الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وذلك مثل القائل بين أيدي الملك المدعي على رعيته أنه رسول الملك إليهم فإنه مهما قال لذلك إن كنت صادقا فقم على سريرك ثلاثا واقعد على خلاف عادتك ففعل الملك ذلك حصل للحاضرين علم ضروري بأن ذلك نازل منزلة قوله : صدقت .

التالي السابق


ثم أورد المصنف مثلا مشهورا في كتب القوم ضربوه لشأن الرسول ومرسله سبحانه في تصديقه إياه بإيجاد الخارق على وفق دعواه، فقال: (وذلك) التصديق للرسول بإيجاد المعجزة على وفق دعوى النبوة (مثل القائم بين يدي الملك) أي: كتصديق القائم بين يدي ملك من ملوك الدنيا (المدعي على رعيته أنه رسول) ذلك (الملك) إليهم، وهو مقبل إليهم بحضرة الملك (فإنه) أي: ذلك المدعي للرسالة عن الملك (مهما قال للملك) المرسل له (إن كنت صادقا) فيما نقلت عنك من الرسالة إلى هؤلاء (فقم على سريرك ثلاثا واقعد) أي: افعل ذلك (على خلاف) عادتك في القيام والقعود، (ففعل الملك ذلك) كما أشار له (حصل) قطعا (للحاضرين) من الرعية (علم ضروري) قطعي (بأن) الملك قد صدقه، وأنه (نازل منزلة قوله: صدقت) .

وقد اختلفت الأصحاب في تصوير هذا المثل، ففي غاية المرام لابن البياضي ما نصه: كما إذا قام رجل من مجلس ملك بحضور جماعة وادعى أنه رسول ذلك الملك، فطالبوه بالحجة، فقال: هي أن يخالف ذلك الملك عاداته ويقوم عن سريره ثلاث مرات ويقعد. ففعل; فإنه يكون تصديقا له، ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب .

وفي اللمع لإمام الحرمين: ووجه دلالتها على صدق النبي أنها تتنزل منزلة التصديق بالقول، ونظيره من الشاهد أن يتصدى ملك للناس، ويأذن لهم بالولوج عليه، فإذا احتفوا به وأخذ كل منهم مجلسه قام رجل من أهل الجمع وقال: إني رسول الملك إليكم، وقد ادعيت الرسالة بمرأى منه ومسمع، وآية رسالتي أن الملك يخالف عادته ويقوم ويقعد إذا استدعيت منه ذلك، أيها الملك صدقني وقم واقعد، فإذا فعل الملك ما استدعاه كان ذلك تصديقا له بمنزلة قوله: صدقت .

وفي شرح الحاجبية: فإن تصديق الله إياه بالمعجزة يحصل عادة منها، كما نجد من العلم من أنفسنا عادة من صدق الرجل إذا قام في مجلس ملك بحضور جماعة وادعى أنه رسول ذلك الملك بالحجة، وقال: حجتي أن يخالف هذا الملك عادته ويقوم عن سريره ثلاثا ويقعد. ففعل، فإنه يكون تصديقا له، ويحصل العلم بذلك للحاضرين لا محالة، وذلك ظاهر، وكذا الأمر في المعجزة، فإن الرسول يدعي الرسالة للمكلفين، ويقول: معنى آية صدقي أن يفعل الله كذا، والله يشاهد فعله ويسمع قوله، والعلم بذلك لابد منه، ثم يفعل الله جل جلاله ما ادعاه ذلك الرسول، فيحصل قطعا صدقه بموافقة الله إياه حيث فعل ما ادعاه .

وفي الاعتماد للنسفي: فإذا ادعى الرسالة ثم قال: آية صدقي في دعواي في أن الله تعالى أرسلني أن يفعل كذا، ففعل الله ذلك، كان ذلك من الله تصديقا له في دعواه الرسالة; فيكون ذلك [ ص: 212 ] كقوله له عقيب دعواه: صدقت; إذ التصديق بالفعل كالتصديق بالقول، ويستحيل من الحكيم تصديق الكاذب، ونظيره أن الملك العظيم إذا أذن للناس بالولوج عليه، ثم ساق العبارة كسياق اللمع سواء، ثم قال- بعد قوله: صدقت-: والناقض للعادة كما يكون فعلا غير معتاد يكون تعجيزا عن الفعل المعتاد، كمنع زكريا عليه السلام عن الكلام; إذ المنع عن المعتاد نقض للعادة أيضا. اهـ .

واقتصر ابن الهمام في المسايرة على قوله: إن كنت صادقا فيما نقلت عنك فقم على سريرك على خلاف عادتك.. إلخ; لأن القصد من العلم بتصديقه حاصل بالاقتصار عليه، وقول المصنف كغيره ممن تقدم ذكره: فقم على سريرك ثلاثا واقعد.. إلخ; لمزيد الاستظهار فيما يحصل به العلم، وقول المواقف: فقم من الموضع المعتاد لك في السرير واجلس مكانا لا تعتاده; تصوير آخر لمخالفة العادة .



(تنبيه)

وللملحدة على ما قرروه أسئلة:

*الأول: قالوا: مدعي الرسالة مشارك لنا في النوع والصورة، واختصاصه بالرسالة غير معلوم بالضرورة، ولا يقبل بمجرد دعواه; فإن الخبر يحتمل الصدق والكذب، واعتمادكم في صدقه على مجرد وقوع الخارق على وفق دعواه كيف يدل مع أنا نشاهد وقوع كثير من الخوارق، والتوصل إليها بالخواص والسحر والتعزيم والطلسمات واستسخار الروحانيات وخدمة الكواكب، فبهم يتميز ما أتى به عن ذلك بسبب اتصالات فلكية غريبة اطلع عليها .

*الثاني: سلمنا أنه فعل الله تعالى، لكن لم قلتم: إنه إنما خلقه لتصديقه؟ فظاهر أنه ليس كذلك، أما على أصول الأشعري فلأنهم لا يقولون: إن أفعال الله تعالى متوقفة على الأغراض، ولا يقبح منه شيء عندهم، وأما على أصول المعتزلة فنقول: لما قلتم: إنه لا غرض لله تعالى في خلق ذلك إلا التصديق، وذلك لا يعرف، وشرطه العلم بالعدم، لا عدم العلم .

*الثالث: قالوا: من مذهبكم أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وإذا كان كذلك فما المانع من أن يخلق ذلك على يد الكاذب للإضلال؟

*الرابع: إنكم احتججتم بالخارق، وبم يعلم أن الذي أتى به هذا المدعي خارق، ولعله معتاد في قطر آخر، أو يكون عادة متطاولة، أو يكون ابتداء عادة تستمر، وحينئذ لا يدل .

*الخامس: ادعيتم الدلالة على صدقه، ثم قررتم ذلك بأن المعجزة تتنزل منزلة التصديق بالقول ضرورة تارة. وتارة قلتم: تخصيصه بها يدل على إرادة تصديقه بالضرورة. وتارة قلتم: يدل على صدقه عادة بالضرورة، فإذا كان مآلكم إلى دعوى فادعوا أنه صادق بالضرورة، وحينئذ لا يتم مرادكم .

*السادس: إنكم ادعيتم الضرورة، ثم قستم الغائب على الشاهد بالمثال المذكور، وما يدل بالضرورة كيف يصح قياسه؟

*السابع: أن ما ذكرتموه من المثال لا يطابق ما ادعيتموه; فإن العلم فيما استند إلى قضايا حسية مشاهدة، فإنا نشاهد الملك في الصورة المذكورة ونشاهد قيامه وقعوده، بخلاف مسألتكم; فإن الفاعل غائب عنا، وذلك ينافي قرائن الأحوال .

والجواب أن نقول: قولكم في السؤال الأول: قلتم: إن الخوارق يتوصل إليها بأسباب من الخواص والسحر وغير ذلك; قلنا: جميع ذلك لا يسلم مدعيه عن المعارضة بأمثاله، ثم من سنة الله تعالى في دفع هذا الاحتمال أنه لم يرسل رسولا بآية إلا من جنس ما هو الغالب على أهل عصره; ليكون عجزهم عن مثله حجة عليهم، ألا ترى أنه لما كان الغالب في زمان موسى عليه السلام تعلم السحر والتخييل جعل الله تعالى الحية التي تلقف ما صنعوا، واعترف أهل الصناعة وهم ألوف أن ذلك لا يتوصل إليه بالسحر; فآمنوا بالله تعالى، وخروا له ساجدين، وعجز أهل الصناعة واعترافهم بذلك أدل دليل على صحة الآية وصدق الآتي بها، وكذلك لما غلب في زمان عيسى عليه السلام تعلم الطب كان معجزاته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، مع اعتراف أهل صناعة الطب، وهم الجمع الكثير، بعجزهم عن ذلك، واعترافهم دليل على اختصاصه بذلك، ولما كان الغالب في زمان الخليل عليه السلام القول بالطبائع وتأثيرات الكواكب كان من آياته قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم في زمان قوم صناعتهم الفصاحة والنظم والنثر، حتى كان أحدهم إذا صنع قصيدة علقها على البيت، وقال: لا يأتي أحد بمثلها; كانت معجزته من ذلك الجنس، فعجز البلغاء والفصحاء، وهم العدد الكثير، عن [ ص: 213 ] المعارضة، وذلك دليل قاطع على أنه محض فعل الله تعالى، وليس من المكتسبات .

قولهم في السؤال الثاني: لم قلتم: إن الله تعالى إنما خلق ذلك للتصديق؟ قلنا: لما قررناه من الوجهين العقلي والعادي .

قولهم في السؤال الثالث: من مذهبكم أن الله تعالى يضل من يشاء ; قلنا: نعم. قولهم: فجوزوا خلق المعجزة على يد الكاذب؟ قلنا: من يرى المعجزة تدل عقلا فلا يجوز ذلك لما فيه من قلب الدليل شبهة، والعلم جهلا، والله يضل من يشاء، ولكن لا بالدليل، لما فيه من قلب الأجناس، وقلبها محال، ومن زعم أن دلالتها عادية جوز ذلك، ولكنا نعلم عدم وقوعه باستمرار العادات، كما نعلم أن الجبل في وقتنا لم ينقلب ذهبا إبريزا، وإن كان ذلك جائزا في قدرة الله تعالى، وكذلك نجزم بأن كل إنسان نشاهده من أبوين، وإن جاز في قدرة الله تعالى أن يكون مخلوقا من غير أبوين، كآدم وعيسى عليهما السلام، وتجويز ذلك لا يمنعنا من الجزم، ولو وقع ذلك لانسلت العلوم من الصدور .

قولهم في السؤال الرابع: بم علمتم أن ما أتى به خارق، ولعله معتاد في قطر، أو عادة متطاولة، أو ابتداء عادة؟ قلنا: كل عاقل يعلم أن إحياء الموتى، وقلب العصا ثعبانا، وإخراج ناقة من صخرة صماء ليس بمعتاد. وقولهم: لعله ابتداء عادة; قلنا: التحدي وقع بنفس الخارق للعادة، فلا يضر بعد ذلك أنه دام أو لم يدم، ثم هؤلاء يجب عليهم أن يصدقوا بالآيات التي أتت بها الأنبياء، وقد مضت ولم يعد مثلها .

قولهم في السؤال الخامس: ادعيتم الضرورة آخرا، فهلا ادعيتموها أولا؟ قلنا: كل دليل لابد أن ينتهي إلى الضرورة، ولا يمكن دعواها أولا، ثم نحن إنما قلنا: إن التخصيص يدل على إرادة تصديقه بالضرورة، ومن الأدلة ما يدل بالضرورة، ومنها ما يدل نظرا .

قولهم في السؤال السادس: إنكم ادعيتم الضرورة في وجه الدلالة، وقستم الغائب على الشاهد; قلنا: لم نقس، وإنما ضربنا مثلا .

قولهم في السؤال السابع: الفرق بين الشاهد والغائب أنا شاهدنا الفاعل وأفعاله; قلنا: نفرض ذلك في ملك من وراء ستر وتصدر باقتضاء مدعي الرسالة عنه أفعال نعلم أنها لا تصدر إلا منه، ويستوي حينئذ المثالان، والله أعلم .




الخدمات العلمية