقا إليك. فأوحى الله إليه: لأجل ذلك أخدمتك نبيي وكليمي عشر سنين. وقيل: من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء. وفي الخبر: اشتاقت إلى ثلاثة؛ علي وعمار وسلمان. وسمعت الأستاذ أبا علي يقول: قال لنا بعض المشايخ: أنا أدخل السوق والأشياء تشتاق إلي وأنا عن جميعها حر .

سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن فرحان يقول: سمعت الجنيد يقول وقد سئل: من أي شيء يكون بكاء المحب إذا لقي المحبوب؟ فقال: إنما يكون ذلك سرورا به، ووجدا من شدة الشوق إليه، ولقد بلغني أن أخوين تعانقا فقال أحدهما: واشوقاه! وقال الآخر: واوجداه! فهذا ما يتعلق بالشوق. وقال في باب الرضا ما نصه: قد تكلم الناس في الرضا، وكل عبر عن حاله وشربه، فهم في العبارة عنه مختلفون، كما أنهم في الشرب والنصيب من ذلك متفاوتون، فأما شرط العلم والذي هو لا بد منه، فالراضي بالله هو الذي لا يعترض على تقديره. سمعت الأستاذ أبا علي يقول: ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، إنما الرضا أن لا تعترض على الحكم والقضاء. وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا. سمعت الأستاذ أبا علي يقول: قال تلميذ لأستاذه: هل يعرف العبد أن الله راض عنه؟ فقال: لا، كيف يعلم ذلك ورضاه غيب؟! فقال التلميذ: يعلم ذلك. فقال: كيف؟ قال: إذا وجدت قلبي راضيا عن الله علمت أنه راض عني. فقال الأستاذ: أحسنت يا غلام .

وقال النصرباذي: من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ما جعل الله رضاه فيه. وقال محمد بن خفيف: الرضا على قسمين؛ رضا به، ورضا عنه، فالرضا به مدبرا، والرضا عنه فيما يقضي. وسمعت الأستاذ أبا علي يقول: طريق السالكين أطول هو طريق الرياضة، وطريق الخواص أقرب لكنه أشق، وهو أن يكون عملك بالرضا ورضاك بالقضاء. وقال رويم: [ ص: 693 ] الرضا أن لو جعل الله جهنم عن يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره. وقال الواسطي: استعمل الرضا جهدك، ولا تدع الرضا يستعملك فتكون محجوبا بلذته ورؤيته عن حقيقة ما تطالع. أي؛ لأن السكون عندهم إلى الأحوال حجاب عن محول الأحوال، فإذا استلذ رضاه وجد قلبه راحة الرضا فحجب حاله عن شهود حقه. ولقد قال الواسطي أيضا: إياكم واستحلاء الطاعات، فإنها سموم قاتلة. وقيل: قال الشبلي بين يدي الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال الجنيد: قولك ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء. وقال أبو سليمان: الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار. وقال ذو النون: ثلاثة من أعلام الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء .

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن جعفر البغدادي يقول: سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول: سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول: قيل للحسين بن علي بن أبي طالب: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة. فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له. وقال أبو عمر الدمشقي: الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم. وقال ابن عطاء: الرضا نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد، وهو ترك السخط. وقال رويم: الرضا استقبال الأحكام بالفرح. وقال المحاسبي: الرضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام. وقال النووي: الرضا سرور القلب بمر القضاء. وقال الحريري: من رضي بدون قدره رفعه الله فوق غايته. وقال أبو تراب النخشبي: ليس ينال الرضا من للدنيا في قلبه مقدار. وقال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته. اهـ. ما قاله القشيري في الرسالة .



ومما نقلته من كتاب قوت القلوب قال: الرضا هو حال الموفق، واليقين هو حقيقة الإيمان، وإلى هذا ندب النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عباس في وصيته له فقال: اعمل لله باليقين، فإن لم يكن فإن في الصبر خيرا كثيرا. فرفعه إلى أعلى المقامات، ثم رده إلى أوسطها، كذلك قال لابن عمر: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ندبه إلى المشاهدة، وهو الإحسان، ثم رده إلى الصبر والمجاهدة، وهو الإيمان، وهو مكان العلم بأن الله تعالى يراه، وليس بعد هذا مكان يوصف، وكان سهل يقول: أعرف في الموتى مقبرة عظيمة ينظرون إلى منازلهم من الجنات في قبورهم، ويغدى عليهم ويراح برزقهم من الجنة، وهم في هموم وكروب في البرزخ، لو قسمت على أهل البصرة لماتوا جميعا. قيل: وما كانت أعمالهم؟ قال: كانوا مسلمين، إلا أنه لم يكن لهم من التوكل ولا من الرضا نصيب. وقال لقمان في وصيته: ومن يفوض أمره ويرضى بقدر الله أقام الإيمان وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير، وأقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره، فمن الرضا سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور، وطيب النفس وسكونها في كل حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع من أمور الدنيا، وقناعة العبد بكل شيء من اغتباطه بمقامه من ربه، وفرحه بقيام الله مولاه عليه واستسلام الفعل للمولى في كل، ورضاه منه بأدنى شيء، وتسليمه له بالأحكام والقضايا باعتقاد حسن التدبير وكمال التقدير فيها، وتسليم العبد لمولاه ما في يده رضا بحكمه عليه، وأن لا يشكو السيد الكريم إلى العبد اللئيم، ولا يتبرم بفعل الحبيب، ولا يفقد في كل شيء حسن صنع القريب .

وذكر عند رابعة رحمها الله تعالى عابد له عند الله تعالى منزلة، وكان قوته ما ينقسم من مزبلة لبعض ملوكهم، فقال رجل عندها: فما يضر هذا إذا كانت له منزلة أن يسأله فيجعل قوته في غير هذا؟ فقالت له: اسكت يا بطال، أما علمت أن أولياء الله هم أرضى عنه أن يتخيروا عليه أن ينقلهم من معيشة حتى يكون هو الذي يختار لهم. وقد قال أيضا أويس القرني -رحمه الله تعالى- فيما رويناه عنه. وقال الأعمش: قال لي أبو وائل: يا سليمان، نعم الرب ربنا، لو أطعناه ما عصانا. وقال الله تعالى في معناه: ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أي: يطيعهم ويستجيب لهم، والاستجابة الطاعة. وحكي لنا أن بعض العارفين صحبه رجل في الطريق فعبث بشيء فنحاه عن مكان إلى مكان آخر، فقال له العارف: ماذا صنعت؟ أحدثت في الملك عن غير ضرورة ولا سنة؟! لا تصحبني أبدا. وأعمال طلاب الرضا من الله تعالى مضاعفة على أعمال المجاهدين في سبيل الله؛ لأن أعمال المجاهدين تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وتضعيف طالبي الرضا لا يحصى. قال الله -عز وجل-: يضاعف لمن يشاء وقال تعالى: فيضاعفه له أضعافا كثيرة قيل: الحسنة إلى ألفي حسنة. وقد قال الله [ ص: 694 ] تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ثم قال وهو أصدق القائلين : ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة فكم في هذه الجنة من سنبلة وحبة؟! فهؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم: يضاعف لمن يشاء هم أهل الرضا عنه، وهم الذين أقرضوا الله قرضا حسنا لأجله فضاعف لهم أضعافا كثيرة، وهم الذين يغفر لهم لا محالة، دخلوا في قوله تعالى: يغفر لمن يشاء فمن عقل عن الله تعالى حكمته كان مع الله فيما حكم مسلما له ما شهد؛ لأنه تعالى باختياره أنشأ الأشياء، وبمشيئته بدأها، وعنه يتصرف المقدور، وإليه عواقب الأمور، ولا يكون مع نفسه فيما تهوى، ولا مع معتاده وعرفه فيما يعقل. وقال بعض المريدين: قلت لبعض أهل المعرفة: إني كثير الغفلة قليل المسارعة إلى مرضاته، فأوص بشيء أعمله أدرك به ما يفوتني من هذا. فقال: يا أخي، إن استطعت أن تتحبب إلى أولياء الله وتتقرب من قلوبهم فافعل، لعلهم به يحبونك، فإن الله ينظر إلى قلوب أوليائه في كل يوم سبعين نظرة، فلعله ينظر إليك في قلوبهم لمحبتهم لك فيحبوك حياة الدنيا والآخرة، إذا لم تكن ممن ينظر إليه كفاحا .

وكذلك يقال: إن الله تعالى ينظر إلى قلوب الصديقين والشهداء مواجهة، فهؤلاء الذين عرفوه به لقربهم منهم ولدوام نظرهم إليه، فهو وجهتهم، ثم ينظر إلى قلوب قوم من قلوب قوم آخرين، فهؤلاء الذين عرفوه بهم وأحبوه من محبتهم فهم وجهتهم إليه وأدلتهم عليه فيعطيهم نصيبا من نصيبهم، كما أعطاهم شهادة ووجدا من علمهم. وروينا عن بعض الجبابرة من العتاة في فرط كرم الله وغاية حلمه: أن جبارا من الملوك قحطت رعيته سنين فشكوا ذلك إليه، فخرج بهم إلى الصحراء فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا ساكن السماء لتسقينا الغيث أو لنؤذيك. فقال له وزراؤه: كيف تؤذيه، وهو في السماء وأنت في الأرض؟ فقال: أقتل أولياءه من أهل الأرض فيكون ذلك أذى له. فأرسل الله تعالى عليهم السماء بكرمه وجوده. ومن حسن الأدب والمعاملة إذا عملت صالحا فقل: أنت استعملتني، وبحولك وقوتك وحسن توفيقك أطعتك؛ لأن جوارحي جنودك، وإذا عملت سيئا فقلت: ظلمت نفسي وبهواي وشهوتي اجترحت بجوارحي وهي صفاتي، ثم تعتقد في ذلك أنه بقدره ومشيئته كان ما قضى، فتكون بالمعنيين قد وافقت مرضاة مولاك، وتكون في الحالين عاملا ترضيه بالقول والعقود، وينتفي عنك العجب في أعمال برك، ويصح منك المقت لنفسك واعترافك بظنك، وقد تغلب هذه المشاهدة على الجاهل، فإذا عمل حسنا شهد نفسه ونظر إلى حوله وقوته، فإذا عمل سيئا لم يعترف بالذنب ولم يقر على نفسه بالظلم فلم تصح له توبة ولم يرض له عمل، نعوذ بالله من مشاهدة الضلال، هذا ما أورده في باب الرضا .



وقال في أحكام المحبة ووصف أهلها: اعلم أن المحبة من الله لعبده ليست كمحبة الخلق تكون حادثة لأحد سبع معان؛ لطبع، أو لحسن، أو لنفع، أو لوصف، أو لهوى، أو لرحم ماسة، أو ليقرب ذلك إلى الله تعالى، فهذه حدود الشيء الذي شبهه الشيء، والله تعالى عن جميع ذلك لا يوصف بشيء منه؛ إذ ليس كمثله شيء في كل شيء، ولأن هذه أسباب محدثة في الخلق لمعان حادثة ومتولدة من المحبين لأسباب عليهم داخلة، وقد تتغير لتغير الأوقات، وتنقلب لانقلاب الأوصاف، ومحبة الله تعالى سابقة للأسباب عن كلمة الحسنى، قديمة قبل الحادثات عن عناية العلياء، لا تتغير أبدا، ولا تنقلب لأجل ما بدا لقوله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى يعني الكلمة الحسنى، وقيل: المنزلة الحسنى، فلا يجوز أن يسبقها سبق منهم، بل سبقت كل سابقة بقول كقوله تعالى: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين وقال: لهم قدم صدق عند ربهم وقال في الآخرة: في مقعد صدق عند مليك مقتدر ولا يصلح أن يكون قبل قدمه الصدق منهم قدم، كما لا يصلح أن يكون قبل علمه به منهم علم؛ لأن علمه سبق العلوم، ومحبته لأوليائه سبقت محبتهم إياه ومعاملتهم له، ثم ينتهي مع ذلك خاصية حكم من أحكامه مزيد من فضل أقسامه، خالصة لمخلصين، ومؤثرة لمؤثرين، بقدم صدق سابق لخالصين يؤول إلى مقعد صدق عند صادق للسالكين، ليس لذلك سبب معقول، ولا لأجل عمل معمول، بل يجري مجرى سر القدر ولطف القادر، وإفشاء سر القدر كفر، فلا يعلمه إلا نبي أو صديق، ولا يطلع عليه من يظهر، وما ظهر في الأخبار من الأسباب فإنما هو طريق الأحباب، ومقامات أهل القرب من أولي الألباب، وإنما هي تبصرة وذكرى للمنيبين، وتزود وبلاغ للعابدين، وإنما تستبين المحبة وتظهر [ ص: 695 ] للعبد بحسن توفيقه، وكلاءة عصمته، ولطائف تعليمه من غرائب علمه، وخفايا لطفه، وفي سرعة ردهم إليه في كل شيء، ووقوفهم عنده، ونظرهم إليه دون كل شيء، وكثرة استعمالهم بحسن مرضاته، وكشف اطلاعهم على معاني صفاته، ولطيف تعريفه لهم مكنون أسراره وفتوحه لأفكارهم عن بواطن إنعامه واستخراجه منهم خالص شكره، وهو الله سبحانه لعبده وأحكام تظهر من المحبوب، وهو العبد في حسن معاملته، أو حقيقة علم يهب له، كما قال إخوة يوسف حين عرفوا محبة الله عليهم: تالله لقد آثرك الله علينا ثم قالوا: وإن كنا لخاطئين فذكروا سالف خطاياهم، وأنه آثره بما لم يؤثرهم. وقال الله تعالى في موهبته له: آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين فذكر ما سلف من إحسانه لما آثره، وذكر بعض من ينتمي إلى المحبة مقامه في المحبة عند بعض المحبين فقال له: أرأيت هذا الذي تذكر محبته اهتممت بسوا؟ قال: نعم. قال: فهل رأيته في ليلة مرتين وثلاثا؟ قال: لا. قال: لولا أني أستحي لأخبرتك أن محبتك معلولة تهتم بسوى حبيبك ولا تراه في نومك. قال: لكن أعرف من لا يدعي محبته، وعلى ذلك ما أهتم بسواه منذ عرفه، وربما رآه في ليلة سبع مرات، وإنما لم يهتم المحب بسواه من قبل أن لا ينساه، فكيف يذكره من لا ينساه، بل هو مذكور بذاكر، لا ذاكر بتذكير أو تذكر، وههنا افتضح المدعون وانكشف المستورون إن اهتم بغيره فقد نسيه، والحبيب لا ينسى؛ لأنه لازم للهم مستشعر بالقلب ملاحظ في العين، هو الناظر والمنظور، وهو السامع والمسموع، وهو الشاهد والمشهود، وهو الواجد والموجود، كما قال بعض المحبين:

ليس في القلب والعيان جميعا موضع فارغ لغير الحبيب وهو سقمي وصحتي وشفائي
وبه العيش ما حييت يطيب

فمن كان هذا وصفه من العين والقلب والروح فمحال أن ينسى، ومن استحال أن ينسى فكيف يحول ذكره عن القلب؟ أم كيف يحول بغيره الهم كيف؟ وقد روينا في الخبر: المنافق لا يذكر حتى يذكر، وإذا ترك نسي، ولا تكونوا كاليهود إذا قرئت عليهم التوراة مادوا لها، فإذا رفعت لم يكن وراء ذلك شيء. ا ه ما في القوت .



* (فصل) *

قد تقدم للمصنف -رحمه الله تعالى- في أثناء الفصل الرابع من هذا الكتاب أن المحبة ثمرة المعرفة، فلزم أن نتكلم على مقام المعرفة ونذكر أقاويل الشيوخ فيه، وقد ذكر صاحب القاموس منها جملة في كتاب البصائر، والقشيري في الرسالة، فلنذكر سياق البصائر أولا، فإنه مشتمل على أكثر ما أورده القشيري مع زيادة توضيح وبيان، فأقول: قال صاحب البصائر: الفرق بين العلم والمعرفة عند المحققين أن المعرفة هي العلم الذي يقول العالم بموجبه ومقتضاه، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده، بل لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالما بالله وبالطريق الموصل إليه، وبآفاتها وقواطعها، وله حال مع الله يشهد له بالمعرفة، فالعارف عندهم من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملاته، ثم أخلص له في قصوده ونياته، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكامه في نعمه وبلياته، ثم دعا الله على بصيرة بدينه وإيمانه، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة، وإذا سمي به غيره فعلى الدعوى والاستعارة، وقد تكلموا في المعرفة بآثارها وشواهدها، فقال بعضهم: من أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته. وقال أيضا: المعرفة توجب السكينة. وقيل: علامتها أن يحس بقرب قلبه من الله -عز وجل- فيجده قريبا منه. قال الشبلي: ليس لعارف علاقة، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف فرار، ولا لأحد من الله فرار. وهذا كلام جيد، فإن المعرفة الصحيحة تقطع من القلب العلائق كلها، وتعلقه بمعروفه، فلا تبقى فيه علاقة لغيره، ولا تمر به العلائق إلا وهي مجتازة .

وقال أحمد بن عاصم: من كان بالله أعرف كان من الله أخوف. ويدل على هذا قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء وقوله -صلى الله عليه وسلم-: أنا أعرفكم بالله وأشدكم لله خشية. وقال آخر: من عرف الله ضاقت عليه الأرض بسعتها. وقال غيره: [ ص: 696 ] من عرف الله اتسع عليه كل ضيق، ولا تنافي بين هذين الكلامين، فإنه يضيق عليه كل مكان لاتساعه فيه على شأنه ومطلوبه، ويتسع له ما ضاق على غيره؛ لأنه ليس فيه ولا هو مساكن له بقلبه، فقلبه غير محبوس فيه، والأول في بداية المعرفة، والثاني في غايتها التي يصل إليها العبد.

وقال آخر: من عرف الله تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله. وقال غيره: من عرف الله قرت عينه بالله، وقرت به كل عين، ومن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات، ومن عرف الله لم تبق له رغبة فيما سواه، وعلامة العارف أن يكون قلبه مرآة إذا نظر فيها رأى فيها الغيب الذي دعي إلى الإيمان به، فعلى قدر جلاء تلك المرآة يتراءى له فيها سبحانه والدار الآخرة والجنة والنار والملائكة والرسل، كما قيل:

إذا سكن الغدير على صفاء فيشبه أن يحركه النسيم بدت فيه السماء بلا مراء
كذاك الشمس تبدو والنجوم كذاك قلوب أرباب التجلي
يرى في صفوها الله العظيم

ومن علامات المعرفة أن يبدو لك الشاهد وتفنى الشواهد، وتنجلي العلائق وتنقطع العوائق، ويجلس بين يدي الرب ويقوم ويضطجع على التأهب للقائه، كما يجلس الذي قد شد أحماله وأزمع السفر على تأهب له ويقوم ذلك ويضطجع عليه، ومن علامات العارف أن لا يطالب فلا يخاصم ولا يعاقب ولا يرى له على أحد حقا، وأن لا يتأسف على فائت، ولا يفرح بآت؛ لأنه ينظر في الأشياء بعين الفناء والزوال، وأنها في الحقيقة كالظلال والخيال. وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤه البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب. وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين؛ بكائه على نفسه، وثنائه على ربه. وهذا من أحسن ما قيل؛ لأنه يدل على معرفته بنفسه، وعلى معرفته بربه وجماله وجلاله، فهو شديد الإزراء على نفسه، لهج الثناء على ربه .



وقال أبو يزيد: إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ما له. يريد: تضييع حظوظهم والوقوف مع حقوق الله تعالى، والآخر لا يكون العارف عارفا حتى لو أعطي ملك سليمان لم يشغله عن الله طرفة عين. وهذا يحتاج إلى شرح، فإن ما هو دون ذلك يشغل القلب، لكن إذا كان إشغاله بغير الله لله فذلك اشتغال بالله. وقال ابن عطاء: المعرفة على ثلاثة أركان؛ الهيبة، والحياء، والأنس. وقيل: العارف ابن وقته. وهذا من أحسن الكلام وأخصره، فهو مشغول بوظيفة وقته عما مضى وصار في العدم عما لم يدخل بعد في الوجود؛ فهمه عمارة وقته الذي هو مادة حياته الباقية، ومن علاماته أنه يستوحش ممن يقطعه عنه؛ ولهذا قيل: العارف من أنس بالله فأوحشه من الخلق، وافتقر إلى الله فأغناه عنهم، وذل لله فأعزه فيهم، وتواضع لله فرفعه بينهم، واستغنى بالله فأحوجهم إليه. وقيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول. يعني أن العالم علمه أوسع من حاله وصفته، والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره .

وقال أبو سليمان الداراني: إن الله يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح له وهو قائم يصلي. وقال ذو النون: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله. وقال بعضهم: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين. وهذا كلام ظاهره منكر محتاج إلى شرح، فإن العارف لا يرائي المخلوق طلبا للمنزلة في قلبه، وإنما يكون ذلك منه نصيحة وإرشادا وتعليما، فهو يدعو إلى الله بعلمه، كما يدعو إلى الله بقوله، وإخلاص المريد مقصور على نفسه. وقال ذو النون: الزهاد ملوك الآخرة، وهم فقراء العارفين. وسئل الجنيد عن العارف فقال: لون الماء لون إنائه. وهذه كلمة رمز بها إلى حقيقة العبودية، وهو أنه يتلون في أقسام العبودية، فبينا تراه مصليا؛ إذ رأيته ذاكرا، أو قارئا، ومتعلما، ومعلما، ومجاهدا، وحاجا، ومساعدا للضعيف، ومعينا للملهوف، فيضرب في كل غنيمة بسهم، فهو مع المنتسبين منتسب، ومع المتعلمين متعلم، ومع الغزاة غاز، ومع المصلين مصل، ومع المتصدقين متصدق ... وهكذا ينتقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية، وهو مستقيم على معبود واحد لا ينتقل عنه إلى غيره .

وقال يحيى بن معاذ: العارف كائن بائن. وقد فسر كلامه على وجوه؛ منها: أنه كائن مع الخلق بظاهره بائن عن نفسه، ومنها: أنه كائن مع أبناء الآخرة بائن عن أبناء الدنيا، ومنها: أنه كائن مع الله بموافقته بائن عن الناس بمخالفته [ ص: 697 ] ومنها: أنه داخل في الأشياء خارج عنها؛ يعني: المريد لا يقدر على الدخول فيها، والعارف داخل فيها خارج منها. وقال ذو النون: علامة العارف ثلاثة؛ لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقص عنه ظاهرا من الحكم، ولا يحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله. وهذا أحسن ما قيل في المعرفة. وقال: ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة، فكيف عند أبناء الدنيا؟! يريد أنه ليس من المعرفة وصف المعرفة لغير أهلها، سواء كانوا عبادا، أو من أبناء الدنيا. وسئل ذو النون عن العارف قال: كان ههنا وذهب. فسئل الجنيد عن معناه فقال: لا يحصره حال عن حال، ولا يحجبه منزل عن الشغل في المنازل، فهو مع أهل كل منزل على الذي هم فيه يجد مثل الذي يجدون. وقال بعض السلف: نوم العارف يقظة، وأنفاسه تسبيح، ونومه أفضل من صلاة الغافل. وإنما كان نومه يقظة؛ لأن قلبه حي، فعيناه تنامان وروحه ساجدة تحت العرش بين يدي ربها، وإنما كان نومه أفضل من صلاة الغافل؛ لأن بدنه في الصلاة واقف وقلبه يسبح في حشوش الدنيا والأماني. وقيل: مجالسة العارف تدعوك من ست إلى ست؛ من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الظن به إلى النصيحة. انتهى كلام صاحب البصائر .

وزاد القشيري في الرسالة: وقال الشبلي، وقد سئل عن المعرفة: أولها الله، وآخرها ما لا نهاية له. وقال أبو حفص الحداد: منذ عرفت الله تعالى ما دخل قلبي حق ولا باطل. وهذا في ظاهره إشكال، وأجل ما يحتمله أن عند القوم المعرفة توجب غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه؛ فلا يشهد غير الله، ولا يرجع إلى غيره، كما أن العاقل يرجع إلى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح له من أمر ويستقبله من حال، فالعارف رجوعه إلى ربه، فإذا لم يكن مشتغلا بربه لم يكن راجعا إلى قلبه، وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له، وفرق بين ما عاش بقلبه وبين ما عاش بربه. وسئل أبو يزيد عن المعرفة فقال: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة . هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص. وقال أبو يزيد: للخلق أحوال ولا حال للعارف؛ لأنه محيت رسومه، وفنيت هويته لهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره. وقال الواسطي: لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وافتقار إليه. أراد بهذا أن الافتقار والاستغناء بالله من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه؛ لأنها من صفاته، والعارف محي في معروفه، فكيف يصح له ذلك وهو لاستهلاكه في وجوده أو لاستغراقه في شهوده وإن لم يبلغ الوجود مختطف عن إحساسه؟! فكل وصف هو له، ولهذا قال الواسطي أيضا: من عرف الله انقطع به، بل خرس وانقمع. وقال -صلى الله عليه وسلم-: لا أحصي ثناء عليك. هذه صفات الذين بعد مرماهم، فأما من نزلوا عن هذا الحد فقد تكلموا في المعرفة وأكثروا .

وقيل: من عرف الله ذهبت عنه رغبة الأشياء، وكان بلا فصل ولا وصل. وقيل: المعرفة توجب الحياء والتعظيم، كما أن التوحيد يوجب الرضا والتسليم. وقال ذو النون: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى؛ يحتملك ويحلم عنك تخلقا بأخلاق الله -عز وجل- وسئل ابن يزداينار: متى يشاهد العارف الحق؟ فقال: إذا بدأ الشاهد، وفنيت الشواهد، وذهبت الحواس، واضمحل الإخلاص. وقال الحلاج: علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والآخرة. وقال سهل: غاية المعرفة شيئان؛ الدهش، والحيرة. وقال ذو النون: أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه. وقال رجل للجنيد: من أهل المعرفة أقوام يقولون بترك الحركات من باب البر والتقوى. فقال: هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة. وقيل لأبي يزيد: بما إذا نلت هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع، وبدن عار. وقال أيضا: العارف طيار، والزاهد سيار. وقيل: العارف تبكي عينه، ويضحك قلبه. وقيل: العالم يقتدى به، والعارف يهتدى به. وقال الشبلي: العارف لا يكون لغيره لاحظا، ولا لكلام غيره لافظا، ولا يرى لنفسه غير الله حافظا. وقال أبو الطيب المسامري: المعرفة طلوع الحق على الأسرار بمواصلة الأنوار. وقال أبو بكر الوراق: سكرات العارف أنفع، وكلامه أشهى وأطيب. وسئل أبو يزيد عن العارف فقال: لا يرى في نومه غير الله، ولا في يقظته غير الله. وسئل أبو تراب النخشبي عن العارف فقال: الذي لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء. وقال [ ص: 698 ] أبو عثمان المغربي: العارف تضيء له أنوار العلم فيبصر به عجائب الغيب. وقال بعضهم: المعرفة أمواج تغط وترفع وتحط. وقال أبو سعيد الخراز: المعرفة تأتي من عين الجود وبذل المجهود. وقال محمد بن الفضل: المعرفة حياة القلب مع الله. انتهى .

وبه تم كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما. قال مؤلفه: نجزت من تسويده في الثالثة من ليلة الأربعاء ثاني محرم الحرام افتتاح سنة 1201، أرانا الله خيرها، وكفانا ضيرها. قال ذلك وكتبه أبو الفيض محمد مرتضى الحسيني، غفرت ذنوبه، وسترت عيوبه بمنه وكرمه آمين، حامدا الله ومصليا ومسلما .

تم الجزء التاسع، ويليه الجزء العاشر، أوله كتاب النية والإخلاص والصدق.



الخدمات العلمية