الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وكلام السلف والأئمة موافق لهذه الطريقة، حيث كانوا ينزهونه عن النقائص، التي يشبه فيها المعدوم أو الموات العادم [ ص: 338 ] لصفات الكمال وهذا موافق ما قدمناه قبل هذا من أن ما كان صفة للعدم لم يجز أن يوصف الله به، وإنما يوصف من السلوب بما كان مستلزما للوجود، إذ العدم المحض ليس فيه ثناء وحمد. وصفات الله فيها الثناء والحمد، وهذا يطابق أن الموجود من حيث هو فيه الثناء والحمد، والحمد لله رب العالمين.

ونكتة هذه الحجة أن كل حكم ثبت لمحض الوجود، فالوجود الواجب أولى به من الممكن، وكذلك من الأمثال المضروبة، وهي الأقيسة العقلية، ولله المثل الأعلى: أن كل كمال ثبت لموجود، فالواجب أولى به من الممكن، وكل كمال يوجد في المربوب فالرب أولى به من العبد، وهذا مما سلكه الفلاسفة، لكن يعبرون بمعنى التولد فيقولون: كل كمال [ ص: 339 ] ثبت للمعلول فإنه من أثر العلة، والعلة أولى به من المعلول. وهذه أقيسة عقلية وأمثال مضروبة - ولله المثل الأعلى- تستعمل في عامة الأمور الإلهية، كما ورد الكتاب والسنة بنحو ذلك، كما قد بيناه في غير هذا الموضع.

وقولنا في هذه الحجة: كل حكم ثبت لمحض الوجود. يخرج الأحكام التي تتضمن العدم مثل الأكل والشرب: فإن ذلك يستلزم كون الآكل والشارب أجوف، بحيث يحصل الغذاء الذي هو أجسام في محل خال، لاسيما إذا كان قد خرج غيره بالتحلل، ويكون بدل المتحلل، فيكون متضمنا خروج شيء من الجسم، وذلك نقص منه، وهو صفة عدمية، ووجود أجزاء فيه، وذلك يستلزم خاليا، وهو نقص فيه وهو صفة عدمية، وهذا [ ص: 340 ] ينافي الصمدية، فإن ( الصمد ) هو الذي لا جوف له، فلا يأكل ولا يشرب ولا يلد ولا يخرج منه شيء ولا غيره من جنس الفضلات التي تخرج من الإنسان. فإن دخول جسم فيه أو خروج جسم منه يتضمن النقص المستلزم لأمر عدمي، وهذا ينافي الصمدية، وليس هو من الأحكام الثابتة لمحض الوجود بل من الأحكام المتضمنة وجودا أو عدما، فلا جرم لم يكن سبب ذلك وصفا يتناول الواجب والممكن، بل وصف يختص بالممكن المحدث وهو الحاجة والافتقار في الطعام، لإخلاف بدل ما يتحلل من البدن، وفي الإنزال لدفع الضرر الحاصل بسبب المني بمنزلة إخراج الدم عند الحاجة، فوجود جسم فيه يضاده ويضاره عجز وفقر من خصائص المخلوق، وحاجته إلى جسم خارج منه يتم به وجوده، فقر وحاجة من خصائص المخلوق.

ولهذا كان أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون ولا يبولون ولا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يمنون، وإنما يتحلل الطعام عنهم برشح كرشح المسك، [ ص: 341 ] لأن تلك الفضلات مضادة للبدن مؤذية له، وليس في الجنة أذى. وأما الأكل والشرب، فإنما هو استكمال بعد نقص، وهذا من لوازم المخلوقات. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، ولهذا قال سبحانه: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام [المائدة: 75] فأكل الطعام ينافي الصمدية ويوجب الفقر والحاجة المنافي للربوبية من وجوه متعددة.

وهكذا سائر الأحكام التي تعرض لبعض الموجودات، والرب منزه عنها: مثل السنة والنوم هما من الأحكام المتضمنة أمرا عدميا، فليس هو من أحكام الوجود المحض، ولهذا كان أهل الجنة مع كونهم موجودين لا ينامون، فإن النوم أخو الموت، وهو يتضمن أمرا عدميا، وكذلك العجز والجهل [ ص: 342 ] والصمم والعمى وسائر ما ينافي صفات الكمال، وإن وصف به بعض الموجودات فإنه متضمن أمرا عدميا، وهذا معنى النقص فإن النقص يتضمن أمرا عدميا، وكل ما تضمن عدما محضا فإن الله لا يوصف به، فإنه يقتضي العدم المحض، إذ هو الوجود الواجب، وإنما يوصف بالصفات السلبية المتضمنة أمرا وجوديا.

التالي السابق


الخدمات العلمية