الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ثم قال: (وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم عندهم إلا بالبرهان فقد تلطف الله فيها لعباده. والذين لا سبيل لهم إلى البرهان: إما من قبل فطرهم، وإما من قبل عادتهم، وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم، فإنه ضرب لهم أمثالها وأشباهها، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع. أعني الجدلية، والخطابية، وهذا هو السبب في أن يقسم الشرع إلى ظاهر وباطن، فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة [ ص: 85 ] لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان. وهذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة أو الخمسة التي ذكرها أبو حامد في "كتاب التفرقة".

قلت: هذا الكلام في أصول النفاق: نفاق الدهرية، ويظهر بطلانه من وجوه: أحدها: قوله: "وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان" إلى آخره. يقال له: قولك: "لا تعلم إلا بالبرهان" أي لا يمكن تصورها إلا بالبرهان؟ أو لا يمكن التصديق بها عقلا [ ص: 86 ] إلا بالبرهان؟ فأما الأول فباطل؛ فإن التصور سابق على التصديق، فلو كان لا يمكن تصورها إلا بعد قيام البرهان على ثبوتها، والبرهان لا يمكن أن يقوم على التصديق إلا بعد التصور لزم الدور. وهو قد ذكر في غير هذا الموضع أن تصور الشيء يكون إما بنفسه وإما بمثاله، وليس هذا من البرهان. وإذا كان تصورها ممكنا بدون البرهان فالرسول خبره يوجب التصديق، وليس هو ملزما لأن يقوم برهان خاص على كل ما يخبر به. فإذا كان تصورها ممكنا بلا برهان وخبره وحده كاف في التصديق لم يحتج إلى ما سماه برهانا.

الثاني أن يقال له: إذا قدر أن التصديق بها لا يمكن إلا [ ص: 87 ] بالبرهان: فإما أن يكون الرسول أخبر بها الخاصة مقرونا بالبرهان، أو بلا برهان. أو لم يخبر بها، ومعلوم أن هذه البراهين التي تثبت بها الفلاسفة تجرد النفس ونعيمها وعذابها، والعقول والنفوس لم تأت بها الرسل: فإما أن يكونوا تركوا الإخبار بها، أو أخبروا بها بدون ما ادعاه من البرهان. وعلى التقديرين يظهر أن الرسول لم يسلك ما ادعاه؛ فإنه يزعم أن الرسول علمها للخاصة دون العامة.

الثالث: أن يقال: ليس فيما يذكره الفلاسفة ما يبعد فهمه على عامة الناس بأكثر من فهم ما دل عليه ظاهر الشرع، وإن كانوا مقصرين عن فهم الأدلة، ألا ترى أن المتكلمين يصرحون بما يقولونه للعامة، وإن كانت أدلته كثيرة. إما أن تكون أغمض من أدلة الفلاسفة، وإنما هي مسائل معدودة "مسألة واجب الوجود وفعله" و"النفس، وسعادتها وشقاوتها" و"العقول والنفوس" وما يتبع ذلك. فأي شيء في هذا مما لا يمكن التصريح به للعامة لو كان حقا. فعلم أن ترك التصريح به إنما هو لما اشتمل عليه من الباطل المخالف للفطرة والشرعة والحق الذي صرحت به الشريعة.

[ ص: 88 ] الرابع أن يقال: إن الله قد أجمل في كتابه وعلى لسان رسوله ما لا يمكن النفوس معرفة تفصيله مثل قوله تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [السجدة: 17 ].

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

الخامس أن يقال: النقص الذي ذكرته هو: إما من قبل نقص الفطرة، وإما من قبل سوء العادة، وإما من قبل عدم أسباب التعلم؟ فيقال لك: أما النقص فنقص بني آدم ليس له حد: فمن الناس من ينقص عن فهم ما يفهمه جمهور الناس، ومن المعلوم أن نهاية ما عند الفلاسفة يفهمه أوسط المتفقهة في مدة قريبة، والشريعة قد جاءت بما هو أبعد عن الفطر الناقصة من هذا. وأما العادة والتعليم فالرسول هو المعلم الأعظم الذي علمهم الكتاب والحكمة، وقد نقلهم عن كل عادة سيئة إلى أحسن العادات [ ص: 89 ] والسنن والشرائع، فإن كان التصريح بهذه الأمور مشروطا بالعلم التام والعادة الصالحة فلا أكمل من هذا المعلم ولا من السنن التي عودها: فهلا علمها وبينها، إذا كان الأمر كذلك؟ !

السادس أن يقال: هب أن العامة لا يمكنهم فهمها فهلا بينها للخاصة؟ ! ومن المعلوم بالاضطرار أن الشريعة ليس فيها دلالة على ما يقوله الدهرية والجهمية من الأمور السلبية في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب.

السابع أن يقال: فإذا صرح فيها بنقيض ما هو الحق -وإن قلت إنه مثال- والحق المطلوب لم يبينه لا للعامة ولا للخاصة ألا يكون هذا تلبيسا وإضلالا؟ !

الثامن أن يقال: قولكم الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان وإن الباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان. كلام من أبطل القول؛ وذلك أن هذه الأمور قد فسرتها [ ص: 90 ] بما تتأول من صفات الله وصفات المعاد حتى ذكرت آية الاستواء والنزول ونعيم الجنة والنار وغيرهما من ذلك. فيقال لهم: التأويلات التي يدعون أنها باطن هذه الألفاظ معان ظاهرة معلومة للخاص والعام: مثل تأويلات الاستواء بالقدرة أو بالرتبة، فكل أحد من الناس يتصور أن الله قادر على المخلوقات قاهر لها أعظم مما يتصور استواءه عليها. فلأي ضرورة يعبر عن المعنى الظاهر الواضح بلفظ يكون تصور ظاهره أخفى من تصور ذلك المعنى؟ ! وهذا بين قاطع لمن تدبره، وإن كانت الوجوه كلها كذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية