الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه السابع: أن يقال: لا نسلم أن العقل الصريح لا يأبى هذا التقسيم إذا بين معناه وزال عنه الاشتباه، وذلك أن الحيز يراد به الأمر الوجودي المنفصل عن المتحيز، ويراد به ما لا ينفصل عن المتحيز، ولا يستلزم وجود غيره، فإن تحيز العالم وغيره من الأجسام لا يستلزم وجود شيء غيره، وبالجملة: فالمتحيز إن أريد ما يستلزم وجود شيء غيره لم ننازع فيما ذكره من التقسيم؛ فإن العقل يعلم أن الموجود قد يكون في حيز منفصل عنه، وقد لا يكون. ولكن هذا لا يضر؛ فإن المنازع إنما ادعى العلم الضروري أن الموجود لا يكون داخل العالم ولا خارجه، لم يذكر المتحيز، وكذلك إن أريد بالمتحيز الجسم فقط دون العرض فقد علم أن الموجود فيه أجسام وصفات يقوم بها، وإن كان هذا فيه نزاع، فمن الناس من يقول: لا موجود إلا الجسم، وهذا تنازع في هذا التقسيم ويقول: لا أسلم أن العقل الصريح لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون متحيزا أو غير متحيز.

لكن ليس الغرض الكلام من جهة هؤلاء فقط؛ بل يقال كلاما عاما؛ إذ لا حاجة إلى هذه الأقوال، فإذا أراد بالحاصل في الحيز المتحيز أصالة أو تبعا، ولم يعين بالحيز أمرا وجوديا منفصلا عنه / لم يسلم له منازعه أن العقل الصريح لا يأبى تقسيم الموجود إلى ما يكون حاصلا في الحيز، وما لا يكون حاصلا فيه، لا بمعنى أن العقل يعلم جواز ذلك في الخارج كما تقدم [ ص: 158 ] ولا يعني أن العقل الصريح لا يعلم امتناع ذلك؛ بل نقول: العقل الصريح يعلم امتناع ذلك، مما صرح ذوو العقول الصريحة من أئمة الإسلام وعلمائهم بأن العقل يمنع ذلك، ولم يعرض على ذوي عقل صريح هذا إلا أنكره ونفاه إذا فهم حقيقة المعنى، وأما من لم ينكر عقله ذلك فلأنه لم يعرضه على العقل الصريح؛ فإن الصريح هو المحض الخالص الذي لا يشوبه هوى ولا جهل، فكثير من الناس يسمع هذه الألفاظ المتداولة؛ مثل الحيز والمتحيز والجسم والجوهر والعرض والصفات ونحو ذلك، وهي فيها من الاحتمال والاشتراك ما يوجب تنازع العقلاء فيها فيكون كثير من النظر في مسماها ليس بعقل صريح خالص من الاشتباه والاشتراك، ومن الناس من ألف قولا واعتاده وتقلده عن بعض المعظمين في قلبه، مثل تقلده أن الباري ليس في جهة، أو أنه ليس بمتحيز، أو ليس بجسم ولا جوهر، أو هو جسم أو جوهر، فيكون هذا التقليد مانعا له من أن يكون عقله صريحا، كما قال تعالى: [ ص: 159 ] وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [البقرة: 170] وقد قال تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [الأنعام: 116] وقال تعالى: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [الفرقان: 44]، فالعقل الصريح قليل في بني آدم؛ ولكن علامته متابعة ما جاءت به الرسل عن الله تعالى؛ فإن العقل الصريح لا يخالف ذلك قط؛ بل لو وحده لوجد الإيمان، ولهذا قال أهل النار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [الملك: 10] فأخبروا أنه أي الأمرين وجد منعهم العذاب، وقد قال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج: 46].

[ ص: 160 ] وأعظم الناس عقلا أعظمهم إيمانا ويقينا بما جاءت به الرسل، وهم أعظم الناس [علما] كما قال تعالى: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد [سبأ: 6]، وأن العقل الصريح يوجب الاجتماع؛ فإن الحق لا يختلف ولا يتناقض، ولهذا كان ما جاء من عند الله كذلك، كما في قوله: كتابا متشابها مثاني [الزمر: 23]، وقال في خلافه: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [النساء: 82]، وقال: إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك [الذاريات: 8، 9] وقد قال تعالى: تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون [الحشر: 14]. فبين سبحانه وتعالى أن تشتتهم بسبب عدم العقل، ومعلوم أن هؤلاء المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم من أعظم الناس تفرقا واختلافا، ولهؤلاء في معنى الجسم والجوهر والمتحيز والعرض وأحكامه نفيا وإثباتا من الاضطراب ما لا يعلمه إلا الله، فأين العقل الصريح معهم؟ ولكن معهم / دعوى العقل؛ ولكن بين دعوى صفات الكمال وبين وجودها بون عظيم، فما أكثر من ادعى بنوة الله وولايته وهم من أكذب الناس! وكل من خرج عن شريعة الله فلابد أن يفتري ويكذب في دعواه، منهم من ادعى [ ص: 161 ] النبوة والرسالة كمسيلمة والعنسي والثقفي وغيرهم ممن قال الله تعالى [فيهم]: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء [الأنعام: 93]، ومنهم من ادعى ولاية الله تعالى وأنه من أهله وخاصته، كما يدعي ذلك الملاحدة من القرامطة والباطنية والرافضة والاتحادية وأمثال هؤلاء ممن [ ص: 162 ] هو إما منافق وإما فاسق وإما داع إلى بدعة عظيمة ونحو ذلك.

وكذلك فيمن يدعي العقل الصريح والمعرفة بالمعقولات، ويدعي صحة النظر ومعرفة الأدلة القطعية والبراهين الموزونة بالميزان العدل، وغير ذلك، من هم في كثير من أمورهم أو أكثرها من أبعد الناس عن العقل والمعقول، وهذا كله تسمية الشيء من الأعيان والصفات بغير أسمائها كما قال تعالى: إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [النجم: 23].

وإذا كان كذلك: فالمنازعون يقولون: إن العقل الصريح يمنع أن يكون العقل الصريح موجودا مع غيره، ليس بداخل في غيره ولا خارج، أو ليس بمباين له ولا محايث، أو يكون قائما بنفسه لا يباين القائم بنفسه بالجهة، ونحو ذلك من المعاني التي يمكن التعبير عنها بعبارات متنوعة، وما زال أئمة الإسلام يذكرون أن العقل يمنع وجود هذا؛ فقول القائل: هذا [ ص: 163 ] قول بأن الموجود لا يكون إلا جسما أو قائما به ونحو ذلك، لا يدفع ما ذكر، بعد ذكرنا بعض ما تقدم من قولهم فإن أول من ابتدع في هذه الأمة وصف الموجود بعدم النهاية هو الجهم. ولفظ المتحيز والجسم والحد والنهاية وتنزيه الرب سبحانه بهذه الأسماء كلها من بدع الجهمية.

التالي السابق


الخدمات العلمية