الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والجواب الثامن: أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص: إذا احتججت على من ينفي، ما تثبته بالنصوص: كإثبات القدر إن كنت من المثبتين له، أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، إن كنت من المثبتين له، وإثبات وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الربا والخمر وغير ذلك من الشرائع، إن كنت من المثبتين له - إذا قال لك منازعك: هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها، فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك.

فإن قلت: ما أثبته معلوم بالاضطرار من الدين. قال لك أهل الإثبات للعلو: وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين.

فإن قلت: أنا لا أسلم هذا لكم. قالوا لك: ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة. [ ص: 135 ]

فإن قلت: لا يقدح في علمي الضروري منازعة غيري. قالوا لك: لا يقدح في علمنا الضروري منازعتك لنا.

فإن قلت: أنا إذا نازعني منازع في الضروريات التي عندي سكت عنه ولم أنازعه.

قيل لك: وهذا مما يمكن المثبت أن يقوله لك، كما تقوله لمنازعك أيضا، لكن أنت لا توفي بهذا، بل تتناقض وتخاصم أهل الإثبات وتنكر عليهم، بل قد تعاديهم أو تكفرهم، فإن كان ما فعلته سائغا لك، ساغ لأولئك النفاة أن يخاصموك ويعادوك ويكفروك، كما فعلت هذا بأهل الإثبات، وإن كنت تنكر على من يعاديك ويكفرك من النفاة لما أثبته، فأنكر على نفسك معاداتك وتكفيرك لأهل الإثبات لما نفيته.

وإن قلت: أنا لا أثق بصدقهم: أنهم يعلمون ذلك اضطرارا، أو لا أثق بخبرتهم بالعلم الضروري.

قيل لك: ومنازعك النافي لا يثق بصدقك وعلمك أيضا.

فإن قلت: هو يعلم من ديني وعقلي ما يوجب معرفته بصدقي وعلمي.

قيل لك: وأنت تعرف من دين أهل الإثبات وعقلهم، ما يوجب معرفتك بصدقهم وعلمهم.

وإن قلت: أنا أبين فساد العقليات التي يعارض به النفاة لما أثبته. قيل لك: والمثبتون لما تنفيه يثبتون فساد العقليات التي تعارضهم أنت بها. [ ص: 136 ]

وإن قلت: أنا وأولئك النفاة متفقون على النفي لما أثبته هؤلاء.

قيل لك: والطائفة الفلانية والفلانية متفقتان على النفي لما أثبته.

واعلم أنه ليس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق، حتى غلاة النفاة من الجهمية والقرامطة والفلاسفة، فإنهم لا بد أن يثبتوا شيئا من السمعيات بوجه من الوجوه، إذ لا يمكن أحدا من الطوائف أن ينفي جميع ما أثبته السمع من القضايا الخبرية والطلبية.

وإذا قال: أنا أثبت ما جاء به السمع لكوني علمته بالعقل، لا لمجيء السمع به أمكن أن يجاب بمثل ذلك في إثبات العلو والصفات أيضا، وأمكن أن يجاب بجواب آخر، وهو: أن كل من أقر بالنبوات بوجه من الوجوه، فلا بد له أن يثبت بأقوال الأنبياء ما تكون الحجة فيه مجرد قولهم، ولو أنه من الأمور العلمية السياسية، فإن هؤلاء كلهم لا بد لهم من العمل بالشرائع: إما في الظاهر، وإما للجمهور، وإما في أوائل سلوكهم.

وإن كان ممن لا يثبت النبوات بوجه، فلا بد له من العمل بقول غير الأنبياء، كالملوك والفلاسفة ونحوهم.

بل لا بد للإنسان أن يفهم كلام بني جنسه، إذ الإنسان مدني بالطبع، لا يستقل بتحصيل مصالحه، فلا بد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح، ولا يتم ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصده غيره. [ ص: 137 ]

وأي طريق فرض من الإشارة والعبارة والكتابة وغير ذلك - كان ذلك من جنس السمعيات والنقليات، فإن جماع ذلك ما به يعلم مراد الغير، فإن نفى ناف ذلك بطريق جعله معارضا له من عقلياته، فلا بد لمن أثبت ما يثبته من السمعيات أن يجيبه بجواب، فما كان جوابا له، كان نظيره جوابا لأهل الإثبات فيما علموا أنه مراد للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية