الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
صفة حائط الجنة وأراضيها ، وأشجارها ، وأنهارها .

تأمل في صورة الجنة ، وتفكر في غبطة سكانها ، وفي حسرة من حرمها ; لقناعته بالدنيا عوضا عنها ، فقد قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن حائط الجنة لبنة من فضة ، ولبنة من ذهب ، ترابها زعفران ، وطينها مسك وسئل صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة ، فقال : درمكة بيضاء ، مسك خالص وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سره أن يسقيه الله عز وجل الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا ، ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا أنهار الجنة تتفجر من تحت تلال أو تحت جبال المسك ولو كان أدنى أهل الجنة حلية عدلت بحلية أهل الدنيا جميعها ، لكان ما يحليه الله عز وجل به في الآخرة أفضل من حلية الدنيا جميعها .

التالي السابق


( صفة حائط الجنة، وأرضها، وأشجارها، وأنهارها )

(تأمل) هداك الله تعالى (في صورة الجنة، وتفكر في غبطة سكانها، وفي حسرة من حرمها; لقناعته بالدنيا) الفانية (عوضا عنها، فقد قال أبو هريرة ) -رضي الله عنه-: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن حائط الجنة لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، ترابها زعفران، وطينها مسك) . قال العراقي : رواه الترمذي، بلفظ: وبلاطها المسك. وقال: ليس إسناده بذاك القوي، وليس عندي بمتصل، ورواه البزار من رواية أبي سعيد، بإسناد فيه مقال، ورواه موقوفا عليه بإسناد صحيح، اهـ .

قلت: سياق المصنف أورده البيهقي في البعث، من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي هريرة، ومن هذا الطريق أخرجه البزار في مسنده، وفي الغيلانيات: حدثنا أبو بكر الشافعي، حدثنا أحمد بن محمد بن عبيدة، حدثنا أحمد بن حفص، حدثني أبي، حدثنا إبراهيم، عن مطر ابن طهمان، عن العلاء بن زياد، عن أبي هريرة، رفعه: حائط الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، ومحابرهم اللؤلؤ، وأمشاطهم الذهب . رجال هذا السند رجال الصحيح، أخرجه البيهقي في البعث، عن أبي الحسن العلوي، عن أبي حامد البزار، عن أحمد بن حفص به مختصرا هكذا .

وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا فاروق، وحبيب في جماعة قالوا: حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة . رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مثله، وزاد: ترابها الزعفران، وطينها المسك. حدثناه أبو عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- [ ص: 531 ] قال: الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وترابها الزعفران، وطينها المسك . رواه معمر، عن قتادة، عن العلاء، عن أبي هريرة موقوفا: درجها الياقوت، ورضراض أنهارها اللؤلؤ، وترابها الزعفران . قلت: ورواه ابن المبارك في الزهد، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة نحوه .

وأخبرنا عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي، قال: أخبرنا علي بن عبد القادر الطبري، أخبرنا والدي، أخبرنا جدي إمام المقام يحيى بن مكرم الطبري، أخبرنا الحافظ أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي، أخبرنا الحافظ شهاب الدين أبو الفضل العسقلاني، أخبرنا إبراهيم بن أحمد البعلي، أخبرنا أحمد بن أبي طالب، أخبرنا عبد الله بن عمر، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى، أخبرنا أبو الحسن الداودي، أخبرنا أبو محمد السرخسي، أخبرنا إبراهيم بن خزيم، أخبرنا عبد بن حميد، قال: حدثنا سليمان بن داود، عن زهير بن معاوية، حدثنا سعد أبو مجاهد الطائي، حدثني أبو المدلة : أنه سمع أبا هريرة، يقول: قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وحصباؤها اللؤلؤ، والياقوت، وملاطها المسك، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، هذا حديث حسن، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا المدلة مولى عائشة، واسمه عبيد الله، وقد وثقه ابن حبان، ورواه أحمد، وهناد، وابن حبان، والبيهقي في البعث، من هذا الوجه، وأخرجه الترمذي، من طريق حمزة الزيات، عن زياد الطائي، عن أبي هريرة، وقال: ليس إسناده بالقوي، ولا بالمتصل، وله إسناد آخر إلى أبي هريرة، اهـ .

وكأنه يشير إلى ما تقدم من رواية العلاء بن زياد، عن أبي هريرة، وله شاهد آخر بالسند السابق، إلى الحافظ العسقلاني، عن مريم بنت أحمد الأذرعية، عن يونس بن إبراهيم، قال: أنبأنا أبو الحسن بن المقير، أخبرنا أبو الفضل بن ناصر في كتابه، عن أبي القسم بن منده، قال: أخبرنا أحمد بن علي الأصبهاني، أخبرنا أبو عمرو بن حمدان، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا علي بن صالح، عن عمرو بن ربيعة، عن الحسن، عن ابن عمر، قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الجنة، كيف هي؟ قال: من يدخل الجنة يحيا لا يموت، وينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، قيل: يا رسول الله، كيف بناؤها؟ قال: لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، ملاطها مسك أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ، والياقوت، وترابها الزعفران . رجاله رجال الصحيح، إلا عمرو بن ربيعة .

ومن هذا الوجه رواه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، في صفة الجنة، والطبراني، وابن مردويه، وأما قول العراقي : ورواه البزار، من حديث أبي سعيد ... إلخ. فقال البيهقي في البعث: أخبرنا علي بن أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا سهل بن بكا، وحدثنا وهب بن خالد، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله أحاط حائط الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، ثم شقق فيها الأنهار، غرس فيها الأشجار، فلما نظرت الملائكة إلى حسنها، وزهرتها، قالت: طوباك منازل الملوك . محمد بن يونس هو الكديمي، حافظ لكنه متهم بالوضع، لكن لم ينفرد به، فقد أخرجه البزار، عن محمد بن المثنى، عن حجاج عن حماد بن سلمة، عن الجريري به موقوفا، وعن بشر بن آدم، عن يونس بن عبيد الله، عن عدي بن الفضل، عن الجريري به مرفوعا، وقال: لا نعلم أحدا رفعه إلا عدي، وليس بالحافظ، قال الحافظ السيوطي في أمال الدرة: إن وهب بن خالد تابعه على رفعه، اهـ، قلت: ورواه من هذا الوجه الطبراني، وابن مردويه، والله أعلم .

(وسئل - صلى الله عليه وسلم- عن تربة الجنة، فقال: درمكة بيضاء، مسك خالص) . قال العراقي : رواه مسلم من حديث أبي سعيد : أن ابن صياد سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فذكره، اهـ .

قلت: وكذلك رواه ابن أبي شيبة، وأحمد، وروى ابن أبي الدنيا في صفة الجنة، من حديث أبي هريرة : أرض الجنة بيضاء، عرصاتها صخور الكافور، وقد أحاط به المسك، على كثبان الرمل، فيها أنهار مطردة، فيجتمع فيها أهل الجنة، أولهم وآخرهم، فيتعارفون، فيبعث الله ريح الرحمة، فيهيج عليهم المسك، فيرجع الرجل إلى زوجته وقد ازداد حسنا، وطيبا، فتقول: لقد خرجت من عندي وأنا بك معجبة، وأنا بك الآن أشد إعجابا .

وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن سعيد بن جبير، قال: أرض الجنة فضة. وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة، وأبو الشيخ في العظمة، عن أبي زميل، أنه سأل ابن عباس، ما أرض الجنة؟ قال: مرمرة بيضاء من فضة، كأنها مرآة، قال: ما نورها؟ [ ص: 532 ] قال: ما رأيت الساعة التي تطلع فيها الشمس؟ فذلك نورها، إلا أنه ليس فيها شمس، ولا زمهرير، قال: ما أنهارها؟ أفي أخدود؟ قال: لا، ولكنها تفيض على وجه الأرض، لا تفيض ههنا، ولا ههنا، قال: فما حللها؟ قال: فيها الشجر، فيها ثمر كأنه الرمان، فإذا أراد ولي الله منها كسوة انحدرت إليه من أغصانها، فانفلقت له عن سبعين حلة، ألوانا بعد ألوان، ثم تنطبق فترجع كما كانت، وروى البزار من حديث ابن عباس : إن الله خلق الجنة بيضاء.

(وقال أبو هريرة ) -رضي الله عنه-: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من سره أن يسقيه الله -عز وجل- الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا، ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا) . قال العراقي : رواه الطبراني في الأوسط، بإسناد حسن، والنسائي بإسناد صحيح: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة. اهـ .

قلت: فهم الحافظ العراقي أن الحديث تم إلى هنا; فلذا احتاج أن يورد عن الطبراني، والنسائي، ما في معناه، ثم قال: حديث: (أنهار الجنة تفجر من تحت تلال) المسك، (أو) قال: (تحت جبال المسك) ، شك من الراوي، رواه العقيلي في الضعفاء، من حديث أبي هريرة، ثم قال: حديث: (لو كان أدنى أهل الجنة حلية عدلت بحلية أهل الدنيا جميعها، لكان ما يحليه الله -عز وجل- به في الآخرة أفضل من حلية الدنيا جميعها) . رواه الطبراني في الأوسط، من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، انتهى. وإنما هو كله حديث واحد من رواية أبي هريرة، من أول قوله: من سره، إلى قوله: جميعها، وهكذا رواه البيهقي في البعث والنشور، وابن عساكر في التاريخ، مجموعا في متن واحد، من حديث أبي هريرة، وقالا: تحت تلال المسك، وقالا: عدلت الحلية أهل الدنيا جميعها، والباقي سواء، ولو كان مراد المصنف تفريق الحديث لميز كل قطعة منه على عادته، بقوله: وقال -صلى الله عليه وسلم-، فافهم .

وأما ما رواه عن الطبراني، والنسائي، فقد رواه أيضا الحاكم، وابن عساكر، بلفظ: لم يكسه في الآخرة. وفيه زيادة: ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة، لباس أهل الجنة، وشراب أهل الجنة، وآنية أهل الجنة.

وأما قوله: أنهار الجنة تفجر من تحت تلال، أو جبال المسك. فقد رواه ابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، من حديث أبي هريرة : أنهار الجنة من جبال مسك. ورواه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن حبان في التفسير، والبيهقي في البعث، وصححه، عن ابن مسعود، قال: إن أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.

وقال صاحب حادي القلوب: وأما أنهار الجنة، فقد مدحها القرآن الكريم، قال الله تعالى: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى .

وثبت في الصحيح: إن أنهار الجنة تفجر من الفردوس، وإن الفردوس وسط الجنة، وأعلاها . وثبت أيضا: إن الكوثر نهر في الجنة . وتقدم وصفه عند ذكر الحوض، وروى الترمذي وصححه، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد .

وروى ابن أبي الدنيا، عن أنس، قال: أظنكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض، لا والله، إنها السائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والآخر الياقوت، وطينه المسك الأذفر، قال: الذي لا خلط معه. وقد ذكر الله سبحانه عيون الجنة في مواضع من كتابه العزيز، قال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون وقال تعالى: عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا وقال تعالى: عينا فيها تسمى سلسبيلا وقال تعالى: فيهما عينان تجريان وقال تعالى: فيهما عينان نضاختان ومشارب الجنة منوعة، منها ما نبه عليه قوله تعالى: يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وقوله تعالى: يطاف عليهم بكأس من معين الآية، وقوله تعالى: وكأسا دهاقا وقوله تعالى: ويطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق الآية. وبالجملة: فأنهار الجنة، وعيونها، وجميع ما فيها، فوق ما تبلغه الأماني من الحسن، والكمال، اهـ .

قلت: ما رواه عن الترمذي، وصححه، فهو من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، رفعه: وكذلك رواه أحمد، والطبراني، وما أورده موقوفا على أنس، من رواية ابن أبي الدنيا، فقد رواه ابن مردويه، وأبو نعيم، والضياء المقدسي، كلاهما في صفة الجنة، عن أنس مرفوعا، وفيه: لعلكم تظنون، وفيه: قلت: يا رسول الله، ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط معه .

وروى ابن أبي الدنيا، وابن مردويه، والضياء من حديث أبي موسى : إن أنهار الجنة تشخب من جنة عدن، من جوب، ثم تصدع بعد أنهار.

وروى أحمد في الزهد، [ ص: 533 ] والدارقطني في المديح، عن المعتمر بن سليمان، قال: إن في الجنة نهرا ينبت الجواري الأبكار.

وروى ابن عساكر، من حديث أنس : في الجنة نهر يقال له الريان، عليه مدينة من مرجان، لها سبعون ألف باب من ذهب وفضة، لحامل القرآن. فيه كثير بن سليم متروك، وروى ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في البعث، عن مسروق، قال: أنهار الجنة تجري في غير أخدود، ونخل الجنة نضيد، من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما فرغت ثمرة عادت كما كانت مكانها أخرى، والعنقود اثنا عشر ذراعا.

وروى أبو الشيخ في العظمة، والحاكم في التاريخ، والديلمي من حديث أبي سعيد : إن في الجنة لنهرا ما يدخله جبريل، من دخله فيخرج منه فينتفض إلا خلق الله -عز وجل- من كل قطرة تقطر منه ملكا.

ومن جملة أنهار الجنة، نهر يقال له: رجب. وروي في الخبر: إن في الجنة نهرا يقال له: رجب، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر . رواه الشيرازي في الألقاب، وأبو الشيخ في العظمة، وابن شاهين في الترغيب، وأبو الشيخ في الثواب، والبيهقي، والخليل بن عبد الجبار القزويني في كتاب فضائل رجب وشعبان ورمضان، وابن النجار من طرق عن أنس، مرفوعا، ومن أنهار الجنة نهر يقال له البيذخ، سيأتي ذكره للمصنف بعد .




الخدمات العلمية