الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما أهل الاتحاد المطلق فإن لفظة الاتحاد عندهم ليست مطابقة [ ص: 138 ] لمذهبهم ؛ فإنه عندهم ما زال واحدا ولا يزال ، لم يكن شيئان فصار واحدا ، ولكن كانت الكثرة والتفرق في قلب الإنسان لما كان محجوبا عن شهود هذه الحقيقة ، فلما انكشف الحجاب عن قلبه شهد الأمر ، فالمراتب في اعتقاده وخياله ، وأما الكثرة والتفرق الموجود في الخارج فهو عندهم بمنزلة أجزاء الكل أو جزئيات الكلي ، كما تقدم .

وهؤلاء إذا أنشد شعر بعضهم بصوت ملحن كشعر التلمساني وبعض شعر ابن إسرائيل ، مثل قوله :


وما أنت غير الكون بل أنت عينه . . . ويفهم هذا السر من هو ذائق



وقوله :


وتلتذ إن مرت على جسدي يدي . . .     لأني في التحقيق لست سواكم



كان هذا من سماع الذي هو سبب الكفر .

وأما المجمل من الحروف والأصوات فمثل كثير من المنطق والكلام ، ومثل الأشعار التي فيها ذكر الحب مطلقا بتوابعه من الهجر والوصل والصدود والشوق ، مثل كثير من شعر ابن الفارض ؛ فإن تلك القصيدة يتقبلها الزنديق التلمساني ونحوه ممن يقول : إن الله هو وجود [ ص: 139 ] المخلوقات . وقد نقلها قوم صحيحو الاعتقاد من الصوفية ، وأخذوا ما فيها من وصف الحب وأهله ، وتنازع الفريقان قوله :


ولي من أتم النظرتين إشارة . . .     تنزه عن رأي الحلول عقيدتي



فأولئك المنافقون يقولون : إنه صعد عن الحلول إلى الاتحاد ، بل إلى وحدة الوجود ، فإن الحلول فيه حال ومحل ، وهذا يثبته ، وإنما الوجود شيء واحد ، فهذا أراد . وهؤلاء المؤمنون يقولون : بل أراد إثبات عبوديته لله ، وأنه لا يحل مخلوقاته ، بل هو بائن من خلقه ، كما هو مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة .

لكن من تأمل بقية هذه القصيدة ، وتأمل هذه الأبيات وما بعدها وجدها صريحة في مذهب الاتحادية المنافقين الفرعونية القرامطة ، وعلم أن نفسه ونفس التلمساني هو نفس ابن العربي ، وأن هؤلاء كلهم قولهم كفر صريح معلوم فساده بالاضطرار العقلي والشرعي والاضطرار الذوقي أيضا ، ولكن لكثرة ما يصفون جنس الحب يبقى في كلامهم إبهام .

وكذلك الأصوات المثيرة للوجد والطرب تحرك كل قلب إلى مطلوبه ، فيشترك فيها : محب الرحمن ، ومحب الأوثان ، ومحب الصلبان ، ومحب النسوان ، ومحب المردان ، ومحب الأوطان ، ومحب الإخوان . ولهذا لم تجئ الشريعة بهذا السماع ، ولا فعلها القرون الثلاثة [ ص: 140 ] الفاضلة ، بل هو محدث في حدود أواخر المائة الثانية ، ولهذا امتنع عن حضوره أكابر العارفين وأئمة العلم وأهل الاتباع للشريعة ، ونهوا عنه .

وقد حضره جماعات من المشايخ الصالحين وأهل الأحوال ، لما تثير فيهم من وجدهم الكامن ، فيثير العزم الساكن ، ويهيج الوجد القاطن . وكانوا في حضوره على درجات ، وشاركهم فيه جماعات من أهل البدع والضلالات ، وإن كان لهم أحوال فيها كشوف وتأثيرات ، تنتج لهم أحوالا غير مرضية للرحمن ، مثل تحضير أهل الكفر والفسوق والعصيان ، ومثل مغالبة بعضهم بعضا ، والسعي في سلب إيمانه أو حال إيمانه ، أو غير ذلك من أنواع البغي والعدوان ، فدخلوا بذلك في الإعانة على الإثم والعدوان ، وفرطوا فيما أمروا به من الإعانة على البر والتقوى .

وصار بسبب كونه مشتركا يشترك فيه المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والصديق والزنديق ، بمنزلة من بنى معبدا مطلقا يتعبد فيه كل أهل ملة ونحلة ، فيجتمع فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والمشركون والصابئون ، كل يصلي إلى قبلته ، ولا ينهى بعضهم بعضا ، وجعل لهم فيه مطاعم وملابس . فقد يتفقون لما فيه من القدر المشترك من المطعم والملبس والمسكن ، ويتفاوتون لما فيه من اختلاف مقاصدهم ونياتهم ووجههم ، فإن وجه القلوب أعظم تفاوتا من وجه الأجساد . [ ص: 141 ]

ولهذا اتفقت الأنبياء والمرسلون على أن وجهة قلوبهم إلى الله وحده لا شريك [له] ، كما قال تعالى : قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين [الأعراف :29] ، وقال تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ، واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء :125] ، وقال تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، تلك أمانيهم ، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة :111 - 112] .

التالي السابق


الخدمات العلمية