الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

مما يبين أن طريقة أتباع الأنبياء من أهل السنة هي الموصلة إلى الحق دون طريقة من خالفهم من الفلاسفة والمتكلمين : أن المقصود هو العلم ، وطريقه هو الدليل ، والأنبياء جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل ، كإثبات الصفات لله مفصلة ، ونفي الكفؤ عنه .

والفلاسفة يجيئون بالنفي المفصل : ليس بكذا ولا كذا ، فإذا جاء الإثبات أثبتوا وجودا مجملا ، واضطربوا في أول مقامات ثبوته ، وهو أن وجوده هو عين ذاته أو صفة ذاتية لها أو عرضية ؟ ونحو ذلك من النزاعات الذهنية اللفظية .

ومعلوم أن النفي لا وجود له ، ولا يعلم النفي والعدم إلا بعد العلم بالثبوت والوجود ، حتى إن طائفة من المتكلمين نفوا العلم بالمعدوم إلا إذا جعل شيئا ، لأن العلم -زعموا- لا بد أن يتعلق بشيء . والتحقيق أن العلم بالعدم يحصل بواسطة العلم بالموجود ، فإذا علمنا أنه لا إله إلا الله تصورنا إلها موجودا ، وعلمنا عدم ما تصورناه إلا عن الله .

وكذلك سائر ما ننفيه لا بد أن نتصوره أولا ثم ننفيه ، ولا نتصوره إلا بعد تصور شيء موجود ، ثم نتصور ما يشابهه ، أو ما يتركب من أجزائه ، كتصور بحر زئبق وجبل ياقوت وآلهة متعددة ونحو ذلك ، ثم ننفيه ، وإلا فتصور معدوم مبتدع لا يناسب الموجودات بوجه لا يمكن العقل [ ص: 110 ] إبداعه ، سواء كان من العلوم النظرية أو العملية ، كتصور الفاعل ما يفعله قبل فعله ، فإنه في الحقيقة تصور معدوم ليوجد ، كما أن غيره تصور معدوم ممكن أو ممتنع ، يوجد أو لا يوجد ، فالمعدوم الفعلي وغير الفعلي لا يبدعه عقل الإنسان من غير مادة وجودية ، كما لا تبدع قدرته شيئا من غير مادة وجودية ، وإنما الإبداع من خصائص الربوبية ، وكيف يعلم ؟ وكيف يفعل ؟ باب آخر .

فثبت بهذا أن العلم بالموجود وصفاته هو الأصل ، وأن العلم بالعدم المطلق والمقيد تبع له وفرع عليه ، وأيضا فالعلم بالعدم لا فائدة للعالم به ، إلا لتمام العلم بالموجود ، وتمام الموجود في نفسه ، إذ تصور «لا شيء » لا يستفيد به العالم صفة كمال ، لكن علمه بانتفاء النقائص مثلا عن الوجود علم بكماله .

التالي السابق


الخدمات العلمية