الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الخامس والثلاثون

أن يقال: قول هؤلاء متناقض، والقول المتناقض فاسد. وذلك أن هؤلاء يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون بعض، وليس في المنتسبين إلى القبلة، بل ولا في غيرهم، من يمكنه تأويل جميع السمعيات.

وإذا كان كذلك قيل لهم: ما الفرق بين ما جوزتم تأويله، فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البين وبين ما أقررتموه؟

فهم بين أمرين: إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم: إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه، وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه.

فيقال لهم: فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء، فإن لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية، كما تقدم بيانه.

وأيضا فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي، فإنه -على قولكم-: إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولا له معنى مفهوم، وهو لا يريد ذلك، لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس، أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك- جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك، لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخالف ذلك، أو لكون ذلك ليس معلوما بدليل [ ص: 344 ] عقلي ونحو ذلك، فإنه إذا جاز أن يكون تصديق الناس له فيما أخبر به موقوفا على مثل ذلك الشرط، جاز أن يكون موقوفا على أمثاله من الشروط، إذ الجميع يشترك في أن الوقف على مثل هذا الشرط، يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به.

وإن قالوا بتأول كل شيء إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده، كان ذلك أبلغ، فإنه ما من نص وارد، إلا ويمكن الدافع له أن يقول: ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا.

فإن كان للمثبت أن يقول: أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده.

كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت أن يقول أيضا مثل ذلك.

ولا ريب أن المثبتين للعلو والصفات عندهم أن هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم لا يتناقضون، ومن نازعهم يتناقض، فإنه لا يمكنه أن يقول لغيره من النفاة شيئا، إلا أمكن أهل الإثبات للعلو أن يقولوا له: فإما أن تقبل مثل هذا، وإلا كان متناقضا لا يستقيم له قول عند واحد من الطوائف، وهذا يبين فساد قوله وهو المطلوب.

وهذا الذي ذكرناه بين في كلام كل طائفة، حتى في كلام المثبتين لبعض الصفات دون بعض، فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانونا فيما يتأول وما لا يتأول، بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع، فلا يقرون إلا بما يعلم ثبوته بدليل منفصل عن السمع، وهم لا يجوزون مثل ذلك، ولا يمكنهم أن يقولوا مثل ذلك. [ ص: 345 ]

فعلم أن قولهم باطل، وأن قولهم: لا نتأول إلا ما عارضه القطعي - قول باطل، ومع بطلان قولهم قد يصرحون بلازمه، وأنه لا يستفاد من السمعيات علم، كما ذكره الرازي وغيره، مع أنهم يستفيدون منها علما، فيتناقضون، ومن لم يتناقض منهم فعليه أن يقول: أخبار الرسول ثلاثة أقسام: ما علم ثبوته بدليل منفصل صدق به، وما علم أنه عارضه العقل القاطع كان مأولا، وما لا يعلم بدليل منفصل [لا يمكن] لا ثبوته ولا انتفاؤه، وكان مشكوكا فيه موقوفا.

وهذه حقيقة قولهم الذي ذكرناه أولا، وهو ما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مناقض لما أوجبه الرسول من الإيمان بأخباره، وأنه في الحقيقة عزل للرسول عن موجب رسالته، وجعل له كأبي حنيفة مع الشافعي، وأحمد بن حنبل مع مالك، ونحو ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية