الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النظر الثاني للمراقبة عند الشروع في العمل وذلك بتفقد كيفية العمل ليقضي حق الله فيه ويحسن النية في إتمامه ويكمل صورته ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه وهذا ملازم له في جميع أحواله فإنه لا يخلو في جميع أحواله عن حركة وسكون فإذا راقب الله تعالى في جميع ذلك قدر على عبادة الله تعالى فيها بالنية وحسن الفعل ومراعاة الأدب فإن كان قاعدا مثلا فينبغي أن يقعد مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم خير المجالس ما استقبل به القبلة ولا يجلس متربعا إذ لا يجالس الملوك كذلك وملك الملوك مطلع عليه قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله جلست مرة متربعا ، فسمعت هاتفا يقول : هكذا تجالس الملوك فلم أجلس بعد ذلك متربعا وإن كان ينام .

فينام على اليد اليمنى مستقبل القبلة مع سائر الآداب التي ذكرناها في موضعها فكل ذلك داخل في المراقبة بل لو كان في قضاء الحاجة فمراعاته لآدابها وفاء بالمراقبة .

فإذن لا يخلو العبد إما أن يكون في طاعة أو في معصية أو في مباح .

فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال ومراعاة الأدب وحراستها عن الآفات .

وإن كان في معصية فمراقبته بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكر .

وإن كان في مباح فمراقبته بمراعاة الأدب ثم بشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها .

ولا يخلو العبد في جملة أحواله عن بلية لا بد له من الصبر عليها ونعمة لا بد له من الشكر عليها وكل ذلك من المراقبة .

بل لا ينفك العبد في كل حال من فرض لله تعالى عليه إما فعل يلزمه مباشرته أو محظور يلزمه تركه أو ندب حث عليه ليسارع به إلى مغفرة الله تعالى ويسابق به عباد الله أو مباح فيه صلاح جسمه وقلبه وفيه عون له على طاعته ولكل واحد من ذلك حدود لا بد من مراعاتها بدوام المراقبة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فينبغي أن يتفقد العبد نفسه في جميع أوقاته في هذه الأقسام الثلاثة فإذا كان فارغا من الفرائض وقدر على الفضائل فينبغي أن يلتمس أفضل الأعمال ليشتغل بها فإن من فاته مزيد ربح وهو قادر على دركه فهو مغبون والأرباح تنال بمزايا الفضائل فبذلك يأخذ العبد من دنياه لآخرته كما قال تعالى ولا تنس نصيبك من الدنيا .

وكل ذلك إنما يمكن بصبر ساعة واحدة فإن الساعات ثلاث ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية .

وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ولا يدري ما يقضي الله فيها وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى .

ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها بل يكون ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة وتكون جميع أحواله مقصورة على ما رواه أبو ذر رضي الله تعالى عنه من قوله عليه السلام لا يكون المؤمن ظاعنا إلا في ثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم .

وما روي عنه أيضا في معناه وعلى العاقل أن تكون له أربع ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب فإن في هذه الساعة عونا له على بقية الساعات .

ثم هذه الساعات التي هو فيها مشغول الجوارح بالمطعم والمشرب لا ينبغي أن يخلو عن عمل هو أفضل الأعمال وهو الذكر والفكر فإن الطعام الذي يتناوله مثلا فيه من العجائب ما لو تفكر فيه وفطن له كان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح .

والناس فيه أقسام قسم ينظرون إليه بعين التبصر والاعتبار فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به وكيفية تقدير الله لأسبابه وخلق الشهوات الباعثة عليه وخلق الآلات المسخرة للشهوة فيه كما فصلنا بعضه في كتاب الشكر وهذا مقام ذوي الألباب .

وقسم ينظرون فيه بعين المقت والكراهة ويلاحظون وجه الاضطرار إليه وبودهم لو استغنوا عنه ولكن يرون أنفسهم مقهورين فيه مسخرين لشهواته وهذا مقام الزاهدين .

وقوم يرون في الصنعة الصانع ويترقون منها إلى صفات الخالق فتكون مشاهدة ذلك سببا لتذكر أبواب من الفكر تنفتح عليهم بسببه وهو أعلى المقامات وهو من مقامات العارفين وعلامات المحبين إذ المحب إذا رأى صنعة حبيبه وكتابه وتصنيفه نسي الصنعة واشتغل قلبه بالصانع وكل ما يتردد العبد فيه صنع الله تعالى فله في النظر منه إلى الصانع مجال رحب إن فتحت له أبواب الملكوت وذلك عزيز جدا .

التالي السابق


(النظر الثاني للمراقبة عند الشروع في العمل وذلك بتفقد كيفية العمل ليقضي حق الله فيه ويحسن النية في إتمامه ويكمل صورته ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه ) سادا لمظان الآفات الداخلة عليه ولا يمكن هذا إلا بعد التثبت والتمييز فإذا اعتبر ذلك ورجح عنده أحد العلمين بصحة المعرفة أقبل عليه بكنه الهمة بسببه وآدابه وهيئاته (وهذا ملازم له في جميع أحواله فإنه لا يخلو في جميع أحواله عن حركة وسكون فإذا راقب الله تعالى في جميع ذلك قدر على عبادة الله تعالى فيها بالنية وحسن الفعل ومراعاة الأدب فإن كان قاعدا مثلا فينبغي أن يقعد مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم خير المجالس ما استقبل به القبلة ) ، رواه الحاكم في حديث طويل وابن جرير من حديث ابن عباس ورواه أبو نعيم وفي طريقه الديلمي من حديث ابن عمر ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق إلا أنه قال أكرم المجالس ما استقبل بها القبلة وقد تقدم في كتاب الصلاة .

(ولا يجلس متربعا ) ، بل كهيئة التشهد (إذ لا يجالس الملوك كذلك وملك الملوك ) جل جلاله (مطلع عليه قال إبراهيم بن أدهم ) رحمه الله تعالى (جلست مرة متربعا ، فسمعت هاتفا يقول : هكذا تجالس الملوك فلم أجلس بعد ذلك متربعا ) ، رواه أبو نعيم في الحلية (وإن كان ينام فينام على اليد اليمنى مستقبل القبلة مع ) مراعاة (سائر الآداب التي ذكرناها في مواضعها ) من هذا الكتاب (فكل ذلك داخل في المراقبة بل لو كان في قضاء الحاجة فمراعاته لآدابها وفاء بالمراقبة ) وهكذا جميع الأعمال (فإذا لا يخلو العبد إما أن يكون في طاعة أو في معصية أو في مباح فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال ) بأن يخلص فيها ولا ينقصها (ومراعاة الآداب ) والاحترام (وحراستها ) أي : الطاعة (عن ) مظان (الآفات ) العارضة عليها (وإن كان في معصية فمراقبته بالتوبة والندم والإقلاع والحياء ) واستشعار الهيبة والانكسار (والاشتغال بالتكفير ) بإتباع السيئة الحسنة (وإن كان في مباح فمراقبته بمراعاة الأدب ثم بشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها ولا يخلو العبد في جملة أحواله عن بلية لا بد له من الصبر عليها ونعمة لا بد ) له (من الشكر عليها وكل ذلك من المراقبة بل [ ص: 108 ] لا ينفك العبد في كل حال من فرض الله عليه إما فعل يلزمه مباشرته أو محظور يلزمه تركه أو ندب حث عليه يسارع به إلى مغفرة الله تعالى ويسابق به عباد الله أو مباح فيه صلاح جسمه وقلبه وفيه عون له على طاعته ولكل واحد من ذلك حدود ) معلومة (لا بد من مراعاتها بدوام المراقبة ) قال الله تعالى : (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فينبغي أن يتفقد العبد نفسه في جميع أوقاته في هذه الأقسام الثلاثة فإن كان فارغا عن الفرائض ) بأن كان قد أداها (وقدر على الفضائل ) وهي الزائد على الفرائض (فينبغي أن يلتمس أفضل الأعمال ليشتغل بها ) ويعمر بها أوقاته (فإن من فاته مزيد ربح وهو قادر على دركه فهو مغبون ) في تجارته (والأرباح تنال بمزايا الفضائل فبذلك يأخذ العبد من دنياه ) ما يكون ذخيرة (لآخرته كما قال تعالى ولا تنس نصيبك من الدنيا ) أي : فالدنيا مزرعة للآخرة منها يتزود للمعاد (وكل ذلك إنما يمكن بصبر ساعة واحدة فإن الساعات ثلاثة ) لا غير منها (ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو في رفاهية و ) منها (ساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ولا يدري ما يقضي الله فيها ) فهو غيب (و ) منها (ساعة راهنة ) وهي الموجودة في الحال (ينبغي أن يجاهد نفسه فيها ويراقب فيها ربه ) ولله در القائل :

ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها

(فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من ) الساعة (الأولى ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها بل يكون ابن وقته ) قال القشيري في الرسالة وقد يعنون بالوقت ما هو فيه من الزمان فإن قوما قالوا الوقت ما بين الزمانين يعني الماضي والمستقبل ويقولون الصوفي ابن وقته يريدون بذلك أنه مشتغل بما هو أولى به في الحال قائم بما هو مطالب به في الحين وقيل الفقير لا يهمه ماضي وقته وآتيه بل يهمه وقته الذي هو فيه وقيل الاشتغال بفوات وقت ماض تضييع وقت يأتي . اهـ .

(كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحال وتكون جميع أحواله مقصورة على ما رواه أبو ذر ) الغفاري (رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم لا يكون المؤمن ظاعنا إلا في ثلاث تزود لمعاد أو مرمة ) أي : إصلاح (لمعاش أو لذة في غير محرم ) قال العراقي رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال إنه في صحف موسى وقد تقدم . اهـ .

قلت ورواه الفريابي والحسن بن سفيان والطبراني ومن طرقهم أبو نعيم في الحلية قال الطبراني حدثنا أحمد بن أنس بن مالك قال هو وأبو سفيان والفريابي أخبرنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثني أبي عن جده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال دخلت المسجد وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده فجلست إليه فقال يا أبا ذر إن للمسجد تحية وإن تحيته ركعتان ثم ساقوا الحديث بطوله في مساءلة أبي ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه فقلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالا كلها فذكر فيها وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث فذكروا باقي الحديث (وما روي عنه أيضا في معناه وعلى العاقل أن تكون له أربع ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب فإن في هذه الساعة عونا له على بقية الساعات ) قال العراقي هو بقية الحديث الذي قبله قلت هذه الجملة ذكرت في الحديث السابق قبل الجملة المذكورة آنفا ولفظهم وكان فيها أمثال على العاقل [ ص: 109 ] ما لم يكن مغلوبا على عقله أن تكون له ساعات وذكروه كسياق المصنف إلا أنه إلى قوله للمطعم والمشرب وقال أبو نعيم بعد أن ساق الحديث بطوله السياق للحسن بن سفيان ورواه المختار بن غسان عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إدريس رواه علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي ذر ورواه عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر ورواه معاوية بن صالح عن محمد بن أيوب عن ابن عائذ عن أبي ذر ورواه ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر بطوله تفرد به يحيى بن سعيد العبشمي وقد تقدم ذلك (ثم هذه الساعة التي هو فيها مشغول الجوارح بالمطعم والمشرب لا ينبغي أن يخلو عن عمل هو أفضل الأعمال وهو الذكر والفكر فإن الطعام الذي يتناوله مثلا فيه من العجائب ما لو تفكر فيه وفطن له كان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح والناس فيه أقسام ) منهم (قسم ينظرون إليه بعين التبصرة والاعتبار فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به وكيفية تقدير الله لأسبابه وخلق الشهوة الباعثة عليه وخلق الآلات المسخرة للشهوة فيه كما فصلنا بعضه في كتاب الشكر وهذا مقام ذوي الألباب و ) منهم (قسم ينظرون فيه بعين المقت والكراهة ويلاحظون وجه الاضطرار إليه بودهم ) أنهم (لو استغنوا عنه ) لكان أجمع لهممهم (ولكن يرون أنفسهم مقهورين فيه ) مضطرين إليه (مسخرين لشهواته) فيتناولونه ناظرين لذلك (وهذا مقام الزاهدين و ) منهم (قسم يرون في الصنعة الصانع ويترقون منها إلى صفات الخالق فتكون مشاهدة ذلك سببا لتذكر أبواب من الفكرة تتفتح عليهم بسببه وهو أعلى المقامات وهو من مقامات العارفين وعلامات المحبين إذ المحب إذا رأى صنعة حبيبه وكتابه وتصنيفه نسي الصنعة واشتغل قلبه بالصانع وكلما يتردد العبد فيه من صنع الله تعالى فله في النظر منه إلى الصانع مجال رحب إن فتحت له أبواب الملكوت وذلك عزيز جدا ) ودوامه أعز منه .




الخدمات العلمية