الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 35 ] فصل في معنى "الحي القيوم" [ ص: 36 ]

[ ص: 37 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من هداه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى آله وصحبه وسلم.

فصل

في معنى اسمه "الحي القيوم"

قال الله سبحانه وتعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم .

وقال تعالى: الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم . وقال تعالى: وعنت الوجوه للحي القيوم . وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره "الحي القيام" . والقيام فيعال، والقيوم فيعول، وفيعال من جنس فعال، وفيعول من جنس فعول، لأن الحرف المضعف يعاقب الحرف المعتل، كقولهم تقضى البازي وتقضض. [ ص: 38 ] والقيوم والقيام من قام يقوم، فهو معتل، فإن عينه واو، فلهذا قيل فيه: فيعال وفيعول، ولو لم يكن في ألفاظه حرف معتل لا ياء ولا واو لقيل: فعال، كما قيل "حماد" و"ستار"، وفعول كما قيل "سبوح" و"قدوس"، والغالب فعول بالفتح، وهو القياس في شرح "قدوس"، ولكن جاءت دلالة اللفظ على غير القياس بالضم سبوح وقدوس وذو الروح. وقد تبين أن قراءة الجمهور "القيوم" أتم معنى من قراءة "القيام"، فإن فعول وفيعول أبلغ من فعال وفيعال، لأن الواو أقوى من الألف، والضم أقوى من الفتح، وهذا عينه مضمومة، والمعتل منه واو، فهو أبلغ مما عينه مفتوحة والمعتل منه ألف. ودائما في لغة العرب الضم والواو أقوى من الياء والكسرة، والياء والكسرة أقوى من الألف والفتحة، وهكذا هو في النطق، وكذلك في سائر الحركات، فإن المتحرك إلى أسفل كحركة الماء أثقل من المتحرك إلى فوق كالريح والهواء، والمتحرك على الوسط هو الفلك أقوى منهما.

ولهذا كان الرفع لما هو عمدة في الكلام، وهو: الفاعل، والمفعول القائم مقامه، والمبتدأ، والخبر. وكان النصب لما هو فضلة في الكلام، كالمفاعيل وغيرها: المفعول المطلق والمفعول به وله ومعه، والحال والتمييز. وكان الجر لما هو متوسط بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه، فإنه تضاف إليه العمدة تارة والفضلة تارة، فتقول: قام غلام زيد، وأكرمت غلام زيد.

ولما كانت "كان" وأخواتها أفعالا تستعمل تارة تامة مكتفية بالفاعل، وتارة ناقصة فتحتاج إلى منصوب، كان الرفع فيها مقدما، فإنه العمدة، ولا بد منه في النوعين التامة والن صة. [ ص: 39 ]

وأما "إن" وأخواتها فإنها تختص بالجمل الاسمية، لكن أشبهت الأفعال، فصار لها منصوب ومرفوع كالأفعال، ونقصت درجتها عن درجة الأفعال، فقدم منصوبها لذلك، ولأنه أخف، ولأن الخبر يكون غير اسم، مثل الجار والمجرور به، فلا يظهر فيه النصب، بل قد يقدم على الاسم.

وأما باب "ظننت" وأخواتها فإنها أفعال، تستعمل تارة مع الاقتصار على الفاعل، وتارة يذكر معها المفعولات، ولكن تعلق على العمل إذا تصدر ما له صدر الكلام، فلا يعمل ما قبله فيما بعده، مثل لام الابتداء وحروف الاستفهام، وما الن صة، كقوله تعالى: لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ، وقوله تعالى: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق . وتارة تلغى عن العمل إذا قدم المفعولات أو وسط الفعل بينهما، كقولك: "زيد منطلق ظننت"، والإلغاء هاهنا أحسن، وقولك "زيد ظننت منطلق".

وكان الفرق بين باب "ظننت" وباب "كسوت" أن المفعولين هاهنا المبتدأ والخبر، بخلاف باب كسا، فإن الثاني غير الأول، ولهذا يجوز في باب كسا الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب ظننت، فإنه لا يجوز ذلك فيه، كما لا يجوز الاقتصار على المبتدأ دون الخبر.

وقد تبين أن المبتدأ وخبره مع نواسخه قد استوعبت الأقسام الممكنة، فإنهما إما مرفوعان، كما إذا تجردا عن العوامل اللفظية; وإما منصوبان، وهو باب ظننت، إذ الأول مرفوع، وهو باب "كان"; [ ص: 40 ] أو الأول منصوب وهو باب "إن". وتبين أن الرفع لما هو عمدة، والنصب لما هو فضلة.

وكذلك الضم والفتح والكسر التي هي حركات لنفس الكلمة، وتسمى مناسبة إذا كانت في الآخر لم.... عامل للإعراب، كقولك: خرج وخرج، وكره وكره، والغسل والغسل ونحو ذلك، فالخرج والكره والغسل مصدر الفعل الثلاثي المتعدي، وهو قياس، تقول: ضربه ضربا، وأكله أكلا ونحو ذلك، وأما الخرج والكره فهو نفس الشيء المكروه والمخروج، والعين أقوى من الفعل، والغسل بالضم اسم الاغتسال، واغتسال الإنسان لنفسه أكمل من غسله لغيره، تقول في هذا: غسل الجمعة وغسل الجنابة، لأن المراد الاغتسال; وتقول في ذلك: غسل الميت وغسل الثوب، لأن المصدر غسل الإنسان لغيره. هذا هو اللغة المشهورة سماعا وقياسا، وما نقل غير ذلك فإما خطأ وإما شاذ.

فتبين أن "القيوم" أبلغ من "القيام"، ذلك يفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان. وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه، لما فيه من المبالغة لقيوم وقيام. ولهذا قال غير واحد من السلف: القيوم الذي لا يزول، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين نا عيسى الصائغ ببغداد نا سعد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الحسن رضي الله عنه: القيوم الذي لا زوال له.

التالي السابق


الخدمات العلمية