الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[و] التفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به، إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الثلاثة الذين تخلفوا وبين نسائهم - حتى تاب الله عليهم - من غير طلاق. والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره، عقوبة له ليمتنع عن الطلاق.

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه كمالك وأحمد - في إحدى الروايتين - حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدا؛ لأنه استعجل ما أحله الله، فعوقب بنقيض قصده. والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بين الزوجين بلا عوض إذا رأيا الزوج متعديا، لما في ذلك من منعه من الظلم، ورفع الضرر عن الزوجة، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة والآثار، وهو مذهب مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد.

والمقصود هنا التنبيه على مآخذ الناس، فالذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون: هذا الأصل الذي عليه الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو أن العقود المحرمة لا تقع لازمة، كالبيع المحرم والنكاح المحرم والكتابة المحرمة. ولهذا أبطلوا نكاح الشغار ونكاح المحلل، وأبطل مالك وأحمد البيع عند النداء يوم الجمعة. ولكن [ ص: 362 ] الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوها لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع. واعتقد طائفة أن لزوم هذا إجماع، لكونهم لم يعلموا فيه خلافا، لاسيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق.

قال المستدلون لهم: أما الشيعة وطائفة من أهل الكلام فيقولون: جامع الثلاث لا يقع به شيء. وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على نقضه، وإنما الكلام هل يلزمه واحدة أو ثلاث، والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن دفعه.

وليس مع من ألزم بالثلاث وجعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب اتباعها، لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع، وإن كان قد احتج بعضهم بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وبعضهم بالقياس، وقد يحتج بعضهم بحجتين أو أكثر. لكن المنازع تبين له أن هذه كلها حجج ضعيفة، وإن كان الكتاب والسنة والاعتبار إنما يدل على عدم اللزوم. وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة من الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرعا لازما، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر ولم تنته الناس عنه، وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة في غير هذا الموضع. والعقوبة إنما تكون لمن علم التحريم وأقدم عليه، وأما من لم يعلم التحريم فلا تجوز عقوبته.

وعامة الآثار المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى الله بإيقاعها جملة، فأما من كان متقيا لله فإن الله يقول: [ ص: 363 ]

ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، فمن لم يعلم التحريم حتى أوقعها، ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى المحرم، فهذا لا يستحق أن يعاقب. وليس في الأدلة الشرعية - الكتاب والسنة والإجماع والقياس - ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين. وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع علمه، وذريعة إلى نكاح التحليل الذي ذمه الله ورسوله.

التالي السابق


الخدمات العلمية