الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه العاشر: وهو أن يقال: قد تبين تماثل المكان والزمان، وما يقدر بهما في لزومهما للموجود أو عدم اللزوم، وفي انقسام الموجود إلى ما ذكر من القسمين في النوعين جميعا، سواء قسم الموجود باعتبار ذاته، أو باعتبار إضافته إلى القسم الآخر، فإذا قيل: الموجود إما أن يكون قديما أو محدثا فهو كما لو قيل إما أن يكون قائما بنفسه أو قائما بغيره، [ ص: 183 ] أو قيل إما أن يكون مباينا أو محايثا.

وإذا قيل: إما أن يكون مباينا أو لا مباينا ولا محايثا فهو كما لو قيل إما أن يكون قديما أو محدثا أو لا قديما ولا محدثا، وهذه القسمة ذهنية والقسم الثالث فيها ممتنع في الخارج بخلاف القسم الأول.

ولو قيل: إما أن يكون حاصلا في المكان أو لا يكون، فهو كما لو قيل إما أن يكون في الزمان أو لا يكون، وهي تسمية صحيحة في الخارج / إذا لم يرد بالمكان الأجسام أو صفاتها، وبالزمان مقدار حركاتها وما يشبه ذلك؛ فإن نفس أجسام العالم ليست في مكان بهذا الاعتبار، ولا هي أيضا في زمان، وكذلك الزمان ليس في زمان آخر.

وإذا قيل: إما أن يكون حاصلا في الحيز أو لا يكون، فهو كما لو قيل إما أن يكون حاصلا في الدهر أو لا يكون. والمراد بالدهر: ما يقدر الذهن وجود أزمنة فيه، ومعلوم أنه ما من موجود إلا والذهن يقدر تعاقب أزمنة مقارنة، فإذا كان وجوده إلى غير غاية، وقدر أزمنة مقارنة له إلى غير غاية، وإن لم يكن ذلك موجودا، وكذلك ما من موجود إلا والذهن يقدر معه أحيازا خالية يفرض فيها أمكنة لا نهاية لها، وهذا أيضا لا وجود له في الخارج، وإنما الموجود في الخارج دوام الحق وبقاؤه.

وللناس نزاع في الباقي: هل هو باق ببقاء أو لا؟ وكذلك [ ص: 184 ] حده وحقيقته التي بها بان وامتاز؛ فلا موجود قبل العالم إلا الله بما هو عليه من صفاته، وقد ذهب طوائف من أهل السنة والمعرفة إلى أن الدهر من أسماء الله على ظاهر الحديث المروي في ذلك، وقالوا: معناه الباقي الدائم الأزلي، وذكروا أنه روي: "يا دهر، يا ديهور، يا ديهار"، وتسميته "قديما" [ ص: 185 ] و"أولا" مثل تسميته "عليا" و"ظاهرا" وكونه دهرا بمعنى تقدمه مثل كونه محلا للصفات بمعنى موصوف بها، فهو سبحانه الغني بقدمه وقيامه بنفسه عن غيره من زمان ومكان وغيرهما، وإذا قيل: الموجود إما أن يكون متقدما على غيره أو محدثا بعده، فهو كما لو قيل: الموجود إما أن يكون عاليا على غيره، بائنا عنه، أو يكون داخلا فيه محايثا له قائما به، فالمتقدم على غيره مستغن كاستغناء القائم بنفسه عن القائم بغيره، والمحدث بعد العدم مستلزم لزمان أو تقدير مكان يكون هو بعده، والقائم بغيره مستلزم لمكان محل هو فيه، والقديم المطلق مستغن عن الزمان، والقائم بنفسه مستغن عن المكان، والمحدث بعد غيره مقارن للزمان المفتقر بمقارنة حادث لحادث، والقائم بغيره مفتقر إلى المكان والمحل، وهو سبحانه الأول فليس قبله شيء؛ بل هو قبل الأزمنة وما فيها، وهو الظاهر فليس فوقه شيء؛ بل هو فوق الأمكنة وما فيها.

التالي السابق


الخدمات العلمية