الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا قال السلف والأئمة: "إن الله لم يزل متكلما إذا شاء" فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلما، بل نفس تكلمه بمشيئته قديم، وإن كان يتكلم شيئا بعد شيء، فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات، وهو المسمى بتناهي الحوادث.

والذي عليه السلف وجمهور الخلف: أن المقدورات المرادات لا تتناهى، وهم بهذا نزهوه عن كونه كان عاجزا عن الكلام، كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام، وعن أنه كان ناقصا فصار كاملا، وأثبتوا مع ذلك أنه قادر على الكلام باختياره.

وحجة عبد العزيز على المريسي تتم على هذا التقدير، ولا يكون مع الله في الأزل مخلوق.

التقدير الرابع: أنه لو قيل: "بأن كل ما سوى الله مخلوق، محدث [ ص: 279 ] كائن بعد أن لم يكن، فليس مع الله في أزله شيء من المخلوقات، لكنه لم يزل يفعل" ولم يوجب ذلك أن يكون معه شيء من المفعولات المخلوقات، وإنما يوجب ذلك كون نوع المفعول لم يزل، مع أن كل واحد من آحاده حادث لم يكن ثم كان معه، فليس من ذلك شيء مع الله في الأزل. وعبد العزيز لم يقل هذا ولم يلتزمه، بل ولا التزم شيئا من هذه التقديرات، ولا يلزمه واحد منها بعينه إلا بتقدير امتناع ما سواه، ولكن المقصود أن إلزام المريسي له بأن يكون المخلوق لم يزل مع الله لا يلزمه التزامه، فإنه على التقديرات الثلاث لا يلزم وجود شيء من المفعولات ولا نوعها في الأزل.

وأما على التقدير الرابع: فإنما يلزم أنه لم يزل نوع المفعول لا شيء من المفعولات بعينه.

وهذا التقدير إذا كان باطلا: فالمريسي لم يذكر إبطاله، ولا إبطال شيء من التقديرات، وهو لو أراد أن يبطل هذا لم يبطله إلا بإبطال التسلسل في الآثار، كما هو طريقة من أبطل ذلك من أهل الكلام، ولكن المريسي وموافقوه الذين يقولون: "بأن الله يخلق المخلوقات بغير فعل قائم به"، ويقولون: "الخلق هو المخلوق"، ويقولون: "إن المخلوقات كلها وجدت بعد أن لم تكن موجودة، من غير أن يتجدد من الله فعل ولا قصد ولا أمر من الأمور، بل ولا من غيره" - فيقولون: إن [ ص: 280 ] الأمر ما زال على وجه واحد، ثم حدثت جميع المحدثات، وكانت جميع المخلوقات، وليس هناك من الفاعل شيء غير وجودها، بل حاله قبل وجودها ومع وجودها وبعد وجودها واحد، لم يتجدد منه أمر يضاف الحدوث إليه.

فأصحاب القول الأول يلتزمون التسلسل مع قولهم: "بأن كل ما سوى الله محدث، كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه، لكن تحدث الحوادث شيئا بعد شيء، وهو محدثها بأفعاله سبحانه التي يفعلها أيضا شيئا بعد شيء" وأصحاب الثاني يقولون: "بل حدثت من غير سبب حادث" كما ترى.

ومن المعلوم: أنه إذا عرض على العقل القولان كان بطلان هذا القول أظهر من بطلان ذلك القول، فإن ترجيح أحد طرفي الممكن بغير مرجح، وتخصيص الشيء عن أمثاله التي تماثله من كل وجه بلا مخصص، وحدوث الحوادث جميعها بدون سبب حادث - بل مع كون الأمر قبل حدوثها ومع حدوثها على حال واحد - هو أبعد في المعقول، وأنكر في القلوب من كون المحدثات لم تزل تحدث شيئا بعد شيء، ومن كون الله سبحانه لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء، كما أنه لا يزال في الأبد يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء. [ ص: 281 ]

فلو قدر أن عبد العزيز والمريسي انتهيا إلى هاتين المقدمتين لم يكن للمريسي أن يلزم عبد العزيز بشيء إلا ألزمه عبد العزيز بما هو أشنع منه، فكيف وعبد العزيز لم يحتج إلى شيء من ذلك؟ بل بين أنه لا بد أن يكون قبل المخلوق ما به يخلق المخلوق من صفات الله وأفعاله، فيبطل ما يدعيه المريسي ونحوه من أن الله لا صفة له ولا كلام ولا فعل، بل خلق المخلوقات وخلق الكلام الذي سماه كلامه بلا صفة ولا فعل ولا كلام.

وهذان الجوابان اللذان يمكن عبد العزيز أن يجيب بهما عن إلزامه التسلسل يمكن معهما جواب ثالث مركب منهما، كما تقدم التنبيه على ذلك، وهو أن يقول:

إن كان التسلسل ممتنعا بطل هذا الإلزام، وإن كان ممكنا أمكن التزامه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع: أن المسلمين وغيرهم من أهل الملل القائلين بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، يمكنهم أن يجيبوا بمثل هذا الجواب للقائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم، المحتجين على ذلك بحجتهم العظمى التي اعتمد عليها ابن سينا وابن الهيثم وغيرهما حيث احتجوا على المعتزلة ونحوهم من [ ص: 282 ] أهل الكلام، فقالوا: الموجب التام للعالم إن كان ثابتا في الأزل لزم قدمه، وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإن لم يكن ثابتا في الأزل احتاج في حدوث تمامه إلى مرجح، والقول فيه كالقول في الأول، ويلزم التسلسل.

وعظم شأن هذه الحجة على هؤلاء المتكلمين، لأنهم يقولون ببطلان التسلسل، وبحدوث الحوادث من غير سبب حادث، ويقولون بأن المرجح التام يستلزم أثره، بل القادر أو المريد يرجح أحد مقدوريه أو أحد مراديه على الآخر بلا مرجح، فصاروا بين أمرين: إما إثبات الترجيح بلا مرجح، وإما التزام التسلسل، وكلاهما مناقض لأصولهم، ولهذا عدل من عدل في جوابها إلى الإلزام والمعارضة بالحوادث اليومية.

التالي السابق


الخدمات العلمية