الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما ما ذكره عن النصارى، فليس هذا موضع بسطه، فإن قول النصارى مضطرب متناقض، فإنهم لا يثبتون ثلاثة جواهر قائمة بأنفسها، ولا يجعلون الأقانيم كالصفة من كل وجه، فإنهم يقولون: المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة، فإن جعلوا الكلمة هي الذات الموصوفة، لزم أن يكون المسيح هو الأب، وهم ينكرون ذلك. وإن جعلوه صفة الذات لزمهم أن لا يكون المسيح إلها خالقا رازقا؛ لأن الصفة ليست إلها خالقا رازقا.

وأيضا فالصفة لا تفارق الموصوف. وهم يقولون: المسيح إله حق، من إله حق، من جوهر أبيه. [ ص: 238 ]

وأما استدلاله بقوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [المائدة: 72]، فهذا يسلكه طائفة من الناس، ويقولون: قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [المائدة: 17]، إشارة إلى أحد أقوالهم الثلاثة، وهو قول اليعاقبة القائلين بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا، كالماء واللبن.

وقوله: وقالت النصارى المسيح ابن الله [التوبة: 30]، إشارة إلى قول الملكية.

وقوله: ثالث ثلاثة إشارة إلى قول النسطورية الذين يقولون بالحلول، وهو قولهم بالأقانيم الثلاثة.

وليس الأمر كما قال هؤلاء، بل ما ذكره الله تعالى هو قول النصارى جملة. فإنهم يقولون: إنه الله باعتبار، وإنه ابن الله باعتبار آخر. وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة بدليل: المراد به قوله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [المائدة: 116]، فعبدوا معه المسيح وأمه، فصار ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار.

وأما قوله عن الأشعرية: إذا قالوا الموصوف قائم بنفسه، والصفة قائمة به، فقد أوجبوا جوهرا وعرضا -فهذا من جنس إلزامه لهم أن يكون جسما.

فيقولون له: هذا يلزمك إذا قلت: هو حي عالم قادر، فإن الحي العالم القادر قائم بذاته، فإن كان كل قائم بذاته جوهرا، فهو جوهر، وإلا بطل إلزامك. [ ص: 239 ]

وأيضا فلو لم يوصف بذلك، لكان في نفس الأمر إما قائما بنفسه، وإما قائما بغيره؛ إذ فرض موجود ليس قائما بنفسه ولا بغيره ممتنع. فإن كان كل قائم بنفسه ولا بغيره ممتنع فإن كان كل قائم بنفسه هو جوهر، لزمك أن يكون جوهرا.

ثم يقال: من المعلوم أن للناس في مسمى الجوهر والعرض اصطلاحات. منهم من يسمي كل قائم بنفسه جوهرا، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين والنصارى والفلاسفة. وهؤلاء يسمونه جوهرا. ومنهم من لا يطلق الجوهر إلا على المتحيز، ويقول: إنه ليس بمتحيز، فلا يكون جوهرا، كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي المسلمين واليهود والفلاسفة.

ومن الفلاسفة من يقول بإثبات جواهر غير متحيزة، لكن يقول: الجوهر هو ما إذا وجد وجد لا في موضوع، وهذا لا يصلح إلا لما يجوز وجوده، لا لما يجب وجوده.

التالي السابق


الخدمات العلمية