الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فإطلاق اسم الشخص على الوحدة إطلاق أحد المتلازمين على الآخر، فهذا باطل من وجوه:

أحدها: أن الشخص الذي له حجمية ليس واحدا عندهم بل مركب؛ إذ كل جسم مركب، وقد قال هذا المؤسس في أول هذا الكتاب: «قوله أحد يدل على نفي الجسمية؛ لأن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين، وذلك ينافي الوحدة» وقوله: «أحد مبالغة في الواحدية، فكان قوله أحد منافيا للجسمانية» وهذا المعنى تقدم غير مرة.

فإذا كان الشخص والحجمية يستلزم نفي الوحدة عندهم كيف يصح [ ص: 402 ] أن يقال: هو يلزم أن يكون واحدا.

الوجه الثاني: هب أنه لا يستلزم الوحدة بناء على أن لغة العرب تسمي الواحد من الأجسام واحدا، وهذا هو الصواب، لكن من أين يلزم أن يكون قولهم: شخص وحجم، يلزم أن يكون واحدا؟ فأحسن أحواله أنه لا يستلزم ثبوت الوحدة ولا نفيها، بل قد يقال: هذا الشخص للشخص المرئي مع ما عليه من الثياب وما له من الأعضاء.

الوجه الثالث: أن لفظ (شخص) مفرد جمعه أشخاص وشخوص، وهذا يراد به الواحد بالعين ويراد به الجنس كسائر نظائره، مثل لفظ: إنسان وفرس ونحو ذلك، وإرادة الجنس بهذا أظهر من إرادة الواحد بالعين، بدليل أنه إذا دخل عليه حرف النفي مثل «ما» في قولك: ما عندي شخص، وما عندي إنسان، كان الظاهر من معناه أنه ناف للجنس، ويجوز أن يراد به نفي الواحد، فيقول: ما عندي شخص بل شخصان، إلا أن يدخل عليه ما يختص بالجنس، مثل «لا» النافية للجنس، ومثل «من» في قولك: لا شخص عندي، أو: ما عندي من شخص، فهنا يجب إرادة الجنس، وإذا كان كذلك فقول القائل: [ ص: 403 ] إن الجسم الذي له شخص يلزم أن يكون واحدا كلام باطل.

الوجه الرابع: أن يقال: كونه واحدا بالعين ليس داخلا في مسماه في أصل اللغة، فاللفظ لا يوجب العدد ولا ينفيه، لكن ما زاد على الواحد منفي بالأصل، وقد ينفى بالقرينة اللفظية والحالية، كقولهم: شخص واحد، وقولهم: جاءني شخص، فقال لي كذا وكذا، كما تقول: ركبت فرسا، والفرس يتناول عنانه، فيكون التركيب دليلا على الوحدة العينية، لا مسمى اللفظ، وعلى هذا قولهم: ما جاءني رجل بل رجلان، فإن قوله: بل رجلان قرينة لفظية، دليل على دخول الوحدة العينية في مسمى رجل.

الوجه الخامس: أن دلالة هذا اللفظ على الوحدة سواء دل بالوضع أو بالقرينة كدلالة سائر الألفاظ التي تشبهه، مثل لفظ: إنسان وحيوان وفرس وثور وحمار وقائم وقاعد، ونحو ذلك.

فإن كان دلالة هذه الألفاظ على الوحدة تسوغ إطلاق الاسم على الوحدة لزم جواز إطلاق جميع هذه الأسماء [ ص: 404 ] وما أشبهها على كل حقيقة وذات معينة، فيسمى كل شيء وكل جوهر أو عرض بكل واحد من هذه الأسماء -كما يسميه المنطقيون-: شخصا، وعلى هذا فيجوز تسمية الله بكل واحد من هذه الأسماء، ولا يكون المراد إلا الذات المعينة والحقيقة المخصوصة حتى يقال: لا إنسان أو لا فرس أو لا ثور أو لا كذا أغير من كذا -يعني الله- هذا لازم قولهم، وفساد هذا يغني عن الإطناب.

وأيضا فكان هذا التأويل لو كان صحيحا كان استعماله في لفظ الصورة حتى يقال: كل حقيقة معينة تسمى صورة من هذا الجنس، وحينئذ فيلزمهم تسمية كل شيء باسم كل شيء؛ إذ كل شيء له وحدة، ويلزم ذاته، فإذا جاز لأجل ذلك أن يجعل اسمه اسما لمطلق الواحد حتى يقال لكل ذات معينة وحقيقة مخصوصة، ولا يكفي في اللزوم أنهم هم يستعملون ذلك، بل يلزم أنه يجوز لكل من سمع كلام غيره أن يحمل ما فيه من الأسماء، على هذا، كل شيء إذا قام عنده دليل على نفي إرادة المسمى، وهذا كله أقبح السفسطة والقرمطة، وهو يجمع من الإشراك بالله في جواز تسميته بكل اسم للخلق، وجعل [ ص: 405 ] كل شيء له شبيها ونظيرا من الإلحاد في أسمائه وآياته ما لا يحصيه إلا الله؛ إذ هذا من أفسد قياس يكون في اللغة، فإنهم كما أفسدوا القياس في المعاني المعقولة حتى قاسوا الله بكل موجود وبكل معدوم كما تقدم بيانه كذلك أفسدوا القياس في الألفاظ المسموعة حتى لزمهم أن يجعلوا كل اسم لمسمى يصلح أن يكون لغيره، وأن يسمى الله تعالى بكل اسم من أسماء المخلوقات.

الوجه السادس: أن يقال: هب أن لفظ الشخص يلزمه أن يكون واحدا فهل إطلاق الملزوم على لازمه أمر مطرد أم هو سائغ في بعض الأشياء، فإن جعل ذلك مطردا لزمه من المحال ما يضيق عنه هذا المجال حتى يلزمه أن يسمي كل صفة لازمة للإنسان والفرس والشجرة والسماء والأرض باسم الموصوف، بل ويلزمه ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه.

الوجه السابع: هب أنه يطلق الملزوم على لازمه فاللازم هو الوحدة كما قلت، فإطلاق اسم الشخصية على [ ص: 406 ] الوحدة إطلاق أحد المتلازمين على الآخر، وأنت تجعل المسمى هنا الذات المخصوصة والحقيقة المعينة، وتلك ليست هي الوحدة بل هي شيء قائم بنفسه متميز عن غيره، فإن قيل: فقد ذكرتم أن من اصطلاح بعض الناس تسمية كل فرد من أفراد النوع شخصا، قيل: نحن ذكرنا وجه ذلك بالاستعمال لما كان لفظ الشخص مقولا على الإنسان وما يشبهه، وقالوا: الإنسان نوع تحته أشخاص، أي أعيان هي أشخاص، ولم يكن مقصودهم نفس الشخصية، بل مطلق كونه واحدا، نقلوا ذلك إلى أعم منه كما في نظائره لم يجعل وجهه التلازم المذكور.

التالي السابق


الخدمات العلمية