الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك العلم بنفي الشركاء عنه علم بوحدانيته التي هي من الكمال ، وكذلك تصور ما يراد فعله مفض إلى وجود الفعل ، وتصور ما يراد تركه مفض إلى الترك الذي هو عدم الشر ، الذي يكمل الموجود بعدمه .

وذلك أن هذا الذي ذكرته في العلم والقول يقوم مثله في الإرادة والعمل ؛ فإن الإرادة متوجهة إلى الوجود بنفسه الذي هو الفعل ، ومتوجهة إلى العدم الذي هو الترك على طريق التبع ، لدفع الفساد عن المقصود الموجود . وإلا فإرادة «لا شيء » لا يستفيد به العبد المريد فائدة ، ولا تحصل له كمالا ولا لذة . [ ص: 111 ]

ولهذا سألني بعض الأمراء مرة : أيما أفضل : إيصال الحق إلى ربه أو دفع غير ربه عنه ؟ فقلت : أفضله هو المقصود لنفسه بالقصد الأول ، وهذا مقصود لغيره بالقصد الثاني . وكذلك الورع ونفي البدع وكل ما ينفى في الاعتقاد والأقوال أو في الإرادات والأفعال ، إنما يطلب به تحقيق الموجود والمقصود من ذلك ونفي الفساد عنه . ولذلك كان أهل السنة والورع أصلح اعتقادا وعملا من غيرهم لنفي الفساد ، مع ما يستلزم ترك الباطل من الحق الموجود والمقصود .

وأما الدليل فلا بد في كل دليل عقلي -وهو القياس الشمولي المشتمل على المقدمتين- من إيجاب وعموم ، إما مجموعا في مقدمة وإما مفرقا في المقدمتين ، ولذلك كان لا قياس عن سالبتين ولا جزئيتين . فعلم أنه لا بد في كل دليل من علم وجودي إحاطي ، وإلا فالعلم العدمي لا ينتج وحده ، ولو اجتمع منه مقدمات ، فلا يكون وسيلة إلى مطلوب بحال .

فثبت أن العلم بالسلوب لا يستقل في المسائل والأحكام ، ولا في الوسائل والأدلة ، بل هو مفتقر إلى العلم بالوجود فيهما ، فمن كان الغالب على علمه وكلامه النفي والسلب كان الغالب ما لا يفيد ، لا مقصودا ولا وسيلة ، ومن غلب على كلامه الإثبات والإيجاب كان الغالب عليه هو المفيد مقصودا ووسيلة . وهذا كلام شريف برهاني ، والذوق يصدقه والوجود يحققه . [ ص: 112 ]

وهذا الذي قررناه في العلم والقول في الأحكام والأدلة يجيء مثله في القصد والعمل في المقاصد والوسائل ، فمن غلب عليه في ذلك الوجود في المقاصد والأعمال كانت طريقته أنفع ممن غلب عليه العدم فيهما ، فالوجود راجح على العدم في نفسه وفي علمه وذكره وقصده والسعي إليه .

وكذلك أيضا في القدرة والسمع والبصر وسائر الصفات ، لكن لا بد من نفي وعدم يدفع عن الوجود ما يضره ويفسده ، وإلا فسد . فهذا هذا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ولهذا إذا ترك المؤمن شيئا من المكروهات فلا بد أن يكون تركه لإرادة أمر موجود ، فيتركه لوجه الله وإرادة ثوابه ، أو للخوف من العقاب الذي يضره . ولهذا اختلف الناس في المطلوب بالنهي : هل هو نفس العدم أو الامتناع الذي هو أمر وجودي ؟ والتحقيق أن كلاهما مطلوب للناهي ، لكن فائدة الوجود وجودية ، وفائدة العدم عدمية .

وقد اتفق الفقهاء على تعليل النفي بالنفي كتعليل الإثبات بالإثبات وتعليل النفي بالإثبات ، فإن الوجود قد يقتضي عدم أشياء . أما تعليل الوجود بالعدم ففيه خلاف ، وأصحابنا جوزوه ، لأن النفي يتضمن الوجود . . . . . . . . وقد يقال : إرادة العدم تقتضي وجودا . . . . . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية