الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
نختم الكتاب بباب في سعة رحمة الله تعالى على سبيل التفاؤل بذلك .

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل وليس لنا من الأعمال ما نرجو به المغفرة فنقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في التفاؤل ونرجو أن يختم عاقبتنا بالخير في الدنيا والآخرة ، كما ختمنا الكتاب بذكر رحمة الله تعالى .

فقد قال الله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وقال تعالى : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما .

ونحن نستغفر الله تعالى من كل ما زلت به القدم ، أو طغى به القلم ، في كتابنا هذا وفي سائر كتبنا ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا ، ونستغفره مما ادعيناه وأظهرناه من العلم والبصيرة بدين الله تعالى مع التقصير فيه ، ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه الكريم ثم خالطه غيره ، ونستغفره من كل وعد وعدناه به من أنفسنا ثم قصرنا في الوفاء به ، ونستغفره من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته ، ونستغفره من كل تصريح وتعريض بنقصان ناقص وتقصير مقصر كنا متصفين به ، ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف تزينا للناس في كتاب سطرناه أو كلام ، نظمناه ، أو علم أفدناه ، أو استفدناه ، ونرجو بعد الاستغفار من جميع ذلك كله ، لنا ولمن طالع كتابنا هذا أو كتبه أو سمعه أن نكرم بالمغفرة ، والرحمة ، والتجاوز عن جميع السيئات ، ظاهرا وباطنا ، فإن الكرم عميم ، والرحمة واسعة ، والجود على أصناف الخلائق فائض .

ونحن خلق من خلق الله عز وجل ، لا وسيلة لنا إليه إلا فضله وكرمه ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله تعالى مائة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس ، والطير ، والبهائم ، والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وأخر تسعا وتسعين رحمة ، يرحم بها عباده يوم القيامة .

التالي السابق


(نختم الكتاب بباب في ذكر سعة رحمة الله تعالى)

(على سبيل التفاؤل بذلك، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب الفأل) ، وهو مهموز، ويجوز التخفيف، هو: أن نسمع كلاما حسنا، فتتيمن به، وإن كان قبيحا فهو الطيرة. وجعل أبو زيد الفأل في سماع الكلامين، قال العراقي : متفق عليه من حديث أنس، في أثناء حديث: ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة. ولهما من حديث أبي هريرة : وخيرها الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم. اهـ .

قال الحليمي : الفرق بين الفأل والطيرة : أن الطيرة سوء ظن بالله، من غير سبب ظاهر يرجع الظن إليه، والتيمن بالفأل حسن ظن بالله، وتعليق تجديد الأمل به، وذلك بالإطلاق محمود .

روى ابن ماجه، وابن حبان من حديث أبي هريرة : كان يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطيرة . قال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، وروى أبو داود من طريق وهيب بن سهيل، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع كلمة فأعجبته، فقال: أخذنا ذلك من فيك.

وروى العسكري في الأمثال، والخلعي في فؤائده، من طريق محمد بن يونس، حدثنا عون بن عمارة، حدثنا السري بن يحيى، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل الحسن، فسمع عليا يوما يقول: هذه خضرة، فقال: لبيك، قد أخذنا فالك من فيك، فاخرجوا بنا إلى خضرة، قال فخرجوا إلى خيبر، فما سل فيها سيف إلا سيف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-. زاد العسكري : حتى فتحها الله -عز وجل-. ومن كلمات الصوفية : ألسنة الخلق أقلام الحق، ومن قول العامة: مصر بأفوالها .

(وليس لنا من الأعمال ما نرجو به المغفرة) لذنوبنا وتقصيراتنا، (فنقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التفاؤل) ، فقد روى أحمد، والطبراني من حديث ابن عباس : كان يتفاءل ولا يتطير، وكان يحب الاسم الحسن. (ونرجو أن يختم عاقبتنا بالخير في الدنيا والآخرة، كما ختمنا الكتاب بذكر رحمة الله تعالى، فقد قال الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وقال تعالى: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ونحن نستغفر الله تعالى من كل ما زل به القدم، أو طغى به القلم، في كتابنا هذا) ، المسمى بالإحياء، (وفي سائر كتبنا) ، التي ألفناها قبل هذا، أو سنؤلفه فيما بعد، (ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا، ونستغفره مما ادعيناه وأظهرناه من العلم والبصيرة بدين الله تعالى مع التقصير فيه، ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه الكريم ثم خالطه غيره، ونستغفره من كل وعد وعدناه من أنفسنا ثم قصرنا في الوفاء به، ونستغفره من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته، ونستغفره من كل تصريح وتعريض بنقصان ناقص وتقصير مقصر كنا متصفين به، ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف تزينا للناس في كتاب سطرناه، وكلام نظمناه، أو علم أفدناه، أو استفدناه، ونرجو بعد الاستغفار من جميع ذلك كله، لنا ولمن طالع كتابنا هذا) ، مطالعة استفادة واعتبار، (أو كتبه) لنفسه، أو لغيره، (أو سمعه) من لسان آخر، في تدريس، أو مذاكرة .

ويدخل في قوله: أو كتبه، [ ص: 557 ] من خدمه بتخريج أخباره، وآثاره، وشرح كلماته، وفك رموزه، وأسراره، أو بحسن ترتيبه واختصاره، (أن يكرم بالمغفرة، والرحمة، والتجاوز عن جميع السيئات، ظاهرا، أو باطنا) ، وقد شملتنا بحمد الله تعالى هذه الدعوة الطاهرة، وأرجو من الله تعالى أن أكون من جملة من عنى به المصنف، وقد كان مجاب الدعوة، مقبول الشفاعة، وذكر غير واحد: أن من توسل به إلى الله تعالى في حاجة قضيت له، وها أنا متوسل به إلى المولى جل شأنه، أن يعيد علي وعلى سائر المؤمنين من بركات هذا الكتاب، ومؤلفه، ويميتنا، على كلمة الإخلاص، وأن يغفر لنا ذنوبنا، ما تقدم منها، وما تأخر، ويرحم فقرنا، ويجبر كسرنا، وينور قبورنا، ويثبتنا عند السؤال، ويؤنسنا في وحشة القبور، ويؤمننا يوم البعث والنشور، ويوفقنا لحسن طاعته، ويدخلنا في شفاعة حبيبه محمد -صلى الله عليه وسلم- وشفاعة خواص أمته، وأن يدخلنا الجنة، ويرفع درجاتنا فيها، ويجمع شملنا هناك بأحبابنا، ويقر أعيننا برضاه عنا، ويرينا وجهه الكريم، (فإن الكرم عميم، والرحمة واسعة، والجود على أصناف الخلائق فائض، ونحن خلق الله، لا وسيلة لنا إليه إلا فضله وكرمه، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن لله تعالى مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن، والإنس، والطير، والبهائم، والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وأخر تسعا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة) .

قال العراقي : رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وسلمان، اهـ. قلت: وكذلك رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة، وفيه بعد قوله: يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها ، والباقي سواء، ورواه البيهقي من حديث أبي هريرة، بلفظ: إن لله تعالى مائة رحمة، قسم منها رحمة في دار الدنيا، فمن ثم يعطف الرجل على ولده، والطير على فراخه، فإذا كان يوم القيامة صيرها مائة رحمة، فعاد بها على الخلق .

ورواه الحاكم، بلفظ: إن لله تعالى مائة رحمة، قسم منها رحمة بين أهل الدنيا فوسعتهم إلى آجالهم، وأخر تسعا وتسعين رحمة لأوليائه، وإن الله قابض تلك الرحمة التي قسمها بين أهل الدنيا إلى التسع والتسعين، فيكملها مائة رحمة لأوليائه يوم القيامة .

وروى مسدد في مسنده، من حديث سلمان، بلفظ: إن لله مائة رحمة، منها رحمة تتراحم بها الخلق، وتسعة وتسعين ليوم القيامة . ورواته ثقات .

وقال أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن داود، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: خلق الله مائة رحمة، فجعل منها رحمة بين الخلائق، كل رحمة أعظم مما بين السماء والأرض، فبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها يشرب الطير والوحش الماء، فإذا كان يوم القيامة قبضها الله من الخلائق، فجعلها والتسع والتسعين للمتقين، فذلك قوله: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون هكذا رواه موقوفا، ورواه الحاكم بنحوه من حديث أبي هريرة، ورواه الشيخان من حديث أبي هريرة : خلق الله مائة رحمة، فوضع رحمة واحدة بين خلقه، يتراحمون بها، وخبأ عنده مائة إلا واحدة .

وقال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، فجعل في الأرض منها رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والبهائم بعضها على بعض، وأخر تسعا وتسعين إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة رحمة . ومن هذا الوجه رواه أحمد، وابن ماجه، والضياء، ورواه أحمد، ومسلم، وابن حبان، من حديث أبي هريرة، بزيادة: كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض . والباقي سواء .

وروى الشيخان من حديث أبي هريرة : إن الله -عز وجل- خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، أرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار .

وروى الطبراني من حديث ابن عباس : إن الله تعالى خلق مائة رحمة، رحمة منها قسمها بين الخلائق، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة . وروى تمام في فوائده، وابن عساكر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، رفعه: إن الله خلق مائة رحمة، فبث بين خلقه رحمة واحدة، فهم يتراحمون بها، وادخر عنده لأوليائه تسعة وتسعين . ورواه الطبراني بنحوه .



(تنبيه)

قال التوربشتي : رحمة الله تعالى غير متناهية، فلا يعتورها التقسيم، والتجزئة، وإنما قصد من ذكره ضرب المثل للأمة; ليعرفوا التفاوت بين القسطين، قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة المربوبين في الأولى، فجعل مقدار حظ الفئتين من الرحمة في الدارين على الأقسام المذكورة، تنبيها على المستعجم، وتوقيفا على المستفهم، ولم يرد به [ ص: 558 ] تحديد ما قد جل عن الحد، أو تعديد ما تجاوز العد، اهـ .

وقال المهلب : الرحمة رحمتان، رحمة من صفة الذات، وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل، وهي هذه. وقال العارف البوني -رحمه الله تعالى-: الذاتية واحدة، ورحمته المتعدية متعددة، وهي كما في هذا الخبر مائة، ففي الأرض منها واحدة، يقع بها الارتباط بين الأنواع، وبها يكون حسن الطباع، والميل بين الجن، والإنس، والبهائم، كل شكل إلى شكله، والتسعة والتسعون حظ الإنسان يوم القيامة، تتصل بهذه الرحمة، فتكمل مائة، فيصعد بها في صرح الجنة، حتى يرى ذات الرحيم، ويشاهد رحمته الذاتية .




الخدمات العلمية